مسرحية طرطيف لموليير/د.على خليفة

الشخص المنافق غالبا ما يظهر وجها مزيفا في تعامله مع الناس ويستر وجهه الحقيقي عنهم وما أشبهه بممثل يحرص دائما أمام الناس أن يمارس مهنة التمثيل عليهم بتقمصه شخصية مخالفة لشخصيته الحقيقية
وما أكثر المنافقين في كل عصر وفي كل مجتمع وهم – أو أكثرهم – يجدون من المبررات ما يتطلب منهم ذلك التنكر والتغيير في الشخصية في التعامل مع الناس
وخلال أكثر مقامات بديع الزمان الهمذاني يتنكر بطل المقامات في شخصيات مختلفة ويخفي شخصيته الحقيقية ويعلل هذا بأن طبيعة الزمان الذي يعيش فيه اضطرته لهذا النفاق والتنكر
والأشخاص الواضحون الصادقون لا يستريحون للمنافقين ولا يعذرونهم في نفاقهم مهما كانت الأسباب التي تدعوهم للنفاق
وفي الكتب السماوية نرى تصويرا لأشخاص منافقين وتتبعا لصفاتهم وفي القرآن الكريم سورة عنوانها المنافقون عرضت لصفات المنافقين وهناك آيات قرآنية في سور أخرى تعرضت لهؤلاء المنافقين وكشفت بواطنهم
ويعد الشاعر الأندلسي الكبير يحيي بن الحكم الغزال من أهم الشعراء العرب الذين سخروا من المنافقين وقد وصلتنا مقطوعات شعرية يسخر فيها من بعض أصحاب النفوذ في عصره وقد نالوا ما نالوه من مناصب بالنفاق
ويعد الكاتب المسرحي الكبير موليير أهم كاتب مسرحي – في رأيي – حلل شخصية المنافق في مسرحياته وسخر منها كثيرا ولا شك أن كثرة تعرضه لهذه الشخصية في مسرحياته يدل على انتشارها في مجتمعه خاصة بين طبقة النبلاء ومن يتشبه بها وقد تعرض موليير بسبب تعرضه لهذه الشخصية في العديد من مسرحياته لمحن كثيرة ولولا وقوف الملك لويس الرابع عشر وبعض أصدقائه معه لما استطاع مواصلة نقده لهؤلاء المنافقين من أهل عصره ومن يشبهونهم في كل عصر في مسرحياته ويكفي أن نقول إن مسرحيته طرطيف التي أظهر فيها شخصا منافقا يدعي التدين قد عرضته لهجوم شديد من قبل كثير من رجال الدين في عصره ورفض بعضهم بعد موته أن يدفن في مقابر النصارى وتشفعت زوجته لدى الملك لويس ليدفن حسب الشريعة المسيحية وهذا على الرغم من أن موليير لم يسخر في هذه المسرحية إلا من رجال الدين المنافقين في حين أظهر توقيره لرجال الدين المخلصين
وقبل أن نحلل هذه المسرحية نذكر أن من مسرحيات موليير الأخرى التي هاجم فيها شخصية المنافق مسرحية عدو البشر التي أظهر فيها موليير كثيرا من أهل عصره من النبلاء مصابين بالنفاق فهم يلقون الناس في حضورهم بالثناء والإعجاب فإذا غابوا عنهم صلقوهم بألسنة حداد وكان إلسست شخصا واضحا صريحا في وسط مجتمع مصاب بالنفاق ولم يستطع التواصل معه فقرر هجره ليعيش في الصحراء وحيدا
وفي مسرحية البخيل ظهر فالير متنكرا في هيئة خادم لدى البخيل أرباجون ليتسنى له بذلك القرب من حبيبته ابنة أرباجون والتأثير على أبيها لعله يستجيب لحبه لابنته وينافق فالير أرباجون كثيرا ويعلل هذا بأن أي شخص مهما يكن ذكاؤه ينخدع بتملق المتملقين له
أما مسرحية طرطيف فتحكي عن أرجون المحب لرجال الدين والتدين ولكنه ليس على خبرة قوية بنفوس الناس فيرى شخصا يدعى طرطيف وينخدع بإظهاره التدين والزهد ويظن أن باطنه كظاهره فيأتي به لبيته ويتخذه صديقا ويسمح له بمراقبة كل من في بيته وتوجيههم للفضيلة وتعجب بهذا الشخص أيضا أم أرجون وتراه مثالا للفضيلة في حين ترى كل من في بيت ابنها غير طرطيف وابنها سلوكهم معوجا
وتحاول زوجة أرجون وابنه داميس وابنته ماريان والوصيفة دورين وشقيق زوجته كليانت تعريف أرجون بحقيقة طرطيف وأنه منافق مخادع ولكنه لا يصدقهم بل يعد هذا حسدا منهم لطرطيف ويزيد في قربه منه فيفسخ خطبة ابنته من محب لها هو فالير ويصمم على تزويجها من طرطيف على الرغم من أنه يكبرها بكثير من السنوات
ويرى طرطيف في الفصل الثالث زوجة أرجون ويظن أنها وحدها فيكاشفها بغرامه بها وترده في رفق ويرى داميس هذا الموقف فيصيح راغبا في فضيحة طرطبف ويأتي أرجون ويحكي له ابنه ما حدث وتؤمن زوجة أبيه على كلامه ويدعي طرطيف الخشوع لله مصورا أن ما حدث مؤامرة دبرت له فيهاجم ابنه ويقول له إنه سيحرمه من الميراث ويصمم على أن يكون زواج طرطيف من ابنته في مساء هذا اليوم ويقرر أن يذهب مباشرة ليتنازل بشكل رسمي عن كل ممتلكاته لطرطيف
وفي الفصل الرابع تقول زوجة أرجون لزوجها إنها ستكشف له حقيقة طرطيف كمنافق وستظهر له أنه يعشقها وتطلب إليه أن يختفي تحت مائدة ويتدخل في الوقت المناسب
وتستدعي زوجة أرجون طرطيف وتقول له إنها تبادله حبه لها ولكنها لم تستطع أن تظهر ذلك الحب أمام ابن زوجها ويصدقها طرطيف ويطلب إليها أن تسمح له بلمس جسدها وتقبيلها فتقول له ولكنني أخاف عقاب السماء فيبرر لها بسفسطة أنها غير آثمة في هذا ويطول هذا المشهد ويصرح طرطيف فيه لزوجة أرجون أنه حول زوجها لمغفل يصدقه في كل شيء وهنا يخرج أرجون من مخبئه ويهاجم طرطيف ويقول له اخرج من بيتي أيها المنافق فيرد عليه طرطيف بأن هذا البيت له فقد تنازل عنه وعن كل ثروته له
وفي الفصل الخامس يأتي محضر ويخبر أرجون أنه عليه مغادرة المنزل ليسكنه طرطيف قبل صباح الغد
ويثور أرجون ويخشى أن يكشف طرطيف حقيقة صندوق فيه وثائق سرية ائتمنه عليه صديق له وسلمه لطرطيف بحسن نية ليحافظ عليه
ويبلغ طرطيف السلطات عن هذا الصندوق وما به من وثائق لشخص مغضوب عليه من الدولة ويأتي صديق لأرجون ويقول له عليه أن يهرب بسرعة فقد بلغ عنه وعن الصندوق الذي كان يحتفظ به طرطيف والشرطة في طريقها للقبض عليه وبينما كان أرجون يستعد للهرب يدخل طرطيف ومعه ضابط ويطلب إلى الضابط القبض على أرجون قبل أن يتمكن من الهرب وهنا ينهار أرجون ولكن الضابط يقول بل سنقبض عليك أنت با طرطيف فقد علم الملك لويس بمكرك وبجرائمك السابقة وبخديعتك لأرجون وألغى عقد تنازله لك عن أملاكه وفي الوقت نفسه عفا عن خطأ أرجون بتستره على هذا الخارج عن الدولة لوقفاته السابقة المجيدة مع الدولة وتنتهي المسرحية بتهيئ أرجون لإتمام زواج فالير من ابنته والذهاب للملك لويس لشكره على أفضاله عليه
ولا شك أن نهاية المسرحية فيها عنصر المصادفة وهذا موجود في بعض مسرحيات موليير كمسرحية البخيل ومسرحية دون جوان
وهذه النهاية نرى فيها أيضا إشادة كبيرة من موليير بالملك لويس الرابع عشر ولا شك أن موليير يرمي من وراء هذا الإطراء إلى أن يواصل الملك لويس وقوفه معه في معاركه أمام من ينتقدون مسرحياته خاصة مسرحيته هذه التي توقع أن يهاجم بسببها كثيرا وقد حدث له ما توقعه
واستعان موليير في هذه المسرحيه بوسائل عديدة للإضحاك – نراها في أكثر مسرحياته –
منها الأنماط الكوميدية وأهم نمط كوميدي فيها هو شخصية المنافق طرطيف وقد أجاد موليير رسمه وقد اقتفى أثره في رسمه كثير من الكتاب الذين صوروا شخصية المنافق بعده وعلى الرغم من أن طرطيف يظهر في هذه المسرحية في الفصلين الثالث والرابع والجزء الأخير من الفصل الخامس فقط ولكنه تأثيره قوي على فصول المسرحية كلها وما من شخصيتين – أو أكثر – يتحاوران فيها إلا ويكون أكثر حديثهم عن طرطيف ولهذا سميت المسرحية باسمه – وكذلك سميت مسرحية يوليوس قيصر باسمه مع أنه يقتل في الفصل الثاني منها وتستمر الأحداث بعده للفصل الخامس ولكن تأثيره في باقي الفصول الأخرى قوي ويظهر شبحه لأعدائه فيها –
وقد أظهر موليير طرطيف منافقا واسع الحيلة قديرا على التنكر في مسوح الزهد قوي التأثير على الأشخاص الذين يرغب في خداعهم مجيدا للسفسطة في الدفاع عن ما يدعو له من أشياء تخالف الفضيلة وتتفق مع نزواته ووصفه أيضا على لسان الوصيفة دورين أنه شخص نهم للطعام شهواني
ومن الأنماط الكوميدية الأخرى في هذه المسرحية شخصية أرجون وشخصية أمه فقد أظهرهما موليير فيهما قدر من السذاجة ويسهل خداعهما ممن يدعون الفضيلة وحقيقتهم غير ذلك وهما مع ذلك على درجة كبيرة من العناد حتى إن أرجون حين صارح أمه بحقيقة طرطيف لم تصدقه وقالت له راجع نفسك قد تكون وهمت فيما رأيته ويكاد يجن من تكذيب أمه له عن حقيقة طرطيف
وأيضا من الأنماط الكوميدية في هذه المسرحية الوصيفة دورين الجريئة في تعاملها مع سيدها أرجون وتعانده وتستثيره للغضب كثيرا وهذا النمط يوظفه موليير في العديد من مسرحياته مثل مسرحية الحب أحسن طبيب ومسرحية الطبيب رغم أنفه
وكذلك من الأنماط الكوميدية في هذه المسرحية شخصية المحضر الذي يتحدث بلغة رقيقة هادئة ويوحي لمن يسمعه أنه جاء ببشرى طيبة ثم يصدمهم بالمصائب التي يحمل أخبارها
وأيضا من وسائل الكوميديا في هذه المسرحية الحوار الطريف الذي يأتي أحيانا عن طريق المقابلة المضحكة ففي الفصل الأول يسأل أرجون وصيفته عن أخبار بيته فقد كان غائبا عنه فتحدثه عن مرض زوجته ورفضها الطعام فلا يعبأ بهذا ويسأل عن طرطيف فتقول له إنه أكل كثيرا ونام نوما عميقا ويستمر سؤال أرجون عن طرطيف طوال هذا المشهد وإجابة دورين بحديثها عن معاناة زوجة أرجون وهناءة طرطيف ويعلق أرجون على قول دورين في كل مرة بقوله : يا له من رجل وديع
وفي الختام فهذه المسرحية من روائع ملاهي موليير على الرغم من ضعف خاتمتها كما أوضحنا منذ قليل

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *