عوالم المسرح.. عوالم الواقع المفترض… والحقيقي

للمسرح سحره وللمسرح عوالمه ، وهي في تنوعها تشكل مصدر إبهاره ودهشته. إذ تضم شخصيات وأحداثا ومفاجآت.  للمسرح عتقه  وسكرته كما للخمرة حين تضرب في وجدان المولهين والعاشقين فيطيرون على بسط الرغبة والحنين الى الأنيس والأليف، المسرح عوالم تضم الجمال والعذوبة، وهي تكتنز القسوة والغلظة والبشاعة ايضا

وهنا يكمن التناقض المحير والمغري للجليل الماكر الذي اسمه المسرح، من ينسى اوفيليا في  جنونها المقدس ومن يغض الطرف عن رقة كورديليا ومن لا يتأسى لأحزان أندروماك! ومن لا يمنح الحق لالكترا في الثأر!! وهاملت في حيرته وفي جنونه يدعونا للتأمل، ولير في عبثه وقلة حيلته يفتح ابصارنا على حقيقة الروح الإنسانية، المسرح يضم ويجمع ما بين دفتيه كل تلك المتناقضات والتقاطعات والتضاربات في بناء وتركيب الشخصيات الانسانية، وكما في المسرح هناك في الحياة ذاتها التناقض والتقاطع إلا ان الحياة فيها من الفواجع والمآسي والوقاحة ما يجعلنا نتساءل أين جانبها الآخر حيث الضوء والنقاء والخشية من الخالق سبحانه؟ ماكبث ذلك الدموي الوالع في الدم البريء يفجعنا في شبقه للتاج وريتشارد الثالث في غيه واستبداده يخيفنا اندفاعه الأهوج نحو السلطة. وعم هاملت سادر في ظلمه وتجبره والليدي ماكبث ما زالت تنفث سمها في بلاط الموت الصامت وعيناها تتشهيان صولجان الملك، هذه شخصيات تمتلك من القوة واللهفة والذكاء ما يجعلها حاضرة في كل الأزمنة هل غاب (ياجو) عن جو المأساة في حيلته وفي كرهه وفي مكره… شخصيات تمتلك من الشر ما يجعلها شديدة الجاذبية والإغراء لاسيما للممثلين المقتدرين أصحاب الدربة والخبرة والقارئين لخفايا الحياة وتقلباتها، عوالم الواقع تضم مثل هذه الشخصيات الحية. المتجددة. الحاضرة في كل الأزمنة والتاريخ كما قال ذلك العظيم شكسبير يعيد نفسه. وحين ننظر إلى كلا العالمين. عالم المسرح وشخصياته المتخيلة وعالم الواقع وشخصياته الحقيقية نجد أن عالم المسرح عبر شخصياته المستبدة الطامحة الجشعة الماكرة قد تسيدت وتموضعت على ارض الواقع اليومي، على الرغم من أن هذه الشخصيات الموسومة بالشريرة والمخيفة القادرة حدودها حين تجسد فضاء الخشبة لكنها في الحياة حين تنمو وتنشطر عبر التلاقح مع كل ما هو مفسد وخبيث فإن حدودها حياة الناس وأحلامهم إنها تلتهم مثل آفة كل ما يعترض طريقها.

تحقيقا للهدف الذي تسعى اليه إنها تدوس بقلب غليظ وعقل مظلم كل قيم الخير والجمال وتشوه الفكر وتحرف الحقائق هذه الشخصيات المنفلتة من فضاء المسرح الى فضاء الحياة. تحيل يوم المواطن الى معاناة وكدح ويأس ، وهي اليوم تعيث في ارض الوطن فسادا وقحا لا يجد من يردعه  مثل فيروس سريع الانتشار والعدوى وليس من نهاية لهذا الذي يتكرر ويكبر ويتكرس. فقد إختفى هاملت واكتفى بالصمت والمراقبة. وانكسر لير واختبأ في احضان بهلوله وغيبت في ظلمة السجون كورديليا وأوفيليا وضاعت حقوق اندروماك والكترا وزينب وامتلأت شوارع بغداد وأزقتها ببكاء الطرواديات وأسيرات الطف العاجزات إلا عن ذرف الدموع وتناوب على الوطن المبتلى بالنفائس والثروات واللقى كل من ركب موجة الطريق الى العرش ركضا ..مشيا.. زحفا .. تضاربا ..أو بوسا للحى .. وأصبحت العروض المسرحية تطالعنا كل يوم عبر شاشات الفضائيات التي تناسلت هي الاخرى وصار هؤلاء نجوما سرقوا الأضواء والأموال والحقوق من المعنيين بالمسرح ومن المعنيين باليومي المعاش وما زلنا نتساءل لم يبق ماكبث بصوته المتلون وكذبه المكشوف ويخفت صوت هاملت وهو النبيل صاحب الحق! أهذا الزمن الذي نعيشه ويلفنا والهموم هو الزمن الذي كنا نحلم به؟ أكنا نحلم بياجو وريتشارد الثالث وأبي رغال وأبي جهل؟ ما بالنا نرتضي هؤلاء أمراء وسادة وأولي أمر؟ ألم يعلمنا الفريد جاري أن نتمرد ونحتج؟ ألم يدعونا برخت للثورة والتغيير حين البس المألوف وجه المغرب؟ وأين ذهبت صرخات أرتو حين اعتبر الفنان خالد وقادر على بث صرخات الحياة وعدوى الاشتعال لأجل ضوء الحقيقة؟ جاء منظرو المسرح ومصلحوه بالجديد المبتكر في عالم المسرح ولامسوا الروح الإنسانية وعبروا عنها بطرائق وأساليب متجددة ومدهشة وكما اكتشف العلماء والباحثون أسرار العلوم وتطور الحياة الإنسانية والحفاظ على مسيرة البشر وتواصلهم ،عمل المسرح على بث الروح والقيم في مفاصل الحياة داعيا للتغيير والثورة والتنوير والمتعة البريئة المحفزة ،عقول تبدع وتفكر في خير الآخرين  تسهل حياتهم تجمل أيامهم وتفتح أمامهم ابواب الأمل للآتي من الزمن المجهول ، ما بالنا إذن ونحن نعيش حياة اليباس والخوف والرتابة ما بالنا نرتضي برعب المجهول المفخخ والكاتم والإرهابي، ما بالنا نسلم رقابنا لسكين الفساد والتحلل والزيف ، ألسنا صناع جمال وصناع حياة ألسنا رسل الكلمة وشرفها لأجل حفظ الأصالة وارث المعرفة وكنوز الحضارة ما بالنا نرتضي للمسرح أن يهان ويشوه ولحياتنا أن تفسد وتتعفن ؟ لم نسمح لمكبث وأبي رغال ولريتشارد الثالث ولهولاكو ولهتلر ان يتسيد على مسرحنا ويتربع فوق أرواحنا ونغض الطرف عن نبل هاملت وحلم صورة صلاح القصب ونعزف حين يصمت مزمار تموز وينطوي على أوجاع رؤاه عزيز خيون وتضيع فلسفة الساخر عقيل مهدي، وتركن على رف النسيان صرخة ابي ذر الغفاري، وينزوي في مرارته فاضل خليل وتدفن تعاليم الجميل عوني كرومي وسماحة جعفر السعدي وبركة إبراهيم جلال، ما بالنا نعرض عن استغاثة مسرح الرشيد ذاك الذي توهج ضوؤه من وهج أرواحنا ونتجاهل أنين المسرح الوطني الذي ينوء بحمل الفساد والعبث الذي يعلو هامته ما بالنا نلتف بدثار خوفنا ونصمت عن قول الحق؟ ما بالنا ندعي المعرفة وننظر في ما جاء في كتب الفلسفة والتأريخ والفقه ولا نستطيع أن نطاول قامة الثوار ونقتدي بهم نبكي الحسين (ع) ولا نتعظ  ونعتبر بمأساته فنرفع أصواتنا بكلمة الرفض كما فعل الإمام حين تصدى لجمع القتلة؟ ما بالنا نتبجح وننظر وننشب أظفارنا في أجساد بعضنا بعضا ونتحول بذريعة الخوف والعجز وقلة الحيلة إلى مخبرين سريين وندماء الخليفة الفاسد ومضحكي الوزير المرتشي؟ ما بالنا نفرط بكل ما منحنا الخالق من نعم ؟ المسرح أبو الفنون يحتاج الى سادته وسيداته ليزيحوا الغبار عن معماره ويلمعوا جوهره ويضيئوا قناديل بهائه. انه ينادي ثواره ليرفعوا عنه ما أحاق به من عفن وليعيدوه مدرسة مسائية للتعليم والتنوير والمعرفة والمتعة وأيضا للثورة والاحتجاج ومن المسرح إلى واقع الحياة اليومي الذي نحلم به أمنا رخيا للمواطن فيه كرامته وللوطن فيه سيادته . أحفظوا للمسرح حقوقه واحجزوا شخصياته الشريرة الفاسدة في حدود الخشبة بعيدا عن واقع الحياة وليخرج نبلاء المسرح ليغيروا حياة البشر لما دعت إليه الكتب المقدسة من ان الإنسان هو بنيان الله على الأرض ملعون من هدمه  لان الإنسان هو الباني وهو المعمر وهو الذي يصنع قانون الحياة السوية وليست الحياة المزيفة الضيقة ضيق عقول الفاسدين الذين آن الأوان لرفضهم ونبذهم ، افتحوا أبواب المسرح المدرسة المسائية التي تعلم الإنسان الحكمة والحكمة طريق المعرفة والاختيار .
* كاتبة ومخرجة مسرحية

د. عواطف نعيم*

www.almadapaper.ne

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *