التجريب المسرحي وما بعد الحداثة

 رافق التجريب المسرحي، بمفهومه العام، فن المسرح منذ نشأته في الحضارات القديمة؛ فالممثل اليوناني ثيسبس، الذي طور الأناشيد الديثرامبية -تلك التي كان المنشدون في الاحتفالات الدينية الطقسية يمجدون بها الإله ديونيسوس- إلى عرض مسرحي “مونودرامي”، من خلال عربته الجوالة، كان مجرباً.
والشاعر الدرامي أسخيلوس، الذي أضاف ممثلاً ثانياً، وطوّر الفعل الدرامي، كان مجرباً.
وسوفوكليس، الذي أضاف ممثلاً ثالثاً، كان مجرباً، لأنه عمّق عناصر البناء الدرامي، ووسع آفاق العرض المسرحي.
وكان ممثلو “الكوميديا دي لارتي” الإيطاليين مجربين، لأنهم أطلقوا للممثلين حرية الخلق والابتكار، وقدموا أسلوباً جديداً في العرض “الملهاوي”. وكانت طريقة فرقة “الدوق جورج الثاني” المعروف بـ”دوق ساكس مينينغن”، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، طريقةً تجريبيةً في وقتها، لأنها تجاوزت أحلام السابقين حينما حاولت البحث عن حل للتناقض بين المناظر المرسومة، وحركة الممثل الحي داخلها، وألغت فكرة الممثل البطل، أو النجم، تلك الفكرة التي أفسدت مسيرة المسرح الأوروبي، وشوّهته نصاً وعرضاً ما بين منتصف القرن الثاني عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، ووضعت، للمرة الأولى، البطل في مسرحية اليوم في دور ثانوي في مسرحية الغد.
أما التجريب المسرحي، بمفهومه الخاص، فقد تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وارتبط بمفهوم الحداثة، بوصفها فعالية تقترن بالابتكار والتجديد، ونقض المألوف، وكسر المسلمات، وهدم الأنموذج علي صعيد الرؤية والتقنية. وقد عدّ برشت، في محاضرة له بعنوان “في المسرح التجريبي”، ألقاها في أواخر الثلاثينات، أن كل مسرح غير أرسطي هو مسرح تجريبي، بيد أن عدداً من الدارسين الغربيين يرى أن ليلة العاشر من كانون الأول، قبيل انتهاء القرن التاسع عشر بأربعة أعوام، على مسرح “الأوفر” بباريس، كانت ليلة تاريخية، إذ إنها وجهت فوهة المدافع الثقيلة إلى نبض أرسطو، والبناء الذي شيده للدراما، حينما عرض “ألفريد جاري” مسرحية “الملك أوبو”، التي قال عنها الروائي الفرنسي أندريه جيد: “إنها الشيء الخارق للعادة الذي لم يرَ المسرح مثله منذ وقت طويل”، ووصفها الشاعر والكاتب المسرحي الإيرلندي و. ب. ييتس بأنها “علامة تنهي مرحلة كاملة في الفن”. وقد كان هذا العرض بالفعل ثورة مسرحية كبيرة تمخضت عنها الاتجاهات التجريبية في المسرح العالمي، كالتعبيرية، والسريالية، والطليعية.
إذا كان التجريب المسرحي في بدايته قد طال الشكل، فإن سمته الأساسية في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، تجلّت في محاولة الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وفي خلق علاقة مختلفة مع المتلقين، وتوسيع هامشه. وبذلك أخذ التجريب منحى جمالياً فنياً ومنحى أيديولوجياً. وارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح.
وتكشف الدراسات الحديثة أن هذه الحركة توجهت إلى إعادة النظر في موقع الممثل في العملية المسرحية وبشكل أدائه، بل إن بعض تياراتها أراد إلغاء الممثل، بوصفه إنساناً، وعدّه آلةً، أو دميةً خارقةً يتحكم بها المخرج كما يشاء، أو تغييبه وتقليص وجوده في فضاء العرض. وفي ردة فعل لاحقة على ذلك، عاد الممثل ليصبح الوسيط الأول في عملية التواصل مع المتلقي، والعنصر الأساسي في تشكّل العرض المسرحي.
كما حاولت هذه الحركة إعادة النظر في شكل المكان المسرحي، والخروج من العمارة المسرحية التقليدية إلى أماكن أخرى، والاهتمام بموقع المتلقي من العرض، وبالعلاقة بين الخشبة والصالة، والإفادة من التقنيات المتطورة في مجال الصوت والإضاءة، واستخدامهما بمنحى درامي، والتعامل مع النص المسرحي بوصفه محض عنصر من عناصر العرض يمكن العصف به، أو اختزاله، أو تفتيته، أو تحويله من خطاب أدبي إلى خطاب بصري.
لقد شهدت الممارسة المسرحية في النصف الثاني من القرن العشرين تغيرات جذرية رافقت الانتقال من عصر “الحداثة” إلى عصر “ما بعد الحداثة”. وتجلت هذه التغيرات في ظهور مفهوم “المسرح ما بعد الحداثي”، الذي ثار على المسرح الحديث (أو الحداثي) المناهض لمسرح الماضي القريب، في محاولة لتجاوزه وتأسيس قواعده العقلاتية الخاصة، واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته.
من أبرز تيارات “المسرح ما بعد الحداثي” ما اصطلح عليه بـ”المسرح ما بعد الدرامي” (post-dramatic theater)، في منحاه العام، وتفرعاته العديدة مثل “مسرح الهيستيريا الوجودي” الذي أسسه ريتشارد فورمان في حي سوهو بنيويورك، وغايته مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد لإنتاج مسرح تجريبي/ تجريدي يقوم المشاهد فيه بممارسة الاستغراق الذهني وسط هستيريا وجودية تطلقها الصور المتلاحقة، في حين يقف الممثلون مجرد متحدثين خلف إطارات لايصال الافكار!
العرض المسرحي ما بعد الدرامي، شيء يحدث بصورة دائمة من دون نهاية، ويتأرجح دائماً بين الحضور والغياب، وبين الزعزعة والتكريس، ويتبلور في شكل تساؤلات تشكك في كل الحدود والممكنات، بل يهدد الشروط التي يضعها هو نفسه لتحققها وتعريفها. إنه يتحقق في صورة سلسلة من المراوغات القلقة المتقلبة للتعريفات والقواعد، على حد تعبير الناقد الأميركي مايكل فريد، وعدم استقرار أو ثبات المعنى، وفي تدعيم عوامل الاختلاف والتناقض.
من خلال متابعتنا للمسرح العربي، مشاهدةً وقراءةً، خلال ثلاثة عقود، نجد أن العروض التجريبية الناضجة للمخرجين العرب تتركز في عدد محدود من البلدان العربية، التي ظهرت فيها تجارب مهمة حمل بعضها منحى حداثياً، ولامس بعضها الآخر أفق ما بعد الحداثة.
وتجلت مظاهر ذلك التحول في تغيير بنية الخطاب المسرحي التقليدي، وابتكار أشكال ورؤى وتقنيات أدائية جديدة على المسرح العربي، خصوصاً تلك التجارب التي توجهت إلى الإعلاء من سلطة “التلقي” برؤية معاصرة، مجردةً النصوص التي اشتغلت عليها من سياقاتها الأدبية، ومُقْصيةً مبدأ المماثلة، ومحاوِلةً الاقتراب إلى صياغات تشكيلية، بصرية للخطاب المسرحي، وإطلاق العنان للتخييل الحر، والانزياح عن الإطار المرجعي، إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح من نقد الشعر، وإضفاء منحى تركيبي غامض على شبكة العلاقات بين الشخصيات والمَشاهد والثيمات وعناصر التعبير الجسدي، بجعلها تتداخل بعضها مع بعض، بحيث يجد المتلقي نفسه أمام دهشة والالتباس يرغمانه على المشاركة في إنتاج البنية الدلالية للعرض المسرحي، أو تأويله.
 
——————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية  – عواد علي  – الراي 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *