التراث والأسطورة في «المسرح الثالث» و «الإخراج الجدلي» في المغرب

 

 

 

منذ عدة عقود، وسؤال التعامل مع التراث في الإبداع المسرحي يطرح نفسه بحدة، ولاسيما في السياق السوسيوثقافي العربي، ذلك ان اختلاف المنطلقات النظرية جعل المتن التراثي يحضر بصيغ مختلفة وأحيانا متناقضة، هناك مسرحيون جعلوا من استلهام التراث ذريعة للهروب من التموقف من قضايا الحاضر وإشكالاته، ومنهم من جعلوه وسيلة ناجعة للتخلص من سلطة الرقيب في ظل أنظمة استبدادية وقمعية. وفي المقابل، ثمة طائفة من المسرحيين اشتغلوا على التراث برؤية إبداعية متطورة وعميقة، فلم يقعوا في سحر الافتتان به، ولم يجعلوه قناعا فنيا يخفي حقيقة الرؤية والخطاب، وإنما عملوا على إضفاء بُعد تثويري وتقدمي للمتن التراثي، يجسد انصهارا إبداعيا وفكريا واعيا مع قضايا المعيش الاجتماعي والسياسي والفكري للمواطن في هذا البلد أو ذاك.
في هذا الإطار، شكّل سؤال التعامل مع التراث قضية محورية لتجربة «الإخراج الجدلي» و»المسرح الثالث» التي ظهرت في المغرب منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ساعية إلى تأسيس مسرح مغاير. ومما استرعى اهتمام المتتبعين في المغرب ان خصوصية هذه التجربة تكمن في وجود حوار خلاق بين أساس نظري حدد معالمه الأولى الكاتب المسرحي المبدع المسكيني الصغير من خلال مفهوم «المسرح الثالث»، وبين تجسيد عملي ترجمه وتبناه المخرج المسرحي الفنان عبد القادر عبابو، علماً بأن هذا الأخير أدلى بدلوه في الكتابات التنظيرية والنقدية منذ ما يربو على ثلاثة عقود.
يلاحظ عبابو في آخر أوراقه النظرية ان المسرح ككائن تاريخي روحا وشكلا، تأثر بتحولات الأزمنة وتفاعلاتها المعقدة وأثر فيها، وما يزال يتحرك ضمن دينامية ظاهرة التأثير والتأثر التاريخية هذه. ولولا ذلك التفرد في الكينونة الذي أكسب المسرح هويته الإبداعية الخاصة لجاز القول بأن هذا الفن الخالد شبيه بالأسطورة أو على الأقل خلف متألق من شجرتها العتيقة. علة ذلك ان المسرح والأسطورة يشتركان في أشد العناصر وقعا وعجائبية على الناس: التخييل، الحلم، العجائبية. ولعل ذلك هو أساس الافتتان الخارق الذي يأسر كل مقبل على تلقي النصوص والعروض الميثولوجية أو المسرحية على السواء. وربما على هذا الأساس بالذات، ظلت عمليات مسرحة الأسطورة أو استحضارها أو استلهامها أو التعامل معها أو توظيفها جزئيا أو كليا في الكتابة الدرامية أو في بناء النسيج الجمالي للعرض المسرحي، أمرا محمودا لدى الجمهور، وقد يكون أحيانا أكثر إلهابا لأذواق الناس وإمتاعا لهم. إلا ان العلاقة بين المسرح والأسطورة لا يمكن على الإطلاق اعتبارها قدرا محتوما أو زواجا دوغمائيا مؤبدا. وما أكثر التجارب المسرحية عبر التاريخ التي تؤكد هذا الطرح وتؤكد بذلك قوة المسرح وقوة إمكانياته الخارقة في التوالد المطرد والتجدد السرمدي والبقاء شامخا مشرقا في قلب كل الأزمنة والأمكنة تفاعلا مع أهم الظواهر والأحداث في هذه الأزمنة والأمكنة وليس مع الظاهرة الميثولوجية فحسب. ولا عجب في ذلك، لان المسرح لم ينزل آية من السماء أو عبثا بلا هوية، بل جاء حاجة للإنسان من أجل الارتقاء بانواع الإبداع والتمرد على الجاهز من مركبات القواعد والقوالب المهيمنة الموهمة بالخلود والقدرية (مركبات إبداعية، ثقافية، فكرية، سياسية، أيديولوجية، أخلاقية…) تلك المركبات التي ظلت تطوق إبداع البشر وفكره وتكبل طاقاته وأحلامه وطموحه للتحرر والخلق والتطور.
المسرح، إذن، جاء حاملا لجينات الحرية وباحثا عن منابع أخرى وتربات خصيبة تمكنه من التلاقح من أجل الولادة والتغيير المبدع ومقاومة السكونية والثبات في الإبداع والفكر. ومن منطق هذا المنحى التحرري الرافض للقيود والجمود، اهتدينا ـ يقول عبد القادر عبابو ـ في «المسرح الثالث» و»الإخراج الجدلي» إلى فلسفة المنهج الجدلي بصفتها رؤية جمالية فكرية إبداعية تعتمد صراع المتناقضات أداة للتطور، والحركة المبدعة مسارا لتجاوز سكونية القديم المتخلف، ونهج التجديد والتجدد آلية لاقتراح مسرح مخالف في طبيعة مشروعه الجمالي/الإبداعي وموقفه في الزمان والمكان من المنظومات الثقافية والفكرية والجمالية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وإقناع الذات والآخر بان كل شيء في الحياة يتغير ويتطور ولا دوام أو سكون لأي ظاهرة أو شيء أو كائن في الوجود. 
ويضيف المخرج المغربي نفسه قائلا: «المسرح الثالث» و«الإخراج الجدلي» ضمن إطار منطلقهما الفكري ورؤيتهما الجمالية في الإبداع المسرحي ومنهجية تعاملهما مع أبعاد التاريخ والزمان والمكان، اشتغلا على متن الأسطورة مثلها مثل المتون الأخرى كالوقائع التاريخية والسياسية والاجتماعية والنصوص الفلسفية والفكرية وكنوز الحكمة البشرية عبر التاريخ والتراث الشعبي الفني والحكائي والسخروي والغرائبي والجنسي والسحري والشعري والديني والقضائي وأحداث النزاعات الإنسانية على الأرض والسلطة والثروات والمعتقدات.
ان اشتغال في المسرح على التراث أمر شائع وقديم، إلا ان مفترق الاتجاهات في طبيعة هذا الاشتغال يكمن في نوعية الجواب على سؤال الكيف: أي على أي أساس أوتوجه يتم الاشتغال على التراث؟ في تصور المسرح الثالث والإخراج الجدلي، (وقد يكون هذا واردا نسبيا حتى في بعض الاتجاهات المسرحية الحداثية) يبقى تناول التراث في الإبداع المسرحي إما بهدف التغيير والتطوير أو بهدف التكريس والانشداد للماضي والواقع المهيمن. اتجاهان متناقضان ثالثهما اتجاه تهجيني يحاول التوفيق بين الاتجاهين السابقين معلنا نهجه التأصيلي لكنه سرعان ما يصطدم باختيارات الشعوب فيروم توجهاتها.
المنهجية الجدلية في الكتابة الدرامية والإخراج المسرحي، كما يقول عبد القادر عبابو، مكنتنا في واقع الأمر من تجاوز معضلة إشكالية التعامل مع التراث عموما والأسطورة على وجه الخصوص، لأن الثقافة القديمة والأشكال التقليدية في الإبداع تكسب لنفسها هي الأخرى سحرية خاصة بها وجاذبية نسبية تستطيع عبر عمليات تطبيعية معقدة، الخفي منها أكثر من الظاهر، ان تأسر الأفكار والوعي الفردي والجمعي وتوجه الرؤى والمواقف وتنمط الأذواق والسلوكات لدى الناس، وتراكم عبر السنين ترسانات لا يستهان بها من المرجعيات والنصوص والأساليب الإبداعية والتوجهات النظرية والجمالية والفكرية والأيديولوجية والأخلاقية… كل ذلك من أجل ضمان الحماية والاستمرار لنظام القيم الذي ترتبط به. المنهج المسرحي الجدلي وجد نفسه ضمن هذا السياق في مواجهة مباشرة ليس فقط مع تلك التراكمات في حد ذاتها، ولكن مع أثرها المتجذر عميقا في أذواق الناس ووعيهم وسلوكاتهم الطبيعية. وتلك هي المعضلة الكبرى، معضلة وضعت أمام التجربة أسئلة عصية لا يتيسر حل مغالقها إلا بإحداث منظومة إبداعية مناقضة، من المفروض ان تزود بكل ما يلزم من الطاقات البشرية المبدعة القادرة على إنتاج القيم الجمالية والنظرية المجددة المتجددة، وإعداد مختلف الأساليب الفنية والتقنية واللوجيستية الملبية لمستوجبات هذا التوجه الجديد، ومن ثم الانخراط الواثق في معركة المواجهة بين جماليتين: جمالية مسرحية مغايرة صاعدة وأخرى تقليدية آيلة للزوال، معركة المجادلة المسرحية الدياليكتيكية، معركة الاتصال والانفصال، معركة الانتماء والانزياح، معركة التجذير والتغيير، معركة الإرضاء والتخييب، معركة الإسعاد والتبئيس، معركة التلذيذ والتقريف، معركة التهدئة والإزعاج، معركة التفكيك والبناء، معركة وجع المخاض وفرحة الولادة.. ولادة مسرح جديد يشبهنا ويشبه من يشبهنا من المفقرين المستغلين في هذا العالم، مسرح يخصب متعتنا وفرحتنا وأحلامنا ورؤيتنا للوجود والحياة. 
كان اختيار التجربة الثالثية/ الجدلية في مرحلة خطواتها الأولى (منطلق الثمانينات من القرن الماضي) ان تبدأ باختبارعمليتها التجادلية المسرحية على أرضية المرجعيات التاريخية والسوسيوثقافية المميزة لما يدعى في الشعارات المؤدلجة المفروضة بخصوصيات «الأمة العربية». هذا الاختيار مكّن المسكيني الصغير ـ مثلا ـ من تجريب الكتابة الدرامية اشتغالا على بعض متون تلك المرجعيات من الحكاية والأسطورة، واستحضارها جدليا في الزمان والمكان من أجل تفجير مكنوناتها دراميا وصدمها إبداعيا مع تناقضات الواقع ومكوناته العضوية الظاهرة منها والخفية. في كتاباته الدرامية، جعل المسكيني الصغير من الأسطورة أو الحكاية أوأي متن آخر (تاريخي/ اجتماعي/ سياسي/ أيديولوجي..) وسائل درامية لتفجير التناقضات وفضح الشعارات المؤدلجة السالبة لحق الإنسان في حرية التفكير والرأي والقرار والاختيار والتذوق والحياة كما يحلم بها .. ونظرا لكون المسكيني مهووسا بحيوية النسق الجدلي في الكتابة الدرامية، ظل على الدوام متشبثا بفكرة ان الحدث الدرامي لا يبلغ مصداقيته الإبداعية الحقيقية إلا ببناء منظومة صراعية خلاقة ونسج بنية النص على أساس منهجية وحدة وصراع المتناقضات المحركة للأشياء والظواهر شكلا ومضمونا، كل ذلك من أجل زرع دماء الجدة في شرايين تلك البنية وولادة مشروع نص جديد قادر على محاورة انتظارات الناس وأحلامهم بجرأة وإبداعية مغايرتين . الإخراج الجدلي في نفس السياق وباختلاف منهجي بحكم التخصص، اشتغل ومازال على الأسطورة أوالحكاية بوصفهما أنوية ثقافية/فنية حمالة لقيم إنسانية جمالية فكرية تاريخية تستطيع تخصيب إبداعية العرض. يتم اختيار هذه الأنوية حسب نوعية المخزونات القيمية التي تكتنزها والتي من المفروض ان تشكل بعض عناصرها على الأقل محفزات إبداعية لعملية التجادل المسرحي، التجادل في مستوى أول مع مكونات النص الأصلي في أفق توليد بنية نص جديد يسمى في رؤية الإخراج الجدلي بنص العرض، وفي مستوى ثان التجادل مع مجمل مكونات العرض الإخراجية والسينوغرافية، وفي مستوى ثالث المساهمة الإبداعية في تأهيل العرض لامتلاك قوة الانفتاح المبدع على مجادلة الجمهور جماليا/فكريا.
أين تكمن عناصر الاختلاف بين منهجية الاشتغال على الأسطورة في الإخراج الجدلي وبين طرق مناهج أخرى موجودة على ساحة الإبداع الإخراجي؟ ضمن المرتكزات العملية التالية، يقترح عبد القادر عبابو تكثيفا منهجيا لجوهر هذا الاختلاف:
1 ـ عملية اختيار النص الأسطوري المتعامل معه في العرض المسرحي الجدلي عملية جوهرية وفي غاية الدقة حسب طاقة هذا النص الإبداعية المسعفة على التفاعل الجدلي مع رؤية الإخراج:
ـ ان يكون النص حاملا لقيم وحكم إنسانية رفيعة المعاني وتستطيع تخصيب العرض دراميا وجماليا.
ـ ان تكون حمولة النص قابلة للتجادل الدرامي والمسرحي مع رؤية العرض ومع مجمل مكوناته الفكرية والجمالية والثقافية. 
ـ ان تتميز مضامينه وأحداثه وشخوصه بما يلزم من العجائبية القادرة ضمن انساق العرض على صدم وخلخلة متخيل الجمهور. في العرض المسرحي الجدلي لا يتلقى الجمهور الأسطورة كما يعرف تفاصيلها في الواقع، ولكنه قد يكتشفها في بنية جديدة ومضامين جديدة وجمالية جديدة، وقد لا يتعرف عليها ولكنه يجد نفسه في حالة تفاعل خفي مع بعض من شظاياها وهي تجادل مخيلته وأحاسيسه وأذواقه وذاكرته وفكره وأوضاعه. 
2 ـ أهم وظائف الاشتغال على الأسطورة في الإخراج الجدلي:
ـ الوظيفة الثقافية: وهي وظيفة تسعف العرض على الربط الثقافي العميق مع الجمهور، فالإخراج الجدلي يحاول عبر منهجه الإبداعي محاورة ذلك الحضور الثقافي للأسطورة في مخيال الناس وفي سلوكاتهم الثقافية والنفسية وجعله يحاوره أو ربما يصطدم معه ضمن رؤيته للمسرح.
ـ الوظيفة الجمالية: صار على الإخراج الجدلي منذ البدء ان يدرك ان أي نص إبداعي مهما كان جنسه واختلفت طبيعته، فهو بالضرورة ينبني على رؤية جمالية معينة، رؤية تنسج لنفسها أنساقا جمالية خاصة وآليات إبداعية فنية من أجل التخاطب والتواصل مع الناس. ان التأثيرات البشرية عبر التاريخ وحسب سيرورة مختلف الاختيارات وتناقضات المصالح الفردية والجماعية أفرزت مجموعة من التمازجات المعقدة بين الجمال والأيديولوجيا، حتى أصبح يصعب على الأنسان التفريق بين الجمالي والأيديولوجي. 
ـ الوظيفة الفكرية ـ الأيديولوجية: لا وجود لنص ميثولوجي دون حمولة فكرية أيديولوجية، وقد يكون النص الميثولوجي يحكي عن حقائق تاريخية أو تأملات فلسفية أو تجارب بشرية ذات معان حكيمة أو أليمة عن الإنسان أو الطبيعة أو العلاقة بينهما، إلا ان الطابع العجائبي والتخييلي وربما المغرق في الخرافي والغيبي لخطاب الأساطير لا يسعف المتلقي العادي على التعامل العقلاني والمنطقي مع تلك الحقائق والتأملات والتجارب.
ـ الوظيفة التواصلية ـ الجدلية: ان العرض المسرحي الجدلي لا يمكن له ان يتواصل مع الناس دون مجادلتهم حسب ما يختار ولا يمكن له ان يجادل الناس خارج دينامية التواصل معهم حسب ما يريد. يأتي الجمهور إلى العرض المسرحي وهو يحمل ما يحمل من أفكار واعتقادات وقناعات ومواقف وتوجهات وشحنات أو اختلالات عاطفية ونفسية وهموم يومية ومخزونات ذاكراتية واختيارات أوتطبعات ثقافية/ ذوقية/جمالية وعادات اجتماعية بما في ذلك من تفاعلات واختلافات وتناقضات.

الطاهر الطويل

 

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *