المسرح والتسامح

‘‏كوكب الأرض لن يكون مكانا آمنا حتي يتحول كله إلي مدينة حرة‏,‏ ويصير الإنسان ـ بعد اكتمال تحضره في النهاية ـ مواطنا عالميا‏’..‏

لأربعة قرون قبل الميلاد حلم أرسطو بعالم حر يسكنه مواطنون أحرار متساوون أمام العالم وأمام أنفسهم. لقد كان أرسطو كأي مواطن إغريقي حر ـ كما يقول آي إف ستون ـ يعتقد أن الفضيلة الأساسية للإنسان هي قدرته علي التمييز بين الصواب والخطأ, وهي الفضيلة التي تمنحه التقدير الكافي لحقوق الآخرين, باعتبار أن للآخرين الحق نفسه في التمييز بين الصواب والخطأ علي طريقتهم.

لم تكن مصادفة إذن أن يكون المسرح اختراعا أثينيا, ففي أثينا كانت المدينة تتسامح مع كل الأفكار, وتتسامح مع كل الآلهة التي كان يعبدها مواطنوها أو هؤلاء الذين كانوا يمرون عليها بين الحين والآخر. حتي أن محاكمة سقراط’ علي أفكاره’ لم تكن محاكمة إقصاء لأفكار تتعارض مع الأفكار المستقرة في المدينة بقدر ما كانت إقصاء لأفكار قد تقضي علي تسامح المدينة مع الآخر. لقد كان سقراط كأي أصولي مخلص يرفض الديمقراطية من أساسها ويري في سيادة الشعب وحرية المواطنين فوضي يجب توقيفها. بل إننا نستطيع أن نمد خيط الفكرة علي امتدادها لنقول إن اضطهاد المسيحية في أثينا لم يكن رغبة في قمع أفكار جديدة وإنما كان رغبة في قمع فكرة قد يؤدي انتشارها إلي قمع تسامح المدينة مع كل الأفكار. بدليل أن أثينا نفسها فتحت أبوابها مرحبة ببولس الرسول باعتباره داعية لفكرة جديدة لكنها توقفت عن هذا الترحيب فور أن قرر المسيحيون أن فكرتهم هي الفكرة الوحيدة الصحيحة وكل ما عداها باطل. لقد كانت اسثناءات القمع والإقصاء إذن في تاريخ المدينة الحرة تهدف إلي حماية الديمقراطية والتسامح لا انقطاعا في مسارهما.
قد تكون هذه مقدمة طويلة نوعا ما, ولكنها مهمة كي نفهم, ليس فحسب كيف ـ ولماذا ـ كان المسرح اختراع المدينة الأثينية, ولكن لكي نفهم أيضا أنه ـ علي عكس السير الشعبية العربية التي كانت تمجد الفرد وتمدح بطولاته ـ كان ـ أي المسرح ـ يشتغل علي أخطاء البشر وليس علي بطولاتهم, ومن ثم فإنهم كانوا يظهرون دائما كأشخاص فانين, ومن ثم فإن أفكارهم ليست الأفكار الوحيدة الصحيحة, بل إننا يمكن أن نقول إن المسرح الأغريقي هو دراما غياب الحقيقة لا حضورها. مسرحية أوديب الأشهر علي الإطلاق هي دراما شخص نبيل يفتقد لمعرفة أصله ولمعرفة أنه لا يمكنه تجاهل القدر, ولمعرفة أن فكرته عن العالم لا دليل علي كونها الفكرة الصحيحة الوحيدة.
تدفع دراسة المسرح ـ بحسب هذه الرؤية ـ باتجاه تفهم الآخر, والمختلف, والتسامح مع وجوده, مع الاحتفاظ بقدر الاختلاف الذي يتحدد وفق تعارض الأفكار والدوافع. كثير من شخصيات المسرح, حتي تلك التي توسم بأنها شريرة, تطرح نفسها في المسرح باعتبارها شخصيات شريرة ولكن مفهومة الدوافع. الشيطان نفسه يمكن قبوله كشخصية موغلة في الكبرياء ويمكن تفهم دافعه وأسباب اندفاعه في إغضاب الله. لا أحد يندفع في الشر ولا في الخير لدوافع تخص الشر والخير في حد ذاتهما, الاندفاع في الشر أو الخير يستند بالأساس علي أرضية واقعية, علي أرضية المصالح أو الأفكار المسبقة, علي الاستسلام للظروف أو الإرث أو علي الاحتياج أو علي مشاعر مكبوتة أو علي كل ذلك معا. وعليه فإن الدراما تدفع باتجاه الخلاف مع الآخر مع قبوله باعتباره مفهوما.
في الحياة قد نكره بعض الأشخاص, ونرفض وجودهم, وقد تتطور الأمور إلي الرغبة المكبوتة أو غير المكبوتة في تصفيتهم, جسديا أو معنويا, إذا ما أفرطنا في العقائدية, دينيا أو قوميا أو عنصريا. لكننا في الدراما سوف نتفهم أنهم لم يكونوا سيئين علي النحو الذي ظنناه, أو أنهم لم يقصدوا إيذاءنا, أو أنهم لم يتفهموا مواقفنا ودوافعها, الحوار يفكك مشاعرنا نحوها, يضعها في نصابها الصحيح. قد نكره عطيل لأنه قتل ديدمونة الجميلة في فورة غيرة غير مبررة, ولكننا سوف نعذره لأنه لم يكن يعرف أن ديدمونة الجميلة لم تخنه, فقد كانت معلوماتنا تنقصه. وقد نكره ياجو لأنه حرك الأحداث باتجاه ارتكاب جريمة قتل, لكننا سوف نتفهم دوافعه, سوف نكتشف أنه ليس الشرير الذي كنا نظنه, فعلي الأقل سوف نفهم أن الظروف لم تخدم طموحاته, وأنه واقع تحت تأثير ضيق أفق رهيب. سوف نرفضه, ولكن بدرجة أقل, لأننا تفهمنا دوافعه ولأننا تفهمنا أنه كان يمكن أن يكون شخصا ألطف لو أننا عدلنا من وضعه في خريطة البندقية.
تمكننا الدراما بعامة والمسرح بشكل خاص من تفهم الآخر ومن ثم التسامح معه, لهذا فإن عددا كبيرا من دارسي الدراما والمشتغلين بها وحتي مدمني مشاهدتها ينحون نحو التسامح وقبول الآخر لأنهم بالأساس تفهموا دوافع شخصياتهم. توفر الدراما والمسرح بخاصة أرضية عظيمة للتفهم وللتسامح, لهذا لن تجد من بين هؤلاء من يستبعد الآخر والمختلف علي أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الجنس, قد يرفض التعامل معه وقد يحتفظ بمسافة آمنة منه ولكنه أبدا لن يعتبر نفسه متمايزا عنه, لن يقع في خطأ التفكير في الآخر باعتباره أدني, ولن يخلق أسطورة لجنسه أو لدينه أو لعرقه باعتبارها أرقي وأكثر خيرا. لن يعتبر نفسه في صف الأخيار والمختارين دائما ولن يعتبر الآخر في صف الأشرار والمغضوب عليهم دائما.
علي المشتغلين في المسرح معرفة أنهم بينما يسلون جمهورهم ويمتعونهم ويخاطبون عقولهم فإنهم يفككون أساطير تمايزهم, فقط إذا ما أحسنوا صياغة شخصياتهم وأحسنوا كشف غموضها وأسرارها.

 

 

 

 

http://www.ahram.org.eg

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *