بستان شجرة الكرز والاسلوب التشيكوفي الاكثر ثعلبية

صباح هرمز الشاني
 
 
لا تختلف صنعة مسرحية (بستان شجرة الكرز) عن صنعة مسرحيات تشيكوف الطويلة الثلاث الاخرى والمعروفة، الا بقدر تقليص حجم وكثافة المفردات الموظفة فيها من أربع الى اثنين، وهما الرموز والدلالات الموحية، والمفردات الدالة على الجو النفسي، وغياب بقية المفردات منها كالمؤثرات الصوتية والمونتاج.
تدور حوادثها في ملكية (ليوبوف أندريفنا) العائدة من باريس، بعد غياب خمس سنوات، مع ابنتها (أنيا) والمربية الالمانية (شارلوتا) وخادمها (ياشا)، لتباغت انها لاتتمكن من تسديد فائدة ملكيتها المعرضة للبيع.
ولكون (لوباخن) وكيل أعمالها ورغبة منه لتخلص الملكية من المزاد العلني، أو (هذا ما يبدو عليه في الظاهر)، يقترح عليها تقسيم بستان اشجار الكرز والارض المجاورة لها الى قطع صغيرة لتشيد عليها مساكن صيفية شريطة أن تهدم كل ما فيهما من منازل واشجار، لتقوم بتأجير القطع، وتنال ربحا سنويا منها، ويوعدها بتأمين القرض، الا انها لاتقوم بتنفيذ هذا المقترح على أمل أن تتلقى الدعم من عمتها الكونتيسة التي تعيش في الخارج، ولأن المال الذي تنتظره لايصل، وحتى ان وصل، فأنه لايكفي لسد تأمين القرض، فأن لوباخن يصبح صاحب الملكية، لانه يقوم بشرائها.
لقد أختلف الكبيران تشيكوف وستانسلافسكي على معنى هذه المسرحية، وكان في اساس هذا الخلاف كما يقول ترويا: (تضاد رئيسي في تفسير الاثر من الناحية السايكولوجية) فتشيكوف تصور بستان الكرز وخطط لها وكرر قول ذلك عشرين مرة الى انها كوميدية بل هزلية تقريبا، اما ستانسلافسكي فكان يرى فيها مأساة اجتماعية تطرح موضوع زوال طبقة النبلاء الريفيين امام الاثرياء الجدد المتصلبين والمغامرين من العامة.*1
وما يؤكد على ان هذه المسرحية كوميدية، هي الرسالة التي يبعثها تشيكوف الى زوجته (اولغا) يقول فيها: (سيكون الفصل الاخير مرحا، او بالاحرى ستكون المسرحية كلها مرحة وعابثة)*2
ويرى ترويا: (ان الانفعال الذي تسببه بستان الكرز متأتٍ من التضاد بين التراجيديا الصامتة التي ينطوي عليها الموضوع، والجانب المضحك الى حد ما في الشخصيات)*3
ان هذا الخلاف سبق وان نشب بينهما في مسرحية الخال فانيا، اذ ثمة الكثير من الادباء والفنانين، وقبل ان تصدر اعمالهم، يصفونها تحت تسميات ومصطلحات لا تمت في معظم الاحيان الى مضامينها بصلة. وهذا الكلام يقينا، ليس موجها الى تشيكوف ذلك انه ليس بحاجة مثل هذا التصنيف، هذا الرجل العظيم، الذي هو اكبر منا، ولكنني لا ادري لماذا اجد نفسي منجذبا الى قراءة ستانسلافسكي اكثر من قراءة تشيكوف، وكانت لي على ما اظن نفس القراءة للخال فانيا، ولعل مرد ذلك يعود الى عملية المزج وليس التضاد كما يقول ترويا، بين التراجيديا الصامتة التي ينطوي عليها الموضوع، والجانب المضحك الى حد ما في الشخصيات، بحيث يصبح هذا الجانب اكثر تراجيدية من التراجيديا الصامتة، ويمكن ان نلمس هذا الجانب في معظم شخصيات المسرحية الثانوية، كدونياشا، ويبهودوف، وبشتشيك. فليس من المنطق والمعقول التصدي لثيمة كبيرة، كخيانة الوطن من قبل الطبقتين، ومعالجتها بطريقة كوميدية، (وانتقدت صحف اليسار بعض المؤثرات المضحكة في هذه (المأساة الاجتماعية) ولم يرد احد ان يرى في بستان الكرز الملهاة التي كان تشيكوف يتحدث عنها).(4)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وبالحاح:
– ترى هل ان هذه المسرحية ثورة على طبقة النبلاء او لنقل الجيل الجديد على القديم، أم خيانة من قبل الفريقين للوطن، وهذا ما سأحاول الاجابة عليه عبر التقنية التي استخدمها المؤلف في مسرحيته هذه:
1- المفردات الدالة على الجو النفسي:
تضم عشرين مفردة، موزعة بنصيب ثماني عشرة مفردة، وبشكل متساو على كل من الفصل الاول والثاني والرابع، وبنصيب مفردتين للفصل الثالث.
وتأتي اول مفردة من هذه المفردات على لسان (بيهودوف). كضربة اولى، لطرح موضوع بيع البستان، وعدم الرغبة بالبقاء في الملكية: الصقيع في الخارج يصل الى ثلاث درجات واشجار الكرز مغطاة بالازهار، لا استطيع ان استحسن مناخنا هذا.. (يتنهد) كلا لا استطيع، انه لا يفيد…
والمفردة الثانية التي تأتي بأربع منها (دونياشا) في جملة واحدة، التي هي: تثلج، الطقس، باردا، والربيع تعبر عن شخصيتها المتفائلة وفرحها بلقاء (آنيا): رحلت في فترة الصوم الكبير، وكانت تثلج، وكان الطقس باردا حينها، اما الان فهذا فصل الربيع.
أما في حوار آنيا مع اختها فاريا، فترد مفردة الطقس مرتين، وكانت (تثلج) مرة واحدة، اشارة الى تذمرها في المرة الاولى من (شارلوتا)والثانية من عيش امها بباريس في الطابق الخامس.
(واصبح الطقس دافئا) وفاريا، تفتح النافذة بهدوء، لقد اشرقت الشمس، انظري يا امي، ياله من هواء لطيف، طيور الزرزور تغرد، عشقا بالبستان وتشبثا للبقاء في الملكية.
وعودة (ليوبوف اندريفنا) الى طفولتها، وهي تنظر الى البستان عبر النافذة! وكنت استيقظ تماما كما هو الان، لم يتغير شئ. (تضحك بسعادة) كله، كله ابيض، اوه يا بستاني! بعد فصل الخريف المعتم والعاصف، وبعد الشتاء البارد، تكون شابا وسعيدا مجددا، لم تتخل الملائكة عنك…
ومفردة العاصفة من قبل (يبهودوف) ايحاءً لحظه السيء: ولكنني اشعر بأنه علي ببساطة أن افسر القدر، اذا جاز التعبير، يعاملني بالتأكيد بلا رأفة، كما تعامل العاصفة مركبا صغيرا.
وتلفظ (دونياشا) مفردة (الطقس بارد هنا نوعا ما) نتيجة إرتباكها وردا لقول بيهودوف لها: هل لي ان اكلمك؟
وتأتي مفدرة (الطقس بارد جدا) على لسان (فيرز) اشارة الى اخلاصه لـ (اندريفنا وشقيقها غايف): هلا ارتديت المعطف رجاء ياسيدي. بينما ينطق المتشرد مفردة: (انه الطقس جميل اليوم) لأن اندريفنا تمنحه قطعة نقود ذهبية: انني ممتن لك كثيرا ياسيدي (يسعل) انه لطقس جميل اليوم (أوه، يا اخي المعذب!.. تعال الى الام فولغا التي كانت تاوهاتها…) (يكلم فاريا) هل لمواطن روسي جائع يا آنسة، أن يزعجك لأعطائه القليل من النقود النحاسية
لو باخن (يغضب) لكل شئ حد بالفعل.
اندريفنا: (في حالة ضياع ولاتعرف ما عليها فعله) خذ.. هذه.. خذ (تبحث في حقيبتها) لا املك نقودا فضية.. لا تأبه لذلك، اليك بقطعة نقدية ذهبية…
وتتكرر مفردة (الطقس رائع) مرتين من قبل آنيا وترفموف دلالة على انجذابهما للآخر، ارينا: كم تحسن الكلام (وقفة قصيرة) الطقس رائع هذا اليوم.
ترفموف: اجل الطقس رائع.
(ويحل الشتاء) يقولها (تروخموف) للتعبير عن المعاناة التي عاشها. وعلى لسان (شارلوتا) مرة: الطقس رائع تماما، ومرة على لسان الصوت مرة اخرى، دلالة على الفرح.
لوباخن: لقد حل تشرين الاول، لكن الطقس لايزال مشمسا وهادئا كما لو انه فصل الصيف، انه طقس جيد (ينظر الى ساعته، ومن ثم ينظر الى الباب) لاتنسوا ايها السيدات والسادة، بأنه لم يتبق سوى ست واربعين دقيقة قبل موعد النطلاق القطار، ما يعني بأنه علينا الانطلاق قبل عشرين دقيقة اسرعوا.ان استخدام اكثر من مفردة في حوار لوباخن هذا معناه واضحة وهي تعبر عن سعادته في امتلاكه للبستان، الا ان نظره الى ساعته ومن ثم الى الباب تعمق قوة هذا المعنى وبالتالي تمنحه ابعادا اكثر، وهو استعجاله في رحيلهم، ومن ثم الارتياب بمدى مصداقيته.
وقول اندريفنا: الوداع ايها المنزل العزيز، يا منزل جدي، سيرحل فصل الشتاء، وسيحل فصل الربيع من جديد، وعندها لن تكون هنا، سوف تهدم. ايماءة واضحة الى اضمحلال طبقة النبلاء التي كانت تمثلها وحلول طبقة او جيل جديد بدل الطبقة القديمة فالشتاء هو الطبقة القديمة، والربيع هو الجيل الجديد.
اما مفردة الطقس الرائع يلفظها (بشتشيك) ففيها ثعلبية تشيكوف، اذ يتألم (بشتشيك) لمغادرة اندريفنا للملكية، ولكنه رغم ذلك، ولأنه لا يملك اي قوة لردعها، يلفظها لئلا يظهر ضعفه امامها: وحين تسمعين بأن نهايتي قد اوشكت فكري فقط بحصان وقولي في أحد الايام كان يوجد رجل مثلك، بينما الحوار الدائر بين لوباخن وفاريا، الذي يعرج فيه لوباخن الى العام الماضي وتساقط الثلج فيه، مقارنا به لهذا العام، حيث الطقس صاف ومشمس، اشارة واضحة الى سعادته قياسا بالعام الماضي، لأبتياعه البستان من جهة، وانفراده بالملكية من جهة ثانية، وعدم زواجه بها اي بـ بفاريا من جهة ثالثة، الا ان رد فاريا عليه بالاسلوب التشكيوفي الثعلبي والمراوغ في جملة: لم أنظر (وقفة قصيرة) بالاضافة الى ذلك فأن ميزان الحرارة لدينا قد انكسر (وقفة قصيرة) تكشف عن شخصية لوباخن غير المبدئية بما لا يقبل الشك، وانتهاء كل شئ ما بينهما، العاطفية والاجتماعية في آن.
تقول أندريفنا: حين نغادر لن تبقى روح واحدة في هذا المكان يرد عليها لوباخن بجملة، حتى فصل الربيع
مانحة معنيين في آن، فهو إما يقصد ان الملكية غدت مهجورة وبلا حياة، او انه سيعود في الفصل القادم لاعادة الروح فيها.وتتكرر نفس المفردة بعد حوارين او ثلاثة على لسانه وهو يقول: وهكذا حتى فصل الربيع. هيا ايها السيدات والسادة الى اللقاء يخرج…
2- الرموز والدلالات الموحية:
تحتوي على اكثر من ثلاثين رمزا موزعاً بنصيب عشرين على الفصل الاول وخمس لكل من الفصل الثاني والثالث، ورمزا واحدا للفصل الرابع، ابتداء من وصول اندريفنا مع ابنتها وخادمها بالقطار، وانتهاء بمغادرتها معهم بالقطار ايضا، ايحاء الى بدء الحياة بالسعادة وانتهائها بالالم، مرورا بالحوادث الجارية للمسرحية في البستان الرامز الى روسيا، انتهاء بأول جملة يشرعها لوباخن، وهو يتحدث عن اندريفنا، تاركا انطباعا جيدا عنها لدى المتلقي، وهو يصفها بالانسانة الجيدة والهادئة والبسيطة، الا انه يرجع ليقول، (انه لايعلم كيف تبدو الان)، وهي جملة تشيكوفية، الهدف منها كشف النقاب عن الوجه الاخر لـ لوباخن، كما ان حوار لوباخن هذا هو مقدمة ضرورية لمعرفة المتلقي انتماء كل منهما، فأذا كانت اندريغنا تنتمي الى طبقة النبلاء الريفيين، فأن لوباخن ينتمي الى طبقة الاثرياء الجدد، ورغم ما له من المال، غير انه مازال فلاحا، ويغفو عندما يقرأ كتابا ولايفهم منه شيئا، والجملة الاخيرة تنطوي على نفس معنى الجملة التشيكوفية الاولى من حيث دلالتها في كشف النقاب عن الوجه الاخر لـ لوباخن، لأنتهازية الفلاح، واستخدام كافة الوسائل الخسيسة، سيما وهو لايحب الكتاب للوصول الى اهدافه، وهي جمع الثروة والمالز
لوباخن: مضت على وجود اندريفنا في الخارج خمس سنوات، ولا اعلم كيف تبدو الآن، اذكر ان والدي الذي كان يملك محلا صغيرا في القرية آنذاك، ضربني على وجهي وجعل انفي ينزف. اخذتني اندريفنا التي كانت لاتزال شابة ونحيلة الى المغسلة وقالت لاتبك ايها الفلاح الصغير. ومع ذلك… فأنا الان غني ولدي الكثير من المال. ولكن يمكن لاي شخص ان يلاحظ بأنني مجرد فلاح، وان يتكبد عناء التفكير بي وازعاجي. لقد كنت اقرأ هذا الكتاب ولم افهم منه كلمة واحدة. لقد غفوت وأنا اقرأه.
ان عدم استحسان مناخ البستان لـ يبهودوف، يغيض لوباخن ويطلب ان يدعه وشأنه، ذلك ان مثل هذا الشعور، يحفز بقية اهالي القرية لمغادرتها وبالتالي بقاءه وحيدا، وهذا ما يحصل فعلا في نهاية المسرحية، 
يبهودوف: يحدث لي كل يوم شئ سئ، انما لا أستطيع التذمر، فقد اعتدت على ذلك، حتى انني اسخر منه.
واكتفاء لوباخن بكلمة (آه) ردا على رغبة دونياشا اطلاعه على سر وهو طلب يبهودوف يدها للزواج، دلالة على ربط هذا الزواج بزواجه من فاريا، ورفضه.
والحوار الدائر بين فاريا وآنيا حول عرض الملكية للبيع واكتفاء آنيا بالرد على هذا الخبر بـ (ياالهي) ومن ثم تغيير هذا الموضوع باتجاه طلب او عدم طلب لوباخن يد فاريا للزواج منها، يؤكد عدم رغبة آنيا البقاء في الملكية، والميل باتجاه بيعها.
وان التغير الذي يحدث في نبرة صوتها، يوحي الى ان فاريا تحب لوباخن، ولكن زواجها منه لن يتم، لانه كثير الانشغال، ولا وقت للتفكير لديه، بها، وهذه لمزة اخرى الى تركيز جل تفكيره بمسألة واحدة فقط، وهي جمع المال، ولأن فاريا من اكثر شخصيات المسرحية براءة، ونقاء، وحبا للاخرين، ووصلت الى قناعة انها لن تتزوج لوباخن، فقد انصرفت تحلم بزواج اختها انيا برجل غني من جهة، وبرحيلها هي الى الاماكن المقدسة الموجودة في روسيا، لتصبح راهبة.
فاريا: بينما اجول في المنزل ياعزيزتي، وانا اقوم باعمالي الغريبة، لا اتوقف عن الحلم، لو امكننا فقط ان نزوجك رجل غني… وكنت لارحل بعيدا، متوجهة في البداية الى دير ، ثم الى كيف، وبعدها الى موسكو.. وأنا اسير من مكان مقدس الى آخر، كنت لاواصل مسيري أواه، يالها من حياة جميلة!
وقول لوباخن (الوقت يمر) واجابة غايف عليه بغباء وبتجاهل (ماذا) ومن ثم تغيير الموضوع من قبله ومن قبل آينا، بالاضافة أندريفنا) اشارة الى عدم امكانيا تم سد القرض.ولعل عدم رد اندريغنا على اطراء لوباخن لها بخصوص ما فعلته له في السابق ويحبها كما لو كانت اخته. ايماءة تشيكوفية، لعدم ثقة اندريفنا بـ لوباخن: الامر الوحيد الذي ارجوه منك هو ان تثقي بي كما كنت تفعلين سابقا، يا الهي الرحيم، كان والدي يعمل كرقيق لدى والدك وجدك ايضا، لكنك فعلت الكثير في الماضي، بحيث أغفر كل شئ، واحبك كما لو كنت اختي.. واكثر من اختي.
اندريغنا: لا استطيع البقاء جالسة، انني لا استطيع ذلك بكل بساطة! هذه السعادة كثيرة علي. يمكنكما ان تضحكا علي.. فأنا حمقاء.. يا خزانة كتبي العزيزة (تقبلها) يا طاولتي الصغيرة.
ووصف غايف مقترح لوباخن، تقسيم بستان اشجار الكرز والارض المجاورة للنهر الى قطع صغيرة لتشييد مساكن صيفية، بالتفاهات، وعدم فهم هذا المقترح من جانب اندريفنا، تدل الاجابتان على اتكاليتهما وتوفيقهما، وبالاعتماد على الاخرين في حل مشاكلهما، وفوضوية وعبثية الحياة التي يعيشونها، اذ حتى عندما يحاول (فيرز) الدفاع عن مقترح لوباخن يردعه غايف بجملة: (اسكت يا فيرز).
فيرز: في السابق، اي منذ اربعين او خمسين سنة كان الكرز يجفف ويحفظ وينقع ويصنع منه المربى احيانا… واحيانا كانت ترسل عربات محملة بالكرز المجفف الى موسكو وخاركوف…
اندريفنا: واين هي تلك الصنعة الان؟
وتأتي جملة لوباخن (لست محظوظا اليوم) لا لأن شارلوتا لم تسمح له بتقبيل يدها، بل لأنه لم يستطع إقناع اندريفنا في تسديد قرض الملكية وتقسيم ارض بستان شجرة الكرز.
ويأتي ربط بشتشيك نوم وشخير لوباخن، واستيقاظه مجددا، بطلب قرض مئتين واربعين روبلا من اندريفنا، على الرغم من وصفه بأنه رجل رائع جدا.. هذا ما تقوله إبنته داشنكا ايضا.. وهي تقول مختلف الامور.. (لاحظ الجملتين الثعلبيتين الاخيرتين).. (هذا ما تقوله ابنته).. وهي (تقول مختلف الامور).. اي انه يقول لوباخن انه رجل رائع لا على لسانه وانما على لسان ابنته، اشارة واضحة الى عدم نومه طوال الليل، خوفا من سرقة نقوده، وانه ليس بالرجل الرائع.
ورؤية اندريفنا امها تمشي في البستان مرتدية ثوبا ابيض اللون، هو رد على غايف الذي يقول: (اجل والان سيباع البستان لتسديد ديوننا، لأدانة بيع المزرعة من قبل امها وتذكير لحبها لهذا البستان، ولمضاعفة هذه الادانة وتعميق هذا الحب، تقرن مشيتها بوجود شجرة بيضاء صغيرة وهي تنحني وتبدو كأمرأة.
غايف: والان سيباع البستان لتسديد ديوننا 
اندريفنا: انطر تلك هي امي تمشي في البستان، مرتدية ثوبا ابيض اللون (تضحك بسعادة) انها هي!
فاريا: بوركت امي العزيزة.
اندريفنا: ما من احد، لقد تخيلت ذلك فقط، هناك اتريان الى اليمن، عند منعطف المنزل الصيفي توجد شجرة بيضاء صغيرة وهي تنحني.. انها تبدو كأمرأة.
(وهو ايحاء جميل الى قتل هذه المرأة ببتر الشجرة)
وتتضح الثعلبية في اسلوب تشيكوف اكثر من اي مكان اخر في هذه المسرحية، عندما يصل غايف الى قناعة، وبعد تفكير عميق، بأنه لا يوجد حل لتسديد قرض الملكية سوى لو ترك لهم احدهم القليل من المال، او تزوجت انيا من رجل غني، او لو ذهب احدهم الى ياروسلافل وجرب حظهم مع العمة العجوز الكونتيسة الغنية، وترد عليه فاريا: (ان الله وحده يساعدنا)، اشارة الى هراء ما تتفوه به.
ولا يكتفي بأظهار غايف على هذا النحو المبتذل، وانما يدفعه الى ان يقسم بشرفه على بيع الملكية ليثبت تشيكوف، بأن غايف لا شرف له وانه كلما امعن في مراهناته على عدم بيعها يزداد كذبا ورياء: سندفع الفائدة انا متأكد ذلك (يضع قطعة حلوى في فمه)، اقسم بشرفي بما تشاءان، بأن الملكية ستباع (متحمسا) سأخاطر بسعادتي! ها هي يدي. يمكنكما ان تدعواني كاذبا تافها اذا سمحت بأجراء المزاد، اقسم بروحي!
وقائمة برموز ودلالات طويلة، وسأكتفي بالاشارة اليها فقط:
• في الحوار الدائر بين لوباخن واندريفنا وغايف، والحاح الاول على موافقة او عدم موافقة اندريفنا على تأخير ارضها للغلل، واجابتها عليه، باجابة لا علاقة لها بسؤاله.
• اصطحاب اندريفنا الفرقة الموسيقية الى المنزل، في الوقت الذي تفتقر فيه الى المال لسد قرض الملكية، اشارة الى فوضى حياتها وعبثيتها.
• في الحوار الدائر بين اينا وتروخموف، تلميح جلي الى زوال طبقة النبلاء، عبر عدم رغبتهما البقاء في الملكية ومغادرتها.
• والاسلوب التشيكوفي المخفي وراء قول بشتشيك لـ تروفيموف:
يمكنك أن تبيع حصانا.. ولكنه لا يكمل هذه الجملة، وهو في الحقيقة يريد ان يقول: يمكنك ان تبيع حصانا ولكن لا يمكنك ان تبيع بستانا، او ارضا.
• وحب اندريفنا للمنزل، وعدم استطاعتها تخيل الحياة بدون بستان اشجار الكرز وبيعها معه، وهو حب المكان والعودة الى الطفولة.
• وطلب ياشا من اندريفنا اخذه معها الى باريس اشارة الى رغبة الكل في مغادرة الملكية.
• حديث لوباخن الطويل بعد شراءه للملكية الدال على اللف والدوران.
• (يسمع من بعيد صوت فأس يضرب شجرة) وما تزال اندريفنا في البستان اشارة الى عدم احترام لوباخن لسيدته.
• والحوار الدائر بين لوباخن وفاريا اشارة الى نهاية الحياة في هذه الملكية.
وفي معرض تصديه لهذه المسرحية يقول الاراديس نيكول: (ولايتطرق الى الذهن أن مثل هذا الكلام الذي يقوله تروفيموف يجعل منها مسرحية ذات غاية يدعو اليها المؤلف، فليس هنا مجال للافكار العقلية او الذهنية المجردة بل نرى كل شئ مصغما بالعاطفة مجسما بالخيال)(5)
فأن تكون هذه المسرحية مفعمة بالشاعرية، رأي لاغبار عليه، أما انها بدون غاية، وليس هناك مجال للافكار العقلية والذهنية المجردة فيها، فمثل هذا الرأي لا يتفق مع النجاح الذي حققته بأخراج ستانسلافسكي الذي (أقنع الممثلين ان يمثلوا فيها باتجاه ابكاء الجمهور أمام انهيار عالم سحري محكوم عليه بضرورات الحاضر الاقتصادية، وليس ان يضحك او يبتسم)(6) 
وقد دون تشيكوف بأقتناع: (ما من مكان فيه سلطان ساحق مثلما هي لدينا نحن الروس، نحن المهانين بعبوديتنا السحيقة، والذين يخافون الحرية.) (7)
(وكان يفكر ان مسرحيته المقبلة التي كان يحلم بها منذ زمن طويل ستكون تصويرا ينصب على هذه السلبية الوطنية.) (8) وصاغ هذه السلبية في مسرحية (بستان شجرة الكرز)…
 
المصادر
1- تشيخوف: تأليف هنري ثرويا

2- نفس المصادر السابق
3- نفس المصادر السابق
4- نفس المصادر السابق 
5- المسرحية العالمية: الاراديس نيكول/ الجزء الرابع
6- تشيخوف: تأليف هنري ترويا
7- تشيخوف: تأليف هنري ترويا

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *