قوة المسرح

 

من أين تنبع قوة المسرح؟
من احتضان المهرجانات المسرحية العربية والخليجية وما يقام فيها من انعقاد للمؤتمرات الصحفية والإعلامية، ووجود عدد كبير من الضيوف العرب ليتبادلوا الخبرات الموسوعية فيما بينهم؟ أم من عقد الندوات الفكرية المصاحبة للمهرجانات وما تطرحه من أفكار، وتدفع به إلى الباحثين الشباب من مباحث، ونقاشات لقضايا عربية ساخنة، وأوراق بحث نقدية متخصصة، بذل أصحابها جُّل وقتهم في تمحيص الاتجاهات الثقافية، لبلورة خصائصها وأساليب مبتدعيها؟


أم أن القوة الجوهرية للمسرح تتجلى في الحراك المجتمعي الفعّال، والذي تُشكِّل مؤسساته المدنية جوهر فاعليته الصلبة؟ ثمة من يرى أن قوة المسرح تنبع من إثارة الجدل النقدي حول عناصر الخشبة، واستدعائها لوقوف الممثل عليها يتبختر في مشيته، فيصرخ باكيا أو ضاحكا، ليقول كلمة معينة، وفي توقيت محدد يُسجل موقفه المشهدي، ثم يخرج ويتوارى، وبعد غلق الستار نظن أن الممثل قد قال كل شيء، لكنه لم يقل شيئا حقيقيا؛ لما يحتويه مجاز الألفاظ، وطبيعة الأداء الدرامي لجوهر فن التمثيل، وكل شيء حوله من مستويات مكوّنة للمنصة تحمل دلالتها العميقة في توجيهه حيث شاء له الدور؟ ألم يكتب هنري-لوي ليكين قائلا: “روح الممثل أولا، وعقله ثانيا، وصدق الأداء ودفئه ثالثا، والرسم الأنيق للحركة الجسمانية رابعا”، ففن التمثيل كما نستنتجه من هنري-لوي، هو فن وأداء الممثل.
وربما تأتي قوة المسرح من وجود ديكتاتور المنصة والمتعارف عليه بالمخرج. ألا يخضع المخرج ممثليه لتدريبات شاقة، حتى يصل الخلاف بين الطرفين إلى باب مغلق أحيانا؟! فهناك من يعتقد أن المخرج هو سيد المنصة الأول، وطرف مواز يعتقد أن الممثل وجسده وطاقته الحيوية، هو سيد المنصة والعرض معا، وأنه لولاه لما استطاع المخرج أن يشتغل على أحد، ولما كان له وجود أو صيت يُذكر؟
وآراء أخرى تنطلق للتدليل على قوة المسرح وتحصرها في قوة النصّ. أليس النصّ الخام هو مادة العمل ورحيق الدراما؟ ولأن النصّ لا يولد من فراغ، أصبح الاعتقاد بتلازم العلاقة الحتمية بين النص والمؤلف عند أسلافنا حديث المدارس النقدية في زمن من الأزمان. حتى أن فسيفولود مايرخولد كتب مرة يقول: “كان الاتحاد السوفييتي على حق في زمنه المرحلي التاريخي عندما أطلق على الكتّاب الواقعيين الاشتراكيين في العهد السوفييتي بمهندسي الأرواح؟! فالمبدع هو مرآة عصره. فكان غوغول وبوشكين وليمونتوف واسروفسكي الذين أنشأوا الأسس المتينة للمسرح الروسي، هم الناس الأكثر قدرة على تأمل الواقع وما يعتمل فيه من صراعات وتحديات. وهي إشارة جلية تنقلنا إلى جدلية العلاقة التاريخية للمدارس النقدية وصراعها القديم حول قضية المؤلف ونصه، فأيهما أكثر أهمية الكاتب أم النص؟
والسؤال لا تجدد إثارته اليوم من منطلق الدعاية الفجة لتفضي أحدهما على الثاني، بل أن تخوم النصّ المسرحي نفسه، قد أخذت بدورها تتنازل عن الهيبة الكلاسيكية الصارمة، فالتجديد التقني المعاصر الآخذ في التصاعد شيئا فشيئا، لم يعد يستطيع أن يمتلك قدرة الحفاظ على خصائصه ومميزات المؤلف وأزمنته، فقد فرضت التقنية أبعادا جديدة، بدأ ذلك باكتشاف الدائرة الكهربائية، واستيعاب المسرحيين الطليعيين من مؤلفين ومخرجين ودراماتورجيين للجاذبية الساحرة الموجودة في عناصر الضوء الكهربائي، إضافة إلى ذبذبات الطاقة الضوئية التي بواسطتها منحت المخرجين مجالا واسعا لتنفيذ كل ما كان يخطر بمخيلتهم من صور ووضعيات وهيئات سيريالية لجميع الكائنات الحية وغير الحية، ما كان يمكن أن تتصدر الوضعيات المتخيلة، العروض المسرحية في زمن سابق يعود إلى سوفوكل وشكسبير مثلا.
كما دفع اكتشاف الكهرباء، المخرجين المسرحيين أمثال أدولف آبيا، وإدوارد كوردون كريغ، النظر إلى المنصة المسرحية بتكوينات ضوئية فجرت أحاسيسهم المكبوتة، وكانت سببا في انبلاج التجريب، فأخت المنصة تفقد شكلها الكلاسيكي الذي لا يترك مساحة فارغة إلا وعبأها بالمجسمات والديكور، كما اكتسب الممثل وضعية مختلفة غير التي كان عليها. وينطبق التطور على كل عناصر العمل المسرحي الأنيق والرشيق.
قلنا أن تخوم النص المسرحي أخذت تفقد القدرة أمام التقنية، وليس كلامنا عبثا، فبعد الرجوع إلى النصوص المتأخرة في الألفية السابقة، ظهرت نظريات التلقي التي أثرت البحوث والاتجاهات النقدية والمدارس. كان ظهور النظرية إيذانا بتحول النص من قوة المؤلف إلى قوة القارئ، وصار مانفستو الكتابة المسرحية المتأخرة أن يكتب المؤلف ما شاء له الهوى، وأن يتخلى عن المعنى، ويتركه في قلب النص ليكشف القارئ مدلولاته ويبحر في فضاءاته. عند هذه اللحظة يخلع المؤلف قبعته، ويترك الميدان للقارئ، ليوجه النص حسب ثقافته والمنعطف التاريخي الذي يعيشه.
إلى جانب تقدم التقنية ممثلا في السينما التي أكتشفت سنة 1895م أغنت الفنون التشكيلية المسرحيين الطليعيين بالبحث عن تطوير الفضاء المسرحي، وشكل الفضاء اهتماما في الخروج بالعرض المسرحي من القاعة الكلاسيكية إلى تقديم العروض في الأماكن التراثية كالمعابد والقلاع والحصون وفي الساحات المتاحة، وأمدت المدرسة التكعيبية طموحات المخرجين البعيدة بتحطيم البعد الرابع الذي اقترحه برتولد بريخت في المسرح الملحمي.
وفي تقديرنا أن قوة المسرح تنبع من تظافر جميع هذه العناصر: النص والممثل والمنصة والجمهور، وباتصال النقد الأكاديمي بالدرس المسرحي في مراكز التعليم الجامعية، دون الانفصال عن قضايا الشارع.


آمنة الربيع :

http://main.omandaily.om

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *