المحددات الثقافية للمسرح

للمتلقي في المسرح، شأنه شأن مُنتِج العرض، أفكار وقيم تتشكل اجتماعياً، وتنتقل على نحو مشابه. وكما يتعامل الثاني مع الوسائط التقنية المتاحة، وفي إطار مواضعات جمالية محددة، يقرأ المتلقي العرض من خلال عمليات تأويلية وسيطة لها محدداتها الجمالية والثقافية التي تميز المسرح في مجتمع ما.

يفرض بعض منظّري التلقي المسرحي على المعنيين بالمسرح ألاّ ينظروا إليه بوصفه فناً منعزلاً عن الممارسة الثقافية بشكل عام، ويدعو منظّرو الدراما إلى إرساء نوع من الحوار مع سوسيولوجيا الثقافة، التي تُعدّ الآن مجالاً مثيراً للجدل في الغرب، ذلك لأن المجتمعات الغربية الصناعية، مثلاً، تعطي دوراً خاصاً ومهماً لأوقات الفراغ، وهذا يدعم بدوره صناعة الترفيه والتسلية التي تؤدي دوراً مهماً في الاقتصاد. هكذا يبدو لهؤلاء المنظّرين أن الحاجة إلى البحث عن جماهير للفنون، والاحتفاظ بها، تصبح ضرورةً حيويةً، مفروضةً سلفاً، في هذه المجتمعات. وتأتي هذه الضرورة، بحسب استنتاج آن ماري جوردون في كتابها “المسرح والجمهور والإدراك”، من أن معظم مَن أستبينت آراءهم أعلنوا أنهم يذهبون إلى المسرح بدافع من الاهتمام بهذا الشكل الفني على وجه الخصوص. إلاّ أن هذا الاهتمام لم يكن اهتماماً بريئاً من تأثير الثقافة السائدة، فحبّ الفنون يشغل مكاناً مهماً في المجتمع المتطور، وعلى هذا الأساس يصبح الاهتمام بالمسرح دلالةً على التمييز والذائقة الرفيعة.
إن دراسة دور المسرح في أي نظام ثقافي، وعلاقة المتلقين بالمفهوم العام السائد للمسرح من ناحية، وأشكال معينة من الإنتاج المسرحي من ناحية أخرى تمكّن، من وجهة نظر سوزان بينيت، من الوصول إلى فهم أعمق للعلاقة بين عمليتَي الإنتاج والتلقي. استناداً إلى ملاحظة كل من بيتر ستاليبراس، وآلون وايت، في دراسة مشتركة لهما، فإن الخطابات الثقافية الرفيعة عادةً ما ترتبط بالجماعات الاقتصادية الموجودة في مركز السلطة الثقافية، وأن هذه الجماعات هي التي ترسم الحدود الفاصلة بين الثقافة الرفيعة، والثقافة الدنيا في المجتمع. انطلاقاً من هذه الملاحظة، التي لا يمكن تعميمها على المجتمعات كلها، يُفسَّر فهم الغربيين لطبيعة المسرح، كما حددته هذه الخطابات الثقافية الرفيعة، من خلال تحديد الشيفرات المستخدمة في استيعاب الحدث المسرحي وتأويله.
من أفضل الأمثلة على هذا الفهم، الدراسة التي أجراها بافيس على عملية التلقي النقدي لعرض مسرحية شكسبير، “دقة بدقة”، الذي أخرجه بيتر بروك، والتي تكشف عن وجود خطاب نقدي عام وسائد لجأ إليه النقاد الذين لا يزالون يقومون بدور ممثلي الإيديولوجيا الثقافية السائدة، وتعكس اقتناعاتهم المشتركة حول المسرح طبيعة مكانتهم في هذه الإيديولوجيا.
لكن بينيت تتدارك هذا التعميم حول النقاد، فتشير إلى سمة التعددية التي تجدها فيهم، على غرار تعددية المتلقين. فالنقاد الذين يكتبون للقارئ المتخصص، أو أولئك الذي يكتبون للصحف المعارضة، قد يختلفون اختلافاً كاملاً، في اقتناعاتهم وتوقعاتهم، عن كتّاب المتابعات الصحافية الذين يتحدث عنهم بافيس. يقود هذا الاستدراك إلى حقيقة مفادها أن لكل متلقٍّ أفق توقع مختلفاً، ومن ثم يمكن أن يكتشف الباحث آفاق توقعات مختلفة لأنماط متباينة من مشاهدي المسرح داخل المجتمع الواحد.
سبق لسوزان بينيت أن أكدت هذه الحقيقة في نقدها لتعريف ياوس لمفهوم أفق التوقع، الذي تصفه بالقاصر، وهو مفهوم لا يرى وجود تعددية للمتلقين في سياق زمني معين. لتلافي هذا القصور عنده، ترى بينيت أن من الممكن الربط بين مفهومه، ومفهوم فيش عن الجماعة التأويلية، ومن ثم تصبح عملية القراءة، في إطار هذا الربط، عمليةً تاريخيةً واجتماعيةً في الوقت ذاته، مشيرةً إلى تاريخ تلقي مسرحية هارولد بنتر، “حفل عيد ميلاد”، التي أدى تغيّر الجماعة التأويلية، وآفاق التوقعات إلى تجديد الاستجابة الجماهيرية لها.
إلاّ أن هذا التوفيق بين مفهومي ياوس وفيش ينسف، من وجهة نظرنا، المفهوم الأول، ويفرغه من مضمونه الأساسي، الذي يقوم على فكرة التلقي التاريخي للعمل الفني، ويستبعد مفهوم المعنى الموضوعي القار، الذي يتكوّن بشكل مستقل عن التأويل. في حين أن مفهوم فيش يقوم على تغير قرّاء العمل الفني أنفسهم، كما في مثال تغير المتلقين لمسرحية بنتر، ليحظى باستجابة جديدة، وتأويل مغاير.
على الرغم من اقتناع بينيت الثابت بالأطروحات النقيضة لنقد استجابة المتلقي، التي تؤكد الاختلافات في ردود أفعال المتلقين بأنماطه المختلفة، ترى وجود حدود ثقافية تحكم ردود أفعالهم، سواء إزاء النصوص، أو العروض بصورة عامة، أو إزاء نص، أو عرض بعينه. لكن هذه الحدود تظل دائماً موضع مناوءة واختيار، ودائماً ما يجري تجاوزها. كما أن الثقافة لا يمكن النظر إليها بوصفها كلاً ثابتاً، أو مجموعةً من القواعد الثابتة، بل يجب النظر إليها على أساس أنها في حال دائمة من التدفق والتغير الحتميين.

 

عواد علي

http://newspaper.annahar.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *