نتاجات ابداعية: ألف وجه لألف عام – «قطة على سطح من الصفيح الساخن» لتنيسي ويليامز: مجتمع الكذب /إبراهيم العريس

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

هي مسرحية عن الكذب. ومهما تنوع موضوعها واختلفت تحليلات النقاد لها، يبقى الكذب موضوعها الأساس: الكذب في المجتمع والكذب داخل العائلات، الكذب سواء كان مباشراً عبر قول ما ليس حقيقياً، أو غير مباشر عبر السكوت عما كان يجب قوله في لحظة معينة. وانطلاقاً من هذا الموضوع الأساس يمكن بعد ذلك البحث في ثنايا «قطة على سطح من الصفيح الساخن» (كما ترجم الاسم دائماً الى العربية)، عن مواضيع أخرى، مثل الفوارق الاجتماعية والتسول والنفاق، وحزن المرء حين يجمع ثروته ثم تنتهي حياته وهو عارف أن معظم الذين سيتقاسمون هذه الثروة لا يستحقونها ولم يبذلوا أي جهد يجعلها جديرة بهم.

هذه المسرحية كتبها تنيسي ويليامز عام 1955، لتقدم من فورها على إحدى خشبات برودواي، من إخراج إيليا كازان، الذي استعاد بها مجداً كان فقده قبل سنوات بسبب وشايته أمام لجنة السناتور ماكارثي، المطاردة لـ «النشاطات غير الأميركية» – أي للديموقراطيين اليساريين والروزفلتيين والشيوعيين -. ولعل كازان تحمس للمسرحية لمجرد أنها تفضح الكذب، هو الذي حين أراد تبرير وشايته قال إنه لم يكن في وسعه إلا أن يقول «الحقيقة» مهما كانت مرارتها، وإلا فسيكون كاذباً. ونحن نعرف أن هذا الموقف جرّ الى كازان غضب آرثر ميلر.
صحيح أن تنيسي ويليامز كان غاضباً عليه بدوره، لكنه لم يصل الى حد مقاطعته. ومن هنا حين سمح له بإخراج «قطة على سطح من الصفيح الساخن» مكّنه من أن يتنفس الصعداء بعض الشيء.
> طبعاً لا نعني بهذا أن المسرحية، في حد ذاتها، تبرر موقف إيليا كازان. بل هي لا علاقة لها بالأمر لا من قريب ولا من بعيد، ذلك أنها – في نهاية الأمر – عمل آخر كتبه تنيسي ويليامز عن عائلة من جنوب الولايات المتحدة، يحاول أن يتصدى فيها لما كان يعرفه ويعيشه من تناقضات اجتماعية – أخلاقية، ومن كذب مستشرٍ داخل مجتمعات كانت لا تزال مصرة على عيش تقاليد عفّى عليها الدهر، لذلك – من أجل استمرار تلك التقاليد – كان لا بد للكذب من أن يظل مستشرياً. والحال اننا إذا استثنينا شخصيتين أساسيتين في المسرحية، هما شخصيتا «بيغ دادي» و «بيغ ماما»، سنجد كل الشخصيات الأخرى تكذب وتقف خلف الأقنعة، حتى من دون أن يكون هذا حكماً أخلاقياً عليها.
> تدور أحداث المسرحية، إذاً، من خلال حكاية عائلة جنوبية تعيش لحظة تأزم حقيقية في حياتها. وهنا حتى لو كان العجوز الثري «بيغ دادي» هو محور الاهتمام والصراع، فإن المسرحية تركز أساساً على الزوجين ماغي وبريك بوليت. فالزوجة ماغي، الملقبة بـ «القطة» والزوج بريك، يعيشان اليوم حالاً من الشقاق وقد تدهورت علاقتهما تماماً بعد حكاية حب قديمة ربطت بينهما بعقد الزواج. وقد اختار الكاتب تلك العشية ليفجر فيها تدهور تلك العلاقة بين الزوجين، على رغم أنهما هنا في بيت العائلة الكبير، للاحتفال بذكرى ميلاد رب العائلة، أحد أكبر أثرياء ولاية ميسيسيبي والذي ينادى من جانب الجميع بـ «بيغ دادي».
ان بيغ دادي هذا، يحتفل وسط أهله الحاضرين بهذه الذكرى، سعيداً متباهياً بما حقق، عملياً وإنسانياً، طوال سنوات حياته، غير أن الذي لا يعرفه هذا العجوز المحتفى به، هو أن عيد ميلاده هذا سيكون الأخير، ذلك أن الأطباء شخصوا حالته الصحية بالمتدهورة، مؤكدين أنه لن يعيش سوى شهور قليلة. هذه الحقيقة، التي يعرفها الجميع، ما عدا بيغ دادي وزوجته، تآمر الأطباء مع العائلة لإخفائها عن هذين.
غير أن ما يجدر بنا ملاحظته منذ الفصل الأول هو أن المرح الذي يبديه بقية أفراد العائلة، ليس مصطنعاً من أجل إيهام سيد العائلة وزوجته بأنه في أحسن حال، بل هو مرح حقيقي يعيشه هؤلاء الأشخاص الذين يحاول كل منهم التقرب، هنا، من المحتضر، فقط بغية الحصول على حصة من ثروته الهائلة. أما بين أفراد العائلة بعضهم بعضاً، فمن الواضح أن المرح الظاهر يخفي قدراً كبيراً من الأحقاد والكراهية.
والحقيقة أن هذين يتجليان خصوصاً بين ماغي وبريك. فنحن وفي شكل تدريجي ندرك ان خلف قناع نجاح هذا الثنائي في السير بالحياة المشتركة بهدوء ودعة حتى اليوم، جراحاً عميقة، تجعل السعادة قناعاً شديد الهشاشة سرعان ما يختفي مع أول تفرس دقيق. ذلك أننا سرعان ما سندرك، أن ماغي، الحسناء وذات الحيوية التي لا تنكر، إنما تزوجت بريك المولع بكرة القدم، لمجرد أن تهرب من بؤس عائلتها وضِعَتِها على الصعيد الاجتماعي. هي، حتى من دون أن تدرك هذا الأمر في البداية، كانت ترغب في العيش الرغيد بعيداً من ذل طفولتها، أكثر مما كانت ترغب في الحصول على زوج تعيش معه حكاية غرام طويلة.
ويبدو أن بريك، الزوج، بعد مرحلة أولى خيل إليه فيها أنه، حقاً، يحب تلك الفتاة التي «رمت نفسها في طريقه» كما سيفهمنا ذات لحظة، أدرك أنه لم يكن يحبها حقاً. بل أدهى من هذا: كان يفضل عليها في أعماقه صديقه سكيبر، الذي أنهى حياته قبل فترة من أحداث المسرحية، انتحاراً. ان تنيسي ويليامز، يوحي لنا مرات عدة في حوارات المسرحية وأجوائها بأن علاقة «مثلية» كانت تقوم بين بريك وسكيبر، ناسباً الى هذه العلاقة بعض أسباب الفتور بين بريك وماغي، غير أن هذا لا يبدو واضحاً تماماً في المسرحية، بصياغتها الأولى على الأقل، لكنه يتضح من خلال ردود ماغي ومواقفها، التي آثرت في تلك السهرة أن تبدأ التعبير وبقوة عن فشل حياتها الزوجية محاولة العثور على الأسباب في أي مكان يلوح لها.
> هذا هو، في اختصار الجو الذي وضع فيه تنيسي ويليامز شخصياته خلال تلك السهرة، جاعلاً كل واحدة من هذه الشخصيات – وبطريقة سيبرع إدوارد آلبي في محاكاتها في مسرحيته «من يخاف فرجينيا وولف؟» – تستخدم اللغة وعنفها للتعبير عن عنف داخلي وعن رعب أمام حياة، قد يكون رد فعل بريك إزاءها، صاحب المنطق الأفضل. فبريك، لا يكف عن إبداء احتقاره لكل ما هو مادي في الحياة. والكلمة المفتاح التي لا تكف عن الورود على لسانه لاختصار ذلك كله، إنما هي كلمة «تسول».
وهذا التسول هو ما يدينه، رابطاً إياه برغبة الأفراد في الحصول على ما لا يريدون بذل أي جهد للحصول عليه. المال غالباً، ولكن أشياء عدة أخرى. ان بريك، ومن خلال تنيسي ويليامز، يرى أن ممارسة التسول، وما تستدعيه من كذب وتكاذب دائمين، هي الممارسة الأساس التي بدأت تنخر المجتمع الأميركي الجنوبي، الذي صار عجوزاً، مثل كل أسياده. إنه مجتمع ينهار – بكل قيمه سواء أعجبتنا هذه القيم أو لم تعجبنا – أمام زحف القيم والأفكار والأخلاق المركانتيلية الجديدة. ولئن كان «بيغ دادي» – الذي لا يدينه ويليامز بأي حال من الأحوال – يمثل تلك القيم، فإن بقية أفراد الأسرة، ولجوءهم في كل لحظة الى الكذب والنفاق إنما هو صورة العالم الجديد. أما بريك فإنه حلقة الانتقال بين العالمين. ومن هنا نراه لا مبالياً، منهاراً، فاضحاً مفضوحاً طوال الوقت.
> أشرنا في السطور السابقة الى وجود أكثر من صياغة لهذه المسرحية. وهو أمر تم تحت إشراف الكاتب نفسه، حيث ان الصيغة التي قدمت في لندن آخر سنوات الخمسين، بدت مختلفة عن الصيغة التي قدمها إيليا كازان عام 1955. أما الفيلم الذي اقتبسه ريتشارد بروكس عن المسرحية نفسها عام 1958، من بطولة إليزابيث تايلور وبول نيومان فقد جاء أعنف من تينك الصيغتين. علماً أن ثمة الآن تقديماً لـ «قطة على سطح من الصفيح الساخن» في برودواي يبقي للعائلة جنوبيتها، لكنه يجعلها عائلة سوداء.
> ويعتبر كاتب المسرحية تنيسي ويليامز (1911 – 1983)، واحداً من كبار كتاب المسرح الواقعي في الولايات المتحدة الأميركية. لا سيما بين الكتاب الجنوبيين، هو الذي عبر في العدد الأكبر من مسرحياته عن مواضيع ومناطق من الجنوب. ونعرف أن عدداً لا بأس به من مسرحيات ويليامز، قد نقل الى السينما، كما أنه كتب للسينما مباشرة بعض الأعمال. ومن أشهر مسرحيات الكاتب الى جانب ما ذكرنا: «عربة اسمها الرغبة»، «فجأة في الصيف الماضي»، «عصفور الشباب الجميل» و «الحيوانات الزجاجية».

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *