مسرح الظل في حياتنا…شخصيات تركت ظلالها في عقولنا وقلوبنا

إذا أخذ مسرح الظل شكلاً من أشكال التمثيل غير المباشر، فقد كان لهذا المسرح دور مميز في حياتنا أكان منها الجوانب الإيجابية أم السلبية وقد اعتبر النقاد والباحثون أن هذا المسرح أقرب إلى التكامل، فشخوصة بشر تمثل صوتاً، وخيالات تظهر صوراً، كما أن له مكاناً للعرض، وإضاءة تراعي حركة الشخوص.. فضلاً عن جمهور يشاهد لقاء أجر.

فهو على ذلك غير مسرح العرائس المتحركة بخيوط من الأعلى، كما أنه غير مسرح الأراغوز الذي تتحرك شخوصه في قفازات باليد من الأسفل، وفوق هذا وذاك فإن مسرح الظل يعد مبشراً بظهور المسرح عند العرب، ولعل أصل التسمية بخيال الظل لغة، إنما هي إضافة مقلوبة أرادوا بها ظل الخيال دلالة على الأصل الذي ينعكس الظل عنه.
وتذهب المصادر إلى إرجاع فن الظل إلى بلاد جنوب مشرق القارة الآسيوية وخاصة الهند وسيلان والصين. وقد عرف العرب فن الظل في العصر الوسيط بوساطة المغول والسلاجقة إبان القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، بانتقاله إلى البلاد العربية عبر بلاد فارس والأناضول واستقر به الأمر في القاهرة فازدهر وانتشر في بلاد العرب.
أما ما كان من صلة الأتراك بهذا المسرح، فقد رجح ابن إياس أن معرفة الأتراك لمسرح الظل كانت بطريق العرب. فبعد أن اجتاح العثمانيون بلاد الشام وانتزعوها من المماليك إثر موقعة مرج دابق قرب حلب، لاحقوا فلول المماليك إلى مصر، وانتصروا عليهم (المماليك) وقبضوا على الحاكم المملوكي طومان باي وشنقوه على باب زوبلة بالقاهرة.
وفي المساء احتفل السلطان العثماني بانتصاره على المماليك، فمثل له المخايلون هذه الموقعة، بما فيها شنق طومان باي، أعجب السلطان العثماني بذلك، وأخذ معه إلى اسطنبول، فيما أخذ من أرباب الصنائع والحرفيين، عدداً من المخايلين، فكان عليهم الإقبال في اسطنبول كبيراً.. وما لبث أن راج فن المخايلة في اسطنبول، وأصبحت له تقاليد وأسلوبية خاصة في العروض.
وبعد أن دانت البلاد العربية للسلطة العثمانية، وحدثت قفزة نوعية في معرفة الأتراك بفن الظل، أكان ذلك في النصوص والأزياء أم في شخوص الظل التركية نفسها، كان لذلك تأثير واضح في فن الظل في بلادنا.
وإذا كانت الفصول (البابات) التي عرفت في بلادنا لا تخفي استعارتها لشخص كركوز وعيواظ وشخوص أخرى كالمدلل وبكري مصطفى.. فإن أغلب النصوص التي عرفها مسرح الظل العثماني ما لبثت أن تبدلت بنصوص استمدت مادتها من البيئة المحلية والأحداث المعيشة.
وهذا لم يمنع إبقاء علاقة التوءمة بين شخصي كركوز وعيواظ في الأعمال المحلية التي بقيت تعالج عقد البابات (الفصول) بأسلوب الضرب والفشورة المعروفة في المسرح الظلي العثماني.
دور مسرح الظل
في الحياة الاجتماعية
إذا كان لمسرح الظل كيانه المستقل في التأليف والأداء، فقد كان له دور فاعل في الحياة العامة، قبل أن يعرف الناس وسائل الإعلام المسموعية والمقروءة، الأمر الذي يفسر امتزاج هذا المسرح امتزاجاً كاملاً بوجدان الشعب، فيعيش تقاليده ومناسباته الاجتماعية وحتى الوطنية… حتى لكأنه يقوم بوظيفة المرآة التي يرى فيها الناس مناقبهم وعيوبهم أو نقائصهم…
وإذا كان هذا المسرح يعتمد أسلوب المبالغة في إبراز العيوب، أكان ذلك في التناسق في رسم الشخصية التي تشارك في البابة (الفصل) أم في الدور المسند إليها… فقد كان الهدف من ذلك الوصول إلى الجمهور بالنقد والتوجيه بأسلوب موازنة غير مباشرة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في حياة الناس.
شخوص مسرح الظل وأشكال ظهورها
إذا كان من الممكن القول بعدم إمكان الحكم على ما يقدمه مسرح الظل من خلال قراءة النصوص فحسب. فإن هذا المسرح لم يكن مجرد نص فقط… إنه بالإضافة إلى ذلك مجموعة من العناصر المتشاركة لعل أهمها الرسوم المعبرة للشخوص وقسماتها وأزياؤها، وكذلك حركة هذه الشخوص وأشكال ظهورها على الشاشة، وتفاعل ذلك مع الحوار… وتصعيد ذلك التفاعل مع متطلبات الموقف ومدى تفاعل المتفرجين… وبالطبع فإن ذلك يرتبط ببراعة المخايل (الكركوزاتي) وسرعة بديهته وخفة يده ورشاقتها في الحركة.
الكركوزاتي
فالكركوزاتي (المخايل) والحال هذه، هو من يقوم بتحريك الشخوص من وراء الشاشة، ويحكي على لسانها ما يتطلبه الحوار، مع الحفاظ على لغوة ولكنة كل من هذه الشخوص بالفاً ما بلغ عددها في البابة (الفصل) التي يقدمها. وخاصة إذا كانت نشأة المخايل في البيئة الشعبية. لأن هذه النشأة تساعده على القيام بعكس حياة الناس الإيجابي منها والسلبي، فتراه يفلسف في عروضه حياة الناس وعلاقاتهم، ويصور تجاربهم ومشاعرهم.. وأعجب ما فيه مقدرته على تغيير وتيرة صوته وفقاً لمتطلبات أدوار الشخوص المشاركة في الفصل الذي يقدمه.
وعلى هذا فإن الكركوزاتي عندما يتناول في الفصل الذي يقدمه عينة من المجتمع بالنقد والتجريح أو السخرية.. إنما يقوم بذلك وصولاً إلى استخلاص العظة المطلوبة على شكل حوار بين الشخوص، وقد يشارك المتفرجين في ذلك.
وقد يخرج الكركوزاتي عن مضمون الفصل الذي يقدمه ليشارك الناس في حياتهم اليومية وما يحل بهم من أحداث أو ما يسعدهم من أمور.
حتى لكأن الكركوزاتي في تلك الأيام يقوم بدور الصحافة في أيامنا للوقوف على كل كبيرة وصغيرة يعيشها الناس فيتناول ذلك بالعرض والمعالجة والتحليل بل النقد والتجريح لاستخلاص العبر لذلك كان على الكركوزاتي أن يكتب على نفسه تعهداً بعدم التعرض للسلطة من قريب أو بعيد حتى لا يتعرض للعنت أو السجن.
ويحرك الكركوزاتي الشخوص على الشاشة بقضبان يدخل رؤوسها في مركز ثقل الخيال ويكون هذا التحريك وفقاً لمجريات الحوار الذي يؤديه الكركوزاتي على لسان الشخوص. وإذا تطلب أن يكون عدد الشخوص في الفصل خمسة أو ستة شخوص، فإن الكركوزاتي يؤدي أصوات كل من هذه الشخوص مع الحفاظ على لغوة صوت كل من هذه الشخوص في إطار تحركها على الشاشة وهنا تكون براعة الكركوزاتي في تحقيق التوازن بين النص والأداء وحركة الشخوص.
شخوص مسرح الظل
وأشكال نزولها على الشاشة
إذا استطاع الكركوزاتي أن يلبس شخوص الفصل الذي يقدمه الملامح والسمات التي يريد، فقد برع أيضاً في إلباس تلك الشخوص الطباع والنزوات وجعل لكل منها شكلاً خاصاً في ظهورها على الشاشة.
فظهور كركوز يكون طبعاً على وجهه وظهور عيواظ على مقعده وبكري مصطفى مهمهماً متوعداً مهدداً، وظهور المدلل متدلعاً والبنت منفاخة.
وكان كركوز يمثل جميع الشرائح الاجتماعية بما فيهم من طيبة وخبث، فهو تاجر وعامل وحاذق وغبي… وذلك حسبما يقتضيه الفصل المقدم.
وهو في الجميع مصيدة لتوءمة عيواظ الذي كثيراً ما كان يحبك له المقالب فينقلب السحر على الساحر.
أما عيواظ فكان الشخصية المحورية الثانية بعد كركوز، وهو في يتعمد الفصاحة (الفوصحة) فيما يقول حتى أطلق عليه لقب مكلمدان الخيمة.. فضلاً عن ذلك كان عيواظ يتصنع الرزانة والتدبير.
واختص بكري مصطفى الملقب بسبع اسكيدار ولقب أبو الشباب وهو للمشاهدين يمثل الرجل الزكرت.. فهو حاكم خيمة كركوز فضلاً عن ذلك فإنه يمثل الشخص العربيد الجاهل ببواطن الأمور أما المدلل فيمثل الفتى (الولد) المفسود والأزعر الذكي، ويلعب دوراً أساسياً في تلطيف جدية الفصل.
وكان من شخوص مسرح الظل شخص دور «في زادا» ويمثل الصبي المراهق الذي لم تعركه الحياة. وهنا يوقعه في مطبات ومفارقات تكون وبالاً عليه.
ومن تلك الشخوص أيضاً: أبو أركيلة وحاج قريطم وطرمان والبنت…
تعايش الجمهور مع الشخوص
وإذا كان للكركوزاتي أن يسبغ على شخوصه الأوصاف، ويحكي على ألسنتها مستخلصاً العظة المطلوبة، فإنه كثيراً ما يوظف تلك الشخوص لإيصال ما يريد إلى المتفرجين على سبيل الدعابة أو التشهير. وكان لشخصية المدلل شعبية كبيرة في هذا المجال لصغر سنه وخفة روحه وسرعة جوابه. وكثيراً ما كان الكركوزاتي يستغل هذه العاطفة التي يكنها الجمهور للمدلل، فلا يظهر المدلل على الشاشة ليلة أو ليلتين، فيضج عشاق المدلل ويسألون عن سبب غيابه، فيجيبهم الكركوزاتي على لسان أحد الشخوص بأن المدلل مخستك (من الخستخانة وهي المشفى) وهو بحاجة إلى التغذية ليستعيد نشاطه.
وقد يقوم بتأخير ظهور المدلل على الشاشة في الفصل الذي يقدمه فيسأله كركوز عن سبب تأخره فيقول له: والله يا معلمي وأنا جاية لهون (إلى هنا) مريت بطريقي على أبو فلان الحمصناني وأكلت لك صحن فول مدمس بيخلي الواحد ياكل أصابيعه وراه.
وكانت هذه الشهادة للمدلل بالحمصاني سبب ازدحام دكان ذلك الحمصاني.
وختاماً لابد من الإشارة إلى مرافقة جوقة موسيقية لعروض الكركوزاتي. وتتكون هذه الجوقة (تخت موسيقي) من صويت وعواد ورقجي ولاعب قصب (ناياتي وقانونجي). وتعمل هذه الجوقة على راحة الكركوزاتي خلال تقديم الفصل وفي فترة الاستراحة، وقد يقوم الكركوزاتي بالغناء كما قد يسمح الكركوزاتي لأحد الحضور بالغناء على سبيل المعايشة مع الجمهور.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *