خلاف والهادي لا يكف عن الاختلاف والخلاف في المسرح والفكر .. بقلم : يوسف الحمدان

العرض المسرحي كائن متحول ، سائل هيولي ، دلالاته تتملك قابلية التأويل باستمرار ، لا يقف على منصة ثابتة ، رجراج ومحير ، لذا لايمكن أن تكون مشاهدتك له في اليوم الأول هي نفس المشاهدة في اليوم الذي يليه ، وبشكل أكثر تحديدا كما يذهب إلى ذلك المخرج الروسي أليكسي بوبوف ، ” المسرح إبداع يومي ” ، مخاتل وموارب ، خاصة إذا تخلق هذا العرض من خلال مخرج باحث مبدع مشاكس بحجم المخرج الشاب مهند الهادي ، الذي أزعم أنه شكل منعطفا مهما في تاريخ الحركة المسرحية الحديثة والمابعدية في العراق ، والذي تفرد برؤية مختلفة عن من سبقه من أساتذته المخرجين ومن أبناء جيله أيضا في العراق .
ومن حسن حظي أنني حظيت بمشاهدة تجارب مسرحية ثلاث للمخرج مهند الهادي ، كانت أولاها مسرحية ( كامب ) بمهرجان دمشق المسرحي عام 2010 ، والثانية مسرحية ( في قلب الحدث ) والثالثة مسرحية ( خلاف ) التي شاهدتها قبل شهرين في مهرجان الأردن المسرحي ، وهي موضوع حوارنا وتعقيبنا في هذا المهرجان ، مهرجان الهيئة العربية للمسرح 2023 ، وكان لي نصيب الكتابة عن قلب الحدث التي وجدتني من خلالها شغوف إلى درجة كبيرة لمتابعة نتاج هذا المبدع الخلاق في العراق وفي وطننا العربي ، والتي أدارت رأسي نحو ( كامب ) لتأمل منطلقات المخرج الكاتب المسرحية والتي عادت بجهة الرأس ثانية إلى تجربته الجديدة ( خلاف ) لقراءة حوار الرؤى بين المسرحيات الثلاث .
في التجارب المسرحية الثلاث يكون المبدع مهند الهادي هو المؤلف لها بجانب كونه مخرجا لها أيضا ، وهنا يضعنا الهادي في منطقة إشكالية كثيرا ما تورط فيها بعض المخرجين المؤلفين ، وخاصة الذين ينحازون أو ينجرفون تعاطفا نحو نصوصهم إلى درجة يكون فيها صوت المؤلف طاغيا على رؤاهم الإخراجية ، وبالتالي نقرأ أثناء عرض هذا التجارب نصا ولا نرى عرضا ، وما يحسب للهادي أنه يكتب نص العرض ، لذا نرى هذا النص في كل جملة حركية أو مؤداة أو دالة على خشبة المسرح ، ونستشعر ونتحسس كل التحولات وكما لو أن فضاء العرض يكتبها في حينه ، لذا تجارب الهادي المسرحية مرشحة فقط لعروضه هو كمؤلف مخرج وليست مرشحة لمخرج آخر كما أرى ذلك من خلال وجهة نظري .
ولو تأملنا هذه النصوص مليا ، سنرى أنها تتكيء على محطات فكرية متقاربة في قراءتها للواقع العراقي ، ولعل الاشتغال الإخراجي المتقارب المتنامي المتحاور والاشتباكي لهذه المحطات يؤكد ما ذهبنا ونذهب إليه في هذه القراءة .
في مسرحية ( خلاف ) التي تجوب عوالم الصراع الأيديولوجي المتهريء بكافة أشكاله السوداء والنيستالوجية ، سواء انطلقت من فكري شيوعي شمولي أو من خلال هجرة أو انسلاخ لتجد بيئتها الأخيرة في مستنقعات الظلامية الإرهابية الداعشية ، أو من خلال مجتمع ممزق الهوية لا يجد له ملاذا إلا في تيه الاغتراب واللامعنى للوجود والحياة ، أو من خلال صراع الأجيال التي يترك المؤلف المخرج فراغات إشكالية لأزماتها اللامتناهية ، سواء من خلال الأم أمل ربيبة الفكر الشيوعي أو من خلال ابنها كاميلو رهينة داعش الأثيرة أو من خلال شباب تبنتهم الفوضى واحتضنهم اللا استقرار ، في هذه المسرحية ينحت الهادي جسد تجربته وفضائه المسرحي بإزميل نحات مقتدر متمكن مبدع ، مغايرا في هذه التجربة رؤيته الإخراجية السابقة لعرضيه السابقين ( كامب ) و ( في قلب الحدث ) ، وذلك باتكائه على اتجاه ما بعد الدراما الذي يقف على تحييد الحالات الانفعالية وفسح المجال واسعا أمام السرد الذي يقترح أصواتا متعددة للأحداث والشخصيات بوصفها شاهدة على ما يحدث أو بوصفها عارضة للحالات التي تحدث أو بوصفها شخصيات مقترحة في العرض أكثر من كونها شخصيات تعيش الحدث ذاته ، تاركا المجال واسعا أمام المتلقي ليكون مؤولا لمجريات الحدث من منطلق تعددية الحالات ومدى انعكاسها عليه ، لا متأثرا بشكل مباشر بها .
في هذا العرض يزجنا المخرج الهادي في قراءة تنحى عن التأطير والتحديد والجاهز ، فنكون قصدا أمام التباس مولد لأسئلة جديدة حول الراوي والسارد والمؤدي في العرض المسرحي ، إذ من هو الراوي في هذا العرض ومن هو السارد ومن هو المؤدي والمتعدد فيه ؟ هل الأم أمل كانت مثلا مؤدية أم كانت ساردة وراوية أيضا فيها ، والحال ينطبق أيضا على المحقق والإبن والشخصيات المنسلة منه والمتعددة ، وإن كنت أرى من وجهة نظري بأن هذه التعددية المفرطة قليلا للشخصيات بتماثلاتها المتباينة تضعف مسار الشخصية وتقودها نحو حشد مرتبك لا لزوم للإفراط فيه ، خاصة ونحن أيضا أمام تعددية دلالية موازية للأطر المتحركة في رقعة العرض ، والتي من شأنها وحدها أن تقوم بأدوار حية ومادية وتقنية عدة عوضا عن كونها محورا انتقاليا رئيسا لمسارات الشخصيات والأحداث والمتوقع والمقترح .
وبالرغم من استثمار المخرج الهادي لطاقتين مسرحيتين ضالعتين في حضورهما الخلاق في المشهد المسرحي العراقي وهما الفنان القدير هيثم عبدالرزاق والفنانة القديرة سهى سالم واللذين أضفيا على العرض روحا ساطعة ومؤثرة بلا شك ، إلا أنه كان بإمكان المخرج أن ينحت مساحة كافية لحضورهما فيه ، خاصة وأنه اتكأ على اشتغال أدائي مغاير في هذه التجربة ، وهما اللذين اعتادا على الأداء الدرامي الذي يقف على ضرورة إيصال حالة الفعل المسرحي بمعطياتها الانفعالية الدرامية ، فكيف يمكنه النحت في هذا المجال لتحييد الأداء لديهما ليأتي في صورته المقترحة في العرض ؟ وكيف نجعل من هاتين الشخصيتين متجانستين في حيادهما الأدائي مع شخصية الإبن مرتضى حبيب ؟ .
العرض وقف طويلا وكثيرا على المنولوجات أكثر من وقوفه على المولدات الرئيسة التي كان بالإمكان أن تنبثق عن هذه المونولوجات لتشكل وهجا أدائيا وصراعيا اشتباكيا محيدا ، الأمر الذي رجح في كثير من الأحيان كفة الناص على الرائي في تجسيده وفي تخلقاته الأدائية ، ولكن ما يشفع للمخرج المؤلف الهادي في كثير من الأحيان ، هو توظيفه للأطر المتحركة المتعددة الدلالات ، واستضافتها بوصفها أزمنة وأمكنة اختزالية لمجريات الأحداث ، وإن كانت في رأيي أحيانا تشكل عبئا على الخشبة باستخدامها الكثير والمفرط في كل سانحة تحولية في الأحداث ، وكنت أتمنى ألا تكون مادة زائدة على الأحداث في العرض ، خاصة وأن هناك مساحات يملأ الجسد فيها فضاءات هذه الأطر .
ولكن الهادي إذ يدفعنا في بعض الأحيان للإستشكال في بعض عناصر عرضه ، إلا أنه يأخذنا نحو فضاءات أخرى تجعلنا أحيانا ننسى ما استشكلنا فيه قبلا ، كتوظيفه للإضاءة في العرض التي تتشكل بوصفها أزمنة وحالات نفسية وأمكنة وشخصيات ومنذرا لكوارث قادمة وبحرا لا نعرف له قرار أو هوية .
الحديث عن مهند الهادي وتجربته المسرحية يطول ويطول ، ولكنه مغو كإغواءات تجربته التي تأخذنا بعيدا نحو أسئلة جديدة .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش