المسرح العربي: منازعات التأسيس وجدال الهوية

 

السؤال الذي نسعى إلى الإجابة عنه: كيف كانت المؤثرات الأجنبية في بواكير المسرح العربي؟ والهدف من الإجابة عن هذا السؤال النظر في خصوصية النشأة المسرحية العربية والعوامل المؤثرة فيها.
فمن الثابت أن البواكير الأولى للمسرح العربي بدأت في بلاد الشام، في مدينتي بيروت ثم دمشق، ثم انتقلت إلى القاهرة، بالنظر إلى الانفتاح المبكر لأهل الشام ومصر على الثقافة الأوروبية، وسفر العديد من أبنائها إلى أوروبا.
فقد كانت التجربة المسرحية لأبي خليل القباني (1833 – 1903) رائعة ومفارقة، حيث بدأ مسرحه في سوريا عام 1871، مستمدة أفكارها من حكايات ألف ليلة وليلة، التي كانت متداولة بين الناس شفاهة وقراءة، وقد جمع أبو خليل في شخصيته كثيرا من روافد الثقافة العربية على الرغم من أصله التركي، ولكنه كان متقنا للغة العربية وأشعارها، ويجيد الموسيقى، وكان متيما بالأشكال التمثيلية المقدمة في المقاهي والتجمعات الشعبية مثل (الكراكوز)، بجانب أنه شيخ ورع من أسرة متدينة، ويقدم فنه أمام جمهور سوريا المحافظ.
تواكب ذلك مع زيارات الفرق التركية إلى سوريا بين الحين والآخر، وأشهر هذه الفرق فرقة «أرطوغرل بك» وكانت فرقة ذات صيت كبير وتقاليد مسرحية محددة، وإليها تعود الفصول الأرطوغرلية الارتجالية التي ذاعت وقتها، وكانت هذه الفصول تعتمد على الارتجال اعتمادها على الحركة، وكانت فكاهتها تستخدم النكتة وسرعة الخاطر، ولكنها لا تنحدر إلى الإسفاف، لذا كان حريصا على عدم الاصطدام مع جمهوره ثقافيا، واعتمد لذلك على ما يجذبه من موسيقى وغناء وأشعار، فكانت مسرحياته أقرب إلى الأوبريتات منها إلى المسرح التمثيلي، فقد كان مستعدا للتضحية بالفن في مقابل إرضاء جمهوره.
ولا يخفى ما يعكسه هذا الاختيار من هم البحث عن أرضية مشتركة تضمن له نجاح التواصل بينه وبين جمهوره، وهو، عموما، الهدف الجوهري للمسرح. ولعل هذا هو السبب في ضعف الفن المسرحي المقدم عند القباني بالمقارنة مع سابقه مارون نقاش، وهذا عائد إلى عدم اطلاع القباني على المسرح الغربي، لعدم سفره إلى أوروبا من جهة، وجهله باللغات الأوروبية من جهة أخرى، وتأثره الواضح بالميراث المسرحي العربي التقليدي.
على صعيد آخر، فإن النشاط المسرحي ظهر مبكرا في الدولة العثمانية، مع عمليات الإصلاحات الاقتباسية الغربية التي بدأت في عصر السلطان سليم الثالث (1761 ـ 1808) وتطورت في عصر السلطان محمود الثاني (1785ـ 1839)، الذي وسع عملية الإصلاحات في الدولة العثمانية، واقتبس المزيد من الفنون والآداب الغربية من شعر ونثر وغيرهما. بعد تطور العلاقات الغربية العثمانية في عصر السلطانين سليم الثالث ومحمود الثاني، أصبحت إسطنبول العنوان الأنسب لإقامة الكثير من الأجانب، ومن بينهم عدد كبير من الفنانين والأدباء، وفي السنوات الأخيرة لحكم السلطان سليم الثالث بدأت الفنون وأشكال التمتع الغربية تظهر بشكل غزير وسّعَ الفن المسرحي في السنوات الأخيرة للسلطان محمود الثاني ما بين 1826 و1839.
فبدأ الكثير من المسرحيات الغربية، خاصة الفرنسية منها، تُترجم وتعرض باللغة التركية، وكانت هذه المسرحيات تتم وسط دعم إعلامي ودبلوماسي غربي واسع، حتى يتم تقبله من قبل الدولة العثمانية، ومن ثم الشعب العثماني. وفي تلك السنوات قام الفنان الإيطالي غريستينيان بإنشاء أول مسرح مُجهز بالعناصر الفنية المسرحية كافة، من خشبة مسرح ومكان لجلوس الجمهور، وستائر لإغلاق المسرح، والتنقل من مشهد لآخر. واستطاع غريستينيان إنشاء هذا المسرح بعد الحصول على إذن خاص من السلطان محمود الثاني. ومنذ عام 1839، ومن خلال التراجم والاقتباس من المسرح العالمي؛ أنشئت مسارح في مدن: يلدز وإسطنبول ودولمة باغجة وأزمير وبوصا وأضنة وأنقرة، ومع بداية القرن العشرين أقيمت «دار البدائع العثمانية»، وهي معهد للفنون المسرحية عام 1914، تتويجا للجهود المسرحية السابقة، وهو عنصر تغفله الدراسات التأريخية للمسرح العربي، التي تمدّ بصرها إلى التأثيرات الأوروبية مباشرة، سواء من خلال السفر لأوروبا، أو من الفرق الأوروبية، التي قدمت العروض في مدن الشرق، وفي الواقع فإن الجمهور العربي تعرف على المسرح من الفرق التركية التي كانت تزور الشام ومصر وغيرها، بجانب سفر كثير من المثقفين والعرب، والتجار والسياسيين إلى تركيا في زيارات سنوية، ومشاهداتهم هذه العروض، وتأثرهم بها، وبالتالي لم يكن المسرح الغربي غريبا عليهم، بل هو مقبول وموافق عليه من قبل الباب العالي، بما يعنيه من سلطة دينية وسياسية عليا.

رائد المسرح المصري هو محمد عثمان جلال، الذي كتب مسرحيات بالعربية والعامية عامي 1870ـ 1871، وتبعه سليم خليل النقاش اللبناني، الذي كون فرقة مسرحية قدمت أعمالها منذ عام 1876.

إن مختلف الدلائل لم تشر إلى استفادة أبي خليل القباني في سوريا من مارون نقاش في لبنان، وأن كلا منهما كان يعمل بمعزل عن الآخر، أو لم يكن هناك تنسيق بينهما، أو استكمال لجهود بعضهما، وتلك من سمات البدايات الأولى، كلٌ يجتهد في ضوء تكوينه ورغبته في إيجاد مسرح يجذب به الجمهور. على العكس من الرائد الثالث للمسرح العربي ومؤسسه في مصر، وهو يعقوب صنوع (1839 – 1912)، فقد تلقى مرانه المسرحي من خلال عمله مع فرقتين أوروبيتين (فرنسية وإيطالية)، زارتا مصر عام 1870، وقدمتا مسرحيات الكوميديا والأوبريت، وتعرف من خلالهما على النصوص في لغتها الأصلية مثل موليير وشيريدان، ثم كون فرقته الخاصة، وألّف لها مسرحا غنائيا، مع بعض الأغاني الشعبية، ومن ثم راح يضع المسرحيات ويدرب عليها الممثلين ويقوم بإخراجها وإدارتها على المسرح، حتى وصل عددها إلى اثنتين وثلاثين مسرحية، أغلبها تصوير للواقع الاجتماعي الذي كانت تعيشه مصر أيامه، مع انتقاد مظاهر التخلف والمظالم الاجتماعية، وقد اجتذب جمهورا كبيرا، لاعتماده الضحك المتصل مع مناقشة الهموم والمشكلات الاجتماعية، وبراعته في تقديم شخصية الفلاح المصري، واندماجه في أدائها، فهو متميز في أداء الشخصيات المهمشة والباهتة والضعيفة والمظلومة، وإن كان يعاب عليه استخدامه النكات الجنسية واللفظية الفجة، فاختلط معه التهريج والأفكار، وامتزج امتزاجا عضويا بفن المسرح.
وإن كان هناك من الباحثين من يشكك في كون صنوع رائدا للمسرح المصري، مستدلا على ذلك بعشرات الوثائق والأدلة التي عاد إليها في الصحف والمجلات والنشرات الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فلا توجد أي إشارة له من عام 1870 إلى عام 1911، وأن رائد المسرح المصري هو محمد عثمان جلال، الذي كتب مسرحيات بالعربية والعامية عامي 1870ـ 1871، وتبعه سليم خليل النقاش اللبناني، الذي كون فرقة مسرحية قدمت أعمالها منذ عام 1876.
فهناك من الصحف التي تحدثت عن ريادة مارون نقاش للمسرح في مصر، ولم تشر إلى دور صنوع، الذي ينتمي إلى أسرة يهودية، وكان صحافيا شهيرا في مصر، حمل لقب «أبو نظارة «، وأصدر العديد من الصحف الفكاهية، وإن كل ما قيل عن مسرح صنوع كان مصدره مذكراته الشخصية، التي تم التلاعب بها لاحقا بالحذف والزيادة، وكذلك مجاملات أصدقائه من الصحافيين الأجانب والمصريين له. أما ما ينسب إلى صنوع من مسرحيات ولعبات تياترية، فهي ليست من تأليفه، ويحيط بها شك كبير، وإن كل ما نسبه صنوع لنفسه مسرحيا، كان مبالغا فيه، وتم بعد هجرته إلى فرنسا، ورغبته في المفاخرة بأنه رائد المسرح في مصر، مع الجزم بأنه كان كاتبا صحافيا بامتياز، وله صداقات مع أمراء من الأسرة الحاكمة، والثابت أن له علاقة وثيقة بالمحافل الماسونية التي انتشرت في مصر، ودعّمت هجرة اليهود إلى فلسطين، وإقامة وطن قومي لهم، والتعاطف معهم إنسانيا، وفي سبيل ذلك أراد المفاخرة بأنه كيهودي رائد للتحديث والفنون والتقدم في مصر، وأن من كتب عن يعقوب صنوع كان بالاتفاق مع ابنته، وسافر لباريس للحصول على هذه الوثائق منها.
وختاما نقول إنه من الثابت تاريخيا، أن البدايات الأولى لنشأة المسرح العربي، تشير إلى أن وجودها في المدن والعواصم ذات الاتصال المباشر بالغرب، بحكم وجود الأجانب من جهة، ووجود فرق مسرحية أجنبية من جهة أخرى، ومع ذلك، نشأ المسرح العربي بشكله الأوروبي، ساعيا إلى ترسيخ ذاته ثقافيا، وفي الذائقة العربية، وهو ما جذب الكثير من الجمهور إليه. وقد عمل المسرحيون العرب المؤسسون على تحقيق نوع من المواءمة بين هذا الفن الدخيل، وما اعتبر مميزات الذوق العربي، من خلال إدخال تعديلات على هذا الفن تبعده، في كثير من الأحيان، عن نتاجاته التي ستتلاءم، مع ميول الجماهير العربية وأذواقها.

 مصطفى عطية جمعة

كاتب مصري

Home

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش