قراءة نقدية لـ ‘دوران’ إبراهيم الحارثي (2 / 3)

 

 

 

ما قام به الكاتب من قدرة في بث الصورة المكتنزة بالإجابات لعديد الاسئلة التي طرحتها الجوقة او التي تشكلت لدى المتلقي، كان كبيرا حقا يعكس حرفنة في ايجاد الحل المناسب لكل ما مضى حيث وصل بنا الى فكرة مفادها ان الكونيين لا يفنون ولا تموت فيهم الحقيقة وخيرا فعل حينما جعل الجثة تنهض من جديد، وهي تبتسم في نهاية المسرحية، دليل على ان الفرج قادم وان النصر يلوح في الافق بل هو اصبح ملء الشاشة وكل ما كانت تعانيه الجوقة من جفاف وقحط وبؤس وظلم وانزياح ناحية المجهول تبدد كل ذلك بعودة النور وتدفق النهر وشيوع فراشات الحب في دوحة للحب اسمها الحياة. ولم يأت هذا من فراغ بل من خلال تفكيك جدلية الوجود والعدم وجعلها تنحو الاتجاه الواحد لتكون كلمة فصل كما قلنا بان الثورة لا تنام ولا تموت والحق والحقيقة هما الباقيان بعد فناء الباطل ونفض غبار الوهم عن الحقيقة.

منذ الانطلاقة الاولى واعلان ساعة الصفر لمتواليات الحدث المسرحي للنص (دوران) كان لشخصية الجثة نموا ملحوظا بشكل طولي وعرضي استحال في النهاية لصورة احاطت بملء الشاشة تطورت امام اعيننا طوال احداث المسرحية حيث استطاع الكاتب ان يبعد عنها الكتلة الجامدة والتي لا يستساغ للمسرح ان تكون معه وفيه وهي بهذا الثقل الممل حيث جعلها تنبض بالحياة والحركة من خلال حوارات الشخصيات الاخرى وافعالها والتي تجرى مجرى الحدث الرئيسي الذي يحمل هوية الجثة لتعتمر جميع الشخصيات بقبعة المجاهدة لتجعل من نفسها وحسب مقولة (اوبرسفيلد) (العوامل المحركة) التي تقود الحدث لتحقيق هدف يسميه المخرج الروسي ستانسلافسكي (الهدف الأعلى).

للحدث ضرورات واكراهات تسلك مسلكا دراميا تفجر الانفعال وتؤسس لاستطالات عدة تعبر العقد وتبني هياكل ثرة تأخذ بالقارئ الى عوالم لا يمكن الوصول اليها ان كانت بقفزات بليدة بل كانت لحرفية المؤلف اليد الطولي في بعث مكامن القوة لدى القاري في استنباط واستقراء تجريبي لمستقبل الاحداث مع بث روح التوقع من خلال المحاكاة الاحتمالية في نسج قصة بدايتها بيد المؤلف واطرافها بيد القاري قد تتحد بمحاكاة واقعٍ خارجي او تتقاطع مع قابل النص بمحاكاةٍ تصويرية تعتبر طبيعية لاعتبارات عدة مجالها ثقافة المؤلف والقاري وموروثاتهما.

لنخرج بنتيجة ان الحدث لدى المؤلف ابراهيم الحارثي ليس هو كشف المعنى بل انتاج للمعنى بصوره العديدة الواقعية والخيالية يرتقي من خلالها القارئ بنشاط تأويلي يمنحه لقب مؤلف ثاني حيث تتحد بينهما ـ اي الكاتب والقارئ ـ اساسية مهمة ان الكاتب يكتب لقارئ افتراضي والقارئ يقرا لكاتب افتراضي لكن تبقى الممانعة تتلبس افكارهما وبالتالي نجد بعض الميكانزمات اللاتوافقية تنحو بالاثنين احيانا الى الاغتراب.

وما يزيل هذا الاغتراب هو الحدث الدرامي الذي يهز القارئ ويحيزه ناحية ملكوت فكر الكاتب من خلال حوار الشخصيات الشعري منتجا صورة النص الحقيقية بخلق الشخصية التوأم مع القارئ والتي بدورها تخلق الحدث والذي يتفجر اسئلة حوارية على لسان الشخصية المكتوبة على الورق بالاعتماد الكلي على الأمور غير الواقعية: مثل الأحلام واللاشعور والخيال لكنها في النهاية تسير بإطارات واقعية تشع منطقا سليما.

اضافة الى ما سلف ان الحدث لدى الكاتب ابراهيم الحارثي يتشكل بقمتين احداهما اعلى من الاخرى والاعلى تجبر الادنى للتناسل وبالتالي تتضافر القمم الدنيا لديه لتأكيد وجود القمة الاعلى والتي هي موجودة فعلا منذ بداية النص وان لم ينتبه لها القاري او لم يصرح بها الكاتب وهذا ما يحسب للكاتب في قدرته على ادارة دفة الايقاع بنغمية مبهرة.

الزمان والمكان لدى الكاتب يتصفان بالديمومة والتواصل والحرية بالتواجد وفقا لعبارة (منذ وحتى) وكأنه يريد ان يقول ما كتبته هو قصة وجود بأكمله منذ نشأته وحتى خرابه بيئتها كرة ارضية تدور وتدور لا تمل عن الدوران ليعلن بصراحة انها قصة الانسان الكونية.

نهض قلم الكاتب المسرحي ابراهيم الحارثي وهو يطل علينا بنص مسرحي عنوانه “دوران” على فكرة مفادها ان الموت بمسماه الشكلي لا يتحد او حتى يقترب من شيء اسمه الحقيقة لان الحياة حقيقة تجريبية ملموسة كل يوم يتحدث امامنا المئات من البشر عن حياتهم اما الموت لديهم فهو فكرة .. نعم فكرة .. لأنك لم تلمسها بيدك ولم تحيَها ولم يأت احد من الموتى يخبرك كيف مات وبما ان الانسان يتعلق كثيرا بالتجربة والحس فالحقيقة التي بيئتها الدنيا لا يمكن لها ان تموت فهي ثابتة ماثلة لا يمكن ان تُزحزح خارج الوجود والصيرورة والامكان لكنها تحتاج احيانا من يزيح الغبار عنها لأنها موؤدة في المهد دائما وهناك من لا يريد للحقيقة ان تكون حقيقة فتراه يزوقها او يعدمها للتحايل من اجل طمس معالمها لذا تحتاج عقول فذة وسواعد قوية ترفع هذا الاحتيال عنها.

علاوة على ذلك اوجد الكاتب وفقا لهذا السياق الدلالي جزئية غاية في الواقعية ان جميع الحقائق تولد نتيجة لحدث ما بطله افراد او جماعات .. باعتبار ان الحقيقة ليست مجردة من الزمان والمكان والبطل .. وليس لها معنى سوى مسمى فارغ ان لم ترتبط بوجود شيء مادي يصدق وجودها اي انها نتيجة لسبب.

وعودة لحقيقة الكاتب التي يريد ان يثبتها فلسفيا انه بمجرد بزوغ شمس للحقيقة فهناك عوامل ذاتية وخارجية عامة وخاصة اطفأت نورها وهناك من كان بليدا نائما غافلا سارت على جسده كالأفعى دون ان يحفل بها لكن نهوضها من جديد هو عند يقظة هذا الغافل اذن تعتري الحقيقة ميكانزمات خطيرة تمنعها ان تستطيل وتعلن عن نفسها، وما حالنا اليوم الا نتيجة التغافل عن الحقائق وعدم امتلاك الجرأة للتعامل معها او للتحدث عنها ولو من بعيد حتى اصبحت الحقائق خزينا وهاد الغفلة والخول والتميع وتلاشي العقل وادواته وربما ستصبح في يوم من الايام كالبارود الشديد الانفجار تأتي عليه ازمنة تتقاذفه وتفقده اثره التفجيري والانفلاقي الحاد ليساق الى متحف للتلاشي.

تعامل النص المسرحي مع مبدأ الصوفية ونظرية الحلول بشكل قسري أرغم هذه المسمى ان يجر الى ساحة رؤى وافكار المؤلف من خلال القدرة الغائية المتشربة بها اي افكار المؤلف في تطويع النص امام القاري واحكام نظرية الحلول في القاري بحيث استطاع ان يتحكم بالقاريء لاعتناق افكاره بشكل قسري رغم وجود بعض الثغرات التأويلية الضيقة التي كان يحاول ان يتلصص منها القاريء ناحية مشهد آخر وإحالات اخرى وهذا ما يحسب للكاتب في معرفته بأصول البناء.

بناء طبقات النص بقوة تمثلت في بناء الشخصية الرئيسية والحدث من خلال حوار جزل ممتع فلسفي شعري يحيط بك كهالة نور ثرة الضياء تشعرك بالألم احيانا نتيجة وخزات متكررة تحثك على اقتفاء أثر الحقيقة قبل ان تصبح عالما من الوجود بين يديك يدفعك للتفاعل معها بطريقة الند للند.

استطاع الكاتب ابراهيم الحارثي اسر القارئ بيسر وسهولة بقدرة غرائبية متواطئة وتوافقية مع جسده وروحه وهذا ما نراه ماثلا في جميع نصوصه وذلك بمنظور فلسفي يثير التساؤل وفق رؤية فاعلة تكسر أشكال الكتابة التقليدية وتقدم صياغة درامية تضع نصب أعينها خشبة الحياة وخشبة المسرح بكل خصائصها وخصوصياتها ليسجل للكاتب ابراهيم الحارثي ابتداع مسرح تركيبي جمع بين الكلمة والحركة العقلية في تزامن فعلي حضوري اسس لحدث مسرحي ضمن منظومات جمالية تتلون وتتأطر بتركيبات إيحائية مع كم هائل من الاحالات السيسيولوجية والبيوغرافية لوطن هزمته الحقائق المعفو عنها وهذا ما جعل النص يفيض بشتى الرموز وينحو إلى التجديد المطلق بما فوق الحداثة.

ما هي مصادر الكاتب قبل ان يشرع بالكتابة؟

بالتأكيد هو البحث الموضوعي واستقاء مادته من العوالم الخارجية والذاتية كونه احد افراد هذا المجتمع وانه مرآة تعكس ما يحدث فيه لكن السؤال هو بالتحديد ما الذي اثاره وما هي الفكرة التي سيطرت عليه وحفزته كي ينزف حبرا على الورق ويحمل رسائل عدة تؤسس لحلول قد تكون فيها بعض النسبية للتحقيق.

اجدني وفقا لهذا التساؤل ان ما يحدث الان في بلداننا النائمة من تشرذم وطمس للحقائق وانحدار اخلاقي وكم هائل من نبوغ بذور الخيانة في مفاصل الساسة الرابضين كالهم الثقيل على صدور الشعوب كل ذلك هو ما أثار الكاتب ليدلي بدلوه وقد نجح بقوة في تصوير هذه الجزئية الاجتماعية مع وجود حلم كبير يراود مخيلة الانسان عمره ألف واربعمائة سنة.

حدوتة المسرحية تتلخص في مجموعة من الناس تعيش البؤس واليأس والتشرذم بأخص معانيها مع عدم القدرة على الحلم في التغيير وانتقاء الملائم منها لحياة كريمة وعزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية صراع تعيشه المجموعة لتوثيق الحياة مع فتح نافذة لكي تطل شمس لا تعرف التخاذل شمس جلدة قوية تنتصب كسيف اشوري بيد ملك الجهات الاربع ترفع القاذورات عن العيون لتبصر خيوطا ذهبية تصنع منها ضفائر تجلد الموت، الا ان هذه المجموعة من الناس تحيا حياة لا تمتلك فيها محركات يمكن ان تدير اتجاهاتها وفقا لأمنياتها المشروعة واحلامها المختلقة لهذا تراها شخصيات منهارة خائبة وجلة, وفي لجة هذا الضياع والتبعثر وعدم معرفة سبب وجودها مع عدم القدرة ان تشرئب الاعناق لتطاول الوجود تبقى متخفية تصطبغ ارواحها بالوان اللعبة الشعبية (غميضة الجيجو) وهي تعيش انتظارا طالت فصول تحقيقه بعد ذلك يعثرون في طريقهم على جثة رجل مسجى يتشح بكفن يخفي حقيقته الا من ثورة من تساؤلات تعترض صمت هذه المجموعة وبعد التي واللتيا وبعد توصيف لبعض الامور الشرعية بدفن الميت واكرامه يصطدم الجميع مع القوانين.

هذه القوانين الثورية الناهضة التي تجملها بعض السيميائيات الكثيرة والكبيرة ليتقرر عدم دفن هكذا شخصيات فهي أرقي من ان تكون بين طيات التراب بل روحا تعيش مع الكونيين في تناسل كبير ليبقى شاخصا علما يستحث الذاكرة والحلم كي تنتفض باختيار ما ينقذ الجميع والانتقال الى عوالم اخرى مكانها الشمس … لنخلص بالتالي الى ان نص “دوران” هو عمل فلسفي تجريبي بمغزى حقيقي واقعي.

 

 

بقلم: كاظم اللامي

http://www.middle-east-online.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *