المسرح مرآة الحرب والدمار والشتات الإنساني / شريف الشافعي

العرض الليبي الذي حمل عنوان “زيارة ذات مساء” يعكس صورة دامية للواقع الليبي الراهن الذي دمرته الحرب والنزاعات والصراعات، فأصبح مسرحا كبيرا للشتات الإنساني.

تتعدد الأشكال التجريبية التي ترسم مسارات النهضة المسرحية العربية الحالية، وينفرد المسرح دون غيره من الفنون بالقدرة على التناول الحر للقضايا الجادة والحقيقية والشائكة، والتعبير عن قطاعات واسعة من الجماهير العربية، والتفاعل الإيجابي المباشر معها  في آلامها وآمالها، وهذا ما حققته المونودراما الليبية “زيارة ذات مساء” في آخر عروضها بالقاهرة.

من الثيمات المسرحية التي حظيت بتطور خلال الآونة الأخيرة “المونودراما”، القائمة على الأداء الفردي لممثل واحد، وإلى هذا النوع ينتمي العرض المسرحي الليبي الذي قدّمته فرقة المسرح الحر البيضاء على مسرح “الهناجر” بدار الأوبرا المصرية.

يعكس العرض الليبي الذي جاء بعنوان “زيارة ذات مساء”، والذي عرض لجمهور القاهرة في 9 فبراير الجاري، ضمن مهرجانها الدولي للمونودراما، صورة دامية للواقع الليبي الراهن الذي دمرته الحرب والنزاعات والصراعات، فأصبح مسرحا كبيرا للشتات الإنساني.

ففيما يتهم البعض عروض المونودراما بأنها مغرقة في الذاتية والملل، كونها تنبني على أداء فرد واحد يسرد الأحداث طوال المسرحية عن طريق الكلام والحوار والحركة والتعبير الجسدي، فإن مونودراما “زيارة ذات مساء”، من تأليف عبدالعزيز الزني وإخراج وسينوغرافيا أكرم عبدالسميع وتمثيل معتز بلال، جاءت إبحارا في الحالة الليبية الجمعية والهمّ الإنساني المشترك، من خلال طرح فني حيوي مشتعل بالأوجاع والنيران.

تفكيك الموت

هل يمكن أن تتدفق الحيوية البركانية من تربة الموت؟ سؤال أثاره العرض، الذي تكررت فيه مفردة الموت المئات من المرات خلال وقت المسرحية الحافل بالأحداث والاستذكارات المكثفة، التي تبدأ برحلة رجل إلى القبور للبحث عن قبر زوجته، وعندما يصل إليه ينهار حزنا وبكاء على فراقها، ويسترجع ما كان في حياتهما، كما يستدعي المراحل التي مرت بها بلاده، قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها، وصولا إلى الواقع الراهن المأساوي على كل المستويات.

يقترح العرض إمكانية فك شفرات الموت المختلفة والمتنوعة لبلوغ شفرة الحياة المؤجلة، ويتسع الإحساس الشخصي بالألم، والصراع النفسي الداخلي المرير، لاستيعاب الشتات الإنساني الحاكم للمشهد في سائر الأنحاء بعد سنوات من الاقتتال والنزاعات والصراعات، والتفسّخ الاجتماعي وظهور قوى التطرّف والجماعات المتشددة والإرهابية.

المسرحية انحازت لقيمة التسامح الإنساني، لكنها انحازت أكثر لحق الإنسان في الحياة الكريمة والتحرر من أي هيمنة

في ظل هذه الأوضاع الكابوسية المطبقة، يصير للموت أكثر من شكل، وأكثر من وجه وقناع، ومن هذه المسمّيات يصير الموت الأكثر نبلا هو موت التضحية وبذل الروح فداء من أجل الوطن “إنه الموت قبل الموت، الموت مرة واحدة من أجل الحرية والكرامة أفضل من الموت مئة مرة بمذاق الخنوع والاستسلام”.

تحققت في المسرحية سمات المونودراما الدينامية الحديثة، من حيث قدرة الممثل الفرد المتحرك على مواجهة الجمهور وسرد الحوارات المتنوعة بنبرات مختلفة ملائمة للحكي، بما يملأ المسرح ويقنع الحضور بما يقوله أو يصفه.

ساعدت سينوغرافيا أكرم عبدالسميع الممثل معتز بلال على الانفلات من عزلته، فهو مشتبك مع الحدث، قريب من المتلقي، يتحرك في جنبات المسرح، ويبدل الثياب والأقنعة، ويتراقص معتدلا ومقلوبا بالأرجوحة العملاقة التي تتوسط المسرح معلقة بحبال طويلة غليظة.

كسر سيناريو المسرحية التسلسل المنطقي للزمن، فهناك مزج دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل، في اللحظة ذاتها، خلال الحوار والحكي، بما يؤجج الصراع النفسي أكثر، ويجسّد التمزّق الكائن، ويخلط الحقيقة بالخيال، وقد ساعدت الموسيقى والخلفيات الصوتية في نقل مناخ الكارثة الحية (الموت الناطق بكل اللغات)، من خلال أزيز الطائرات وضربات المدافع وطلقات الرصاص وصراخ النساء والأطفال من هول المعارك الدائرة.

أثبت عرض “زيارة ذات مساء” أن المسرح فن جماعي بالضرورة، وإن ارتدى ثوب المونودراما، فالفرد وإن كان هو الراوي العليم، فإنه يحكي عن شعب ووطن، ويخاطب جموعا من البشر يلتفون حول الممثل مركّزين على كل ملامحه وتفاصيله، ويطرح قضايا عامة تمسّ بلاده، والوطن العربي على امتداده، والإنسانية جمعاء على تنوعها.

تغلب العرض على وحدانية الأداء بأساليب عدة، منها الحركة الدائمة، وتقمّص الممثل للشخصيات المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة التي يصورها، وتبديله هيئته وثيابه كثيرا، فضلا عن خفة حركته، وتعامله مع ثوب القماش الأحمر بذكاء، فتارة هو ملبسه، وتارة شرنقته، وتارة يحوله إلى جناحين يطير بهما، وتارة يصارعه كالثور الهائج، وتارة يصير الثوب قيدا أو حبلا يكبّل يديه وقدميه.

التسامح والتحرر

انحازت المسرحية لقيمة التسامح الإنساني، لكنها انحازت أكثر لحق الإنسان في الحياة الكريمة والتحرر من أي هيمنة لا تقي الإنسان من الظلم والانتهاك “إذا صفعك أحدهم على خدك الأيمن، فأعطه الأيسر، هذا الكلام مقدس فعلا، لكن وجهي أكثر قداسة”.

تفاعلت الموسيقى والإيقاعات مع حركة الأحداث ببراعة، فالدفوف والآلات الصاخبة صاحبت الحروب والغارات، والنايات والوتريات صاحبت الأشجان ومشاهد الرهافة الإنسانية والنوستالجيا وذكريات الطفولة الغاربة.

سيناريو المسرحية كسر التسلسل المنطقي للزمن، فهناك مزج دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل، في اللحظة ذاتها

بموازاة التغيّرات المجتمعية عبر الزمن، رسمت المسرحية كذلك مسارا لصراع الأجيال، وطبيعة العلاقة بين الأبناء والآباء والأجداد، الذين جرى التعبير عنهم جميعا من خلال شخصية الممثل الواحد المتنقلة في الزمان والمكان، ومن خلال صورة الأب/ السيد/ الحاكم، ذي الشارب الكث، المعلقة على جانب المسرح، والتي اختبأ الممثل خلفها، وتفاعل معها بصيغ متعددة على مدار العرض.

اتخذ العرض الأبوة المهيمنة والمسيطرة مدخلا لإثارة قضية العدالة، فالحاكم الأبوي يعتقد أنه الآمر الناهي وحده من أجل مصلحة شعبه/ أبنائه، فيما قد تفلت الأمور من يده، ويستشري الظلم والظلام شيئا فشيئا، وتظهر جماعات المصالح والتطرف “عن أي عدل تتحدثون؟ انتهك الظالمون وجه الدولة الجميلة فصارت بركة دماء، ليس فيها إلا الدمار واليأس”.

وأطلق العرض صيحة جريئة في وجه الظلم والكبت، بدعوة صريحة صارخة انتهى بها العرض “فكَ قيدي.. فك قيدي”، إذ لا قيمة للحياة في ظل غياب العدل والحرية، وانتشار السجون والتعذيب، ورسم العرض خارطة الوطن بوصفها الجوهرة الوحيدة الباقية، في حين أن كل الثروات الأخرى هي مجرد “حفنة تراب” زائلة.

_____________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *