في الحب الرجل والمرأة كلاهما عود طري وهش / منى مرعي

المسرحية اللبنانية “روح روحي” تقدم قراءة أخرى لعلاقة المرأة بالرجل تضيء على الهشاشة البشرية المخبّأة.

يبقى الحب ثيمة لا تنضب من حيث الاشتغالات الكثيرة عليها في أعمال إبداعية وفنية من الشعر إلى المسرح إلى التشكيل والموسيقى والنحت وغيرها، ثيمة تتجدد بمرور الزمن كاشفة أعماق الإنسان الخفية، مفككة أكثر عقده تشابكا اجتماعية كانت أم ثقافية أو سواها. وضمن هذا الاشتغال تقدم المسرحية اللبنانية “روح روحي” قراءة أخرى لعلاقة المرأة بالرجل، قراءة يمكننا اعتبارها إضاءة على الهشاشة البشرية المخبّأة.

 يبدو أن هنالك ارتباطا وثيقا يجمع الممثلة اللبنانية باتريسيا نمّور بنصوص الكاتبة والمخرجة الإيطالية كارلوتا كليريشي. فبعد عام على تقديم عرضها “شخطة شخطتين” للكاتبة نفسها المقتبس عن نص “مبيضي هذا المساء”، تعود نمّور لاقتباس عمل جديدٍ للكاتبة الإيطالية وهو نص “ما يبقى من الحب” معنونةً إياه بـ”روح روحي” وجاعلة من الممثل إيلي متري شريكاً لها في حكاية شخصين يحاولان استعادة حب لم يعد موجودا.

قدمت نمّور عرض “شخطة شخطتين” المونودرامي الذي لاقى استحسانا كبيرا لدى الجمهور في عدة مسارح، وكان آخرها في المهرجان الوطني للمسرح على خشبة مسرح المدينة.

العرض أشبه ببوح حميمي حول امرأة تحاول الإنجاب فتلجأ إلى التلقيح الاصطناعي لترتسم أمام المُشاهد فصولا مؤثرة جدا وطريفة في نفس الوقت تحيل إلى علاقة المرأة مع جسدها ومع فكرة الأمومة ومع الضغوطات التي يمارسها المجتمع ومخاض التلقيح وجنون الهرمونات.

قليلة جدا هي مساحات الكلام التي قاربت موضوعة الإنجاب بهذا الشكل وبهذه الحساسية لأمور النساء التي تمتع بها كل من كارلوتا وباتريسيا.

فتح هذا العرض المجال لسلسلة من حلقات تشارك جماعي كانت تتمّ إثر انتهاء العرض حيث بدا جلياً حاجة كل امرأة أكانت عزباء، متزوجة، ترغب في الإنجاب أم لا ترغب في ذلك، أن تشهد على بوح من هذا النوع.

علاقة متقلبة

أن تطلب المرأة الانفصال أو أن تقول إنها لم تعد تحتمل وضع العلاقة فهذا يعني أنها تمتحن تمسّك الرجل بها
أن تطلب المرأة الانفصال أو أن تقول إنها لم تعد تحتمل وضع العلاقة فهذا يعني أنها تمتحن تمسّك الرجل بها

على النسق ذاته، اشتغلت باتريسيا على نص كليريشي ما قبل الأخير “ما يبقى من الحب” مستحضرة هذه المرة شريكا لها على خشبة مسرح مونو. كما يشي العنوان، هنالك حالة انكسار لصورة الحب الشبق والزهري والذي يتسم بالنهايات السعيدة. تبدأ حكاية كليريشي بانفصال وحبكة العرض مبنية على لقاءين بين حبيبين جمعهما في ما مضى حبٌ شغوف. حملت هاتان الشخصيتان اسم ممثليهما أي باتريسيا وإيلي، مما يضيف شيئا من الحميمية على العرض.

بداية اللقاء بين الشخصيتين انطلقت حين دقت باتريسيا باب منزل إيلي على الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وكان قد مضى عام على انفصالهما، لأنها لم تعد تحتمل الكثير من تفاصيل علاقتهما. ولأنها لم تعد تحتمل، قرّر إيلي الذي أحس بأنها تعيسة أن يختفي من حياتها دون أن يردّ على رسائلها.

بين زيارتين مفاجئتين، الأولى قامت بها باتريسيا إلى منزل إيلي، والثانية زيارة إيلي إلى منزل باتريسيا بعد عام، تتضح معالم العلاقة: رجل يخاف من الارتباط وامرأة تبحث عن الأمان والاستقرار بالرغم من حبها للطيران والجنون والشغف.

على تماس هذه الصفات بنت باتريسيا حواراتٍ كاشفة لكلا الشخصيتين، ضمن تناقل أدوارٍ يبرز ضعف الرجل وهشاشته بقدر ما يظهره عند المرأة.

الإيحاءات بمكنونات كل من باتريسيا وإيلي تجاه بعضهما تمّت دون فائض في الشرح. هي مجرد إشارات وردات أفعال تحيل إلى تعلّق غريب بين حبيب وحبيبته بُني على الخوف، وفي ظل الخوف لا يمكن أن تعيش علاقات الحب.

في الزيارة الأولى أرادت باتريسيا أن تختبر مشاعرها تجاه حبيبها السابق: هل ما زالت تكنّ مشاعر تجاهه أم أنها تستطيع أن تكمل حياتها مع شخصٍ آخر؟ في الزيارة الثانية يعود إيلي ليطلب منها راجيا أن تعود إليه… هذا الرجاء سينقلب إلى ما يشبه الاستحالة.

حب لم يكتمل

"روح روحي" رجل يخاف من الارتباط وامرأة تبحث عن الأمان
“روح روحي” رجل يخاف من الارتباط وامرأة تبحث عن الأمان

ما يميزّ هذه الحكاية ليس نهايتها أو تطوّرها أو حبكتها إنما هذا الاشتغال على تفاصيل البوح التي تمظهر ملامح مشتركة لمخاوف النساء والرجال على حدّ سواء، وتوقعاتهن أو توقعاتهم عندما يكنّ أو يكونون في علاقة ما وردات أفعالهن أو أفعالهم. فبالإضافة إلى حاجتها للشعور بالأمان والاستقرار، تتوقّع باتريسيا أنّ على إيلي أن يتمسّك بالعلاقة، وأن يبذل جهدا حتى لو كانت هي من طلب الانفصال. فأن تطلب المرأة الانفصال أو أن تقول إنها لم تعُد تحتمل وضع العلاقة فهذا يعني أنها تمتحن تمسّك الرجل بها، دون أن ترغب بشكل فعلي في الانفصال، أو هي بذلك تحاول أن تصل إلى هدف معيّن قد يكون بعيدا كل البعد عن الرغبة في الانفصال. لكن إيلي يفهم الأشياء كما هي، فيقرر الابتعاد دون مبررات.

إيلي -كعدد كبير من الرجال- ينتقل إلى الفعل دون أن يفسّر أو يبوح، وحين يبوح في لحظة استثنائية بمخاوفه أو أحاسيسه، يصبح أكثر هشاشةً من عود طريّ، قد تثقله فراشة تقول له بدفء “أحبك”. على مسافة وطيدة من البوح، يقبع أيضا فعل الامتناع عن البوح، في ما يشبه مشهدا مركبا من متناقضين، إذ يكرّس العرض مساحة لكل المواقف والعبارات التي أراد كل من باتريسيا وإيلي أن يعبّران عنها دون أن يتمكّنا من ذلك، فإزاء المشاهد الواقعية التي تجمع إيلي بباتريسيا، هنالك مشاهد أخرى حركية قد يوحي معظمها بعالم بديل.

العالم البديل الذي تؤسس له المسرحية هو عالم التمنّي ومراجعة الذات على الأرجح، أن يقول أو أن يفعل كل من باتريسيا أو إيلي ما يخفيانه، وما يحسان به فعلا،
وليس ما ينبغي أن يُقال أو يُفعل وما حصل في الواقع. فالمسرحية تلعب على هذه المساحة من اللا بوح وتظهيرها بشكل حركي، وإن كانت الكوريغرافيا حافلة بالكليشيهات.

ولكن يبقى التعبير الكلامي في تلك المشاهد على مسافة رمادية من الحسم حول ما جرى لإيلي وباتريسيا، إذ تبقى نهاية العرض خاضعة لتأويلاتٍ متعدّدة. وإن كانت الخيارات الإخراجية التي قام بها بوب مكرزل قد تحتاج لبعض التمتين سيّما في المشاهد الحركية، فيما يُحسب للعرض -بالإضافة إلى النص الذي كان موفقا باللهجة اللبنانية- تلك الملكات التمثيلية لكلا الممثلين، حيث وفّق أداء كل من باتريسيا نمّور وإيلي متري في نقل كل هذه التقلّبات على أوتار حب لم يكتمل.

________________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *