«حسن الصباح» راقصــاً على أسوار «قلعة آلموت» / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

قلعة حصينة، أسوارها عالية وجذورها ثابتة، ذات طبيعة صخرية راسخة؛ بناها مهندس الديكور عمرو عبد الله على خشبة مسرح الجمهورية ليس فقط لإبراز الشكل الظاهرى لهذا المكان الغامض والحصن المنيع، بينما عكست رمزاً فكرياً ونفسياً ضمن أحداث عرض «قلعة آلموت» لفريق الرقص المسرحى الحديث التابع لدار الأوبرا؛ والذى حصل به عبد الله على جائزة أفضل ديكور وإضاءة عن استحقاق، انقسم المسرح إلى مستويين علوى وسفلي، وعلى جوانبه بنيت القلعة من صخور الجرانيت التى دارت فيها أحداث رواية «آلموت» للمؤلف السولفينى فلاديمير بارتول الذى مزج الواقع بالخيال بدقة شديدة فى سرد أحداث الرواية لوصف تاريخ الزعيم الإسماعيلى الأشهر «الحسن الصباح» مؤسس طائفة الحشاشين، لم يتميز بناء الديكور فقط فى تقديم صورة مسرحية متقنة الصنع بينما كان له الفضل الأكبر فى الإيحاء بتفاصيل أفكار هذا الرجل غير المعلنة؛ الثابتة الراسخة فى قلوب وعقول تابعيه حتى أنهم قد يقتلون انفسهم من باب السمع والطاعة فهذه قلعة أصلها ثابت وفرعها ثابت فى السماء..سكانها يحملون فى عقولهم وقلوبهم إيمان لا يهتز وقناعة لا تتزعزع..فضلا عن صعوبة اختراقها من اى طريق!

ساهم فى منح واكتمال أجواء التشويق والرعب شاشة العرض الضخمة التى وضعت فى منتصف أعلى المسرح بين الديكور وصاحبها جالس فى مقدمته من الجهة اليمنى «الحسن الصباح» واضعا لوحة لعبة «الشطرنج» أمامه وكأنه جلس منشغلا بوضع خططه ومراقبة اتباعه عن بعد؛ من خلال هذه الشاشة، التى كانت تبرز كل ما يدور من أحداث على خشبة المسرح؛ فبين الرعب والرقابة الشديدة انت لست وحيدا فى هذا المكان بل هناك من يراقب افعالك وانفاسك لحظة بلحظة؛ والزعيم رجل غامض لا أحد يعلم أين يقطن بهذه القلعة لكن الجميع يهباه ويخشاه دون أن يراه فإذا كنت لا تراه فهو يراك دائما..!

اتباع النبى الجديد..!

«إنه قديس يدرس القرآن طوال النهار ويسن تعالميه.. إنه الأول بعد الله إنه نبى جديد» ..»الفدائى الإسماعيلى مستعد للتضحية بنفسه بشكل أعمى عندما يأمر سيدنا الأعلى».. وهذا ما قد يجعل أحدهم يلقى بنفسه من فوق القلعة فقط بإشارة من يده، تأخذنا رواية فلاديمير بارتول إلى هذا العالم الحصين والغريب، فهو محصن بأفكار ثابته وإيمان لايزعزعه أحد بهذه الطائفة وأغراضها التى خلق الفدائيون من أجلها ليحاربوا أعداء الإسماعيليين وأعداء الله، تسرد الرواية كيف صنع هذا الرجل حصنه المنيع الذى يدخله أتباعه ولا يخرجون منه إلا بالموت نساء كانوا أو رجالا، هم فى عزلة تامة عن العالم الخارجي، وإمعانا فى الغموض الذى لايزال يحيطه فهو لا يراه أحد ولم يعرف معظمهم صورته، كما جاء على لسان أحد ابطال الرواية « سيدنا قديس يدرس القرآن طوال النهار ويصلى ويسن التعاليم لنا والوصايا» ..غير مسموح بالمعرفة إلا بالمتاح منها للجميع وغير مسموح بالأسئلة ولا أحد يتواصل معه سوى المقربين واصحاب الحظ الأكبر أو المصطفين الأخيار، بدقة ومتعة فنية كتب المؤلف السولفينى احداث روايته، ثم قرر المخرج والمصمم مناضل عنتر اللعب على الخطوط العريضة لهذه الأحداث فى عمله الأخير «قلعة آلموت»، العمل الذى يلخص كيفية صناعة الجهادى بالرقص الحديث كما سبق وذكرنا ساهم الديكور فى صنع هذه الحالة من الثبات والرسوخ او الوقوف على ارض صلبة لفكر هذا الرجل الذى لا يكتفى بصنع فدائى فقط، بل هو يصنع إنسانا مؤمنا بفدائيته تبدأ رحلة هذه الصناعة باللعب على القوة الروحية والعقلية ثم البدنية لهؤلاء، فمن غير المسموح لهم الأكل سوى بمواعيد محددة وبإنتهاء هذه المواعيد تنتهى الوجبات، يتعلمون الشعر والرقص والموسيقى للنساء وكأنه يصنع جاريات حسان لمتعته الشخصية ثم يصنع رجال اقوياء البنية والعقيدة ببث افكاره وتعاليمه فى دروس وحصص دينية مستمرة ثم تطبيق ما درسوه وسمعوه حرفيا لأنهم اتباع هذا «النبى» الجديد، وضعنا مناضل بعرضه ضمن هذه الأجواء المشوقة فى لوحات راقصة متتابعه بها جزء من أحداث هذه القلعة الذى يظل صاحبها جالسا فى مخدعه يراقب اتباعه ويعد لأعدائه العدة بوضع خطط الإغتيالات، وكأن هذا العمل وهذا الرجل نموذج مصغر للجماعات الإرهابية والجهادية.

الصباح ورقصة الموت

«لايفنى فى الله من لا يعرف قوة الرقص» هكذا قال جلال الدين الرومى وربما كان من المدهش تقديم وتلخيص حياة وافكار هذا الرجل فى عمل «راقص» لأن الرقص هنا له أكثر من دلالة ليس فقط بما يحمله من تفاصيل وتصميمات وفلسفة تخص الفريق، وإنما حمل ايضا دلالة اعتماد هؤلاء على الشكل الصوفى المتجرد من اى شيء سوى تبعيته لهذا الرجل ثم ظهور الصباح فى وضع راقص وكأنه يرقص رقصة الموت ببث وترسيخ ثقافته داخل الجماعة للدفاع عنها وعن افكارها، فهنا الرقص يحمل معنيين صفاء روحى وجسدى لسلك هؤلاء لعقيدة التصوف فى بداية الطريق وتجريدهم من اى شيء آخر سوى فكره وتبعيته فالرقص يهىء الجسد والروح بالتطهر من القديم لإستقبال وقبول الوضع الجديد؛ الفناء فى الفكرة ثم الفناء فى صاحب هذه الفكرة، فالتصوف عنده يعنى الإصطفاف حوله والإخلاص له، لذلك كان اختيارا موفقا بتقديم عمل راقص يسرد مراحل بناء الصباح لأتباعه بالدين والتصوف ثم تربيتهم على استغلال هذا الفناء الجسدى والفكرى فيه بطاعته طاعة عمياء، فكان يسعى لإعادة تهيئة وتشكيل هؤلاء جسدا وروحا كى يصلوا إلى مرحلة اليقين بدينه، فهو رجل قوى ومحارب صاحب دهاء كبير فى التخطيط لأعدائه، ممسكا بمسبحته طوال الوقت بينما يحوم حوله اتباعه من نساء ورجال ومن يتمرد منهم بإسم الحب كان عقابه الموت، فى تتابع هذه اللوحات قدم الراقصون مشاهد متفرقة لحال هؤلاء التابعين نساء ورجال كما صنعت الملابس على قدر كبير من الوعى والإيحاء بشكل حياة هؤلاء فى تلك الفترة بجانب خضوع التصميم الحركى فى اغلب الوقت إلى حالة من التصوف والتزهد بالحب مع وضع مقطوعات موسيقية صوفية وابتهالات للشيخ سيد النقشبندى كى تكتمل الصورة، فبدا الصباح راقصا على أسوار «قلعة آلموت»..!

فخ الغموض والتكرار

  لكن برغم ما اصبح عليه فريق الرقص الحديث من قوة جسدية ومهارة تقنية فى تقديم عروض شديدة التميز والإبهار إلا أن هذه المرة احتفظوا بقوتهم البدنية وشكل الفريق القوى والتمكن من اداء دراما حركية بحرفة فنية عالية كعادتهم دائما وحصل الفريق على جائزة أفضل تصميم حركى للمخرج مناضل عنتر وسالى أحمد بالمهرجان القومي؛ لكن وقع العمل فى مشكلتين التكرار والغموض، فهناك تكرار لبعض التصميمات الحركية الراقصة تشابهت مع عروض سابقة خاصة «الفيل الأزرق» بإستثناء بعض المشاهد التى كانت تجمع الصباح واتباعه بينما تشابهت المشاهد الثنائية كثيرا مع اعمال أخرى لنفس الفريق فكنا ننتظر رؤية تصميمات جديدة ومبتكرة كما اعتدنا منهم دائما، بجانب غموض احداث الرواية وعدم وضوحها لمن لا يعلم تفاصيل حياة الحسن الصباح التاريخية؛ فمن لم يقرأ الرواية لن يتواصل مع العرض وسيحاول جاهدا فك رموزه إن استطاع، لذلك كان من المهم صناعة كتيب صغير كالذى يتم منحه لجمهور الباليه يشير ويلخص فيه المخرج أفكاره وافكار العمل، خصوصا وهو إلتزم بتقديم لوحات راقصة خالصة من اى عبارات شارحة، لأن العبارات المنطوقة عادة ما تجرد الرقص الحديث من متعته وفلسفته فهذا الفن يتمتع بخصوصية شديدة «الدراما الحركية» اى بناء عمل درامى بإيماءات وحركات فنية متقنة الصنع اتقنها مناضل على مدار اعماله.

«قلعة آلموت»

لم يكن كل هم حسن الصباح فى تنقلاته نشر دعوته وكسب الأنصار فحسب، بل أيضاً العثور على مكان مناسب يحميه من مطاردة السلاجقة ويحوله إلى قاعدة لنشر دعوته وأفكاره، وقد عزف عن المدن لانكشافها، لذا لم يجد أفضل من قلعة أَلَمُوت المنيعة. فهى حصن قديم فوق صخرة عالية وسط الجبال على ارتفاع 2,100 متر (6,900 قدم)، لم يعرف البانى الأساسى للقلعة، ويقال أن من بناها هو أحد ملوك الديلم القدماء واسماها (ألوه أموت) ومعناها «عش النسر»، وشرح يوسف زيدان اسباب تسمية طائفته بالحشاشين فى كتابه «دوامات التدين» مؤكدا ..
«ثار النزاريون بقيادة الحسن الصباح وسيطروا على النواحى المحيطة بقلعتهم الحصينة فتحرك السلاجقة «وزراء ووكلاء الدولة العباسية» لصدهم وهاجموهم وحاصروا قلعتهم حصارا محكما حتى اضطر النزاريون المتحصنون بآلموت إلى أكل الحشيش الذى ينبت فى الأرض كى يبقوا على قيد الحياة ولمواجهة هذا الموقف غير المتكافىء، ابتكر آكلوا حشيش الأرض «الحشاشين» نظام الاغتيالات والعمليات الفدائية؛ فكان أول ضحاياهم هو الوزير الشهير «نظام الملك» الذى قتله فى بلدة نهاوند» فدائى اسماعيلى فارتاع الناس من هذه الجرأة وظن بعضهم أن الصباح أعطى الفدائى مخدرا جعله يقوم بهذه العملية الإستشهادية ومن هنا سميت الجماعة الإسماعيلية النزارية التى يتزعمها الحسن الصباح بالحشاشين وهى تسمية يعتز بها الحشاشين أنفسهم على اعتبار أن المقصود منها ليس المخدرات وإنما حشيش الأرض والنباتات التى اضطروا لأكلها دفاعا عن مذهبهم العقائدى الذى استمسكوا به حتى كادت حيواتهم تفنى»

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *