مسرحية “سينما “بين القصيدة اليومية والمسرح اليومي /طه رشيد

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة خاص

القصيدة اليومية، هي مدخل فريد للدخول في فضاء اللغة بوصفها اداة لمشاركة اكتشاف المعرفة، فهي ليست نوع من أنواع التسويق اللفظي والزخرفة الشكلانية للكلام، بل هي أداة للمعرفة . والقصيدة اليومية ينبوع او معين لا غنى عنه لكي تتموضع في قلب المعرفة. ومفردات القصيدة اليومية هي : المكان. الزمان . الأشياء. المجتمع في حركته وفي صيرورته . الظواهر الطبيعية. التقاليد والموروث الشعبي. لذا فإن القصيدة اليومية لا تتوقف على شكل محدد لانها تهتم بالمعني ويمكن لنا ان نجدها في الشعر الكلاسيكي مثل ما نجدها في الشعر الحديث. وهذه المفردات هي نفسها التي يمكن للمسرح ان يتبناها، لا باعتباره ترفا بل حاجة ملحة للانسان ينمي بها قدراته على الخلق والإبداع كل في مجاله. وهنا نجد اوجه التشابه الكبير بين مسرحية سينما وبين القصيدة اليومية، التي تمتاز بسهولة ممتعة ومثابرة، ولكنها صعبة التقليد اي انها تدخل في مفهوم السهل الممتنع الذي تتمتع به القصيدة اليومية الناجحة، وبكلمة اخرى يدخل المخرج كاظم نصار في مساحة المسرح اليومي رغم انه يميل الى تسمية توجهاته المسرحية بـ ” الكابريه السياسي”. الناقد الفرنسي ” ارميل تالبوت” يرى بان ظاهرة المسرح اليومي التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي تعد واحدة من أقوى اتجاهات المسرح والتي تمثلت في الرغبة بجعل الحياة اليومية منطقة تجريبية متميزة، وهي حركة نصبت نفسها بنفسها واهتمت بالشواغل اليومية دراميا، وربما هذا هو احد اسرار استمرار المسرح الفرنسي باجتذابه للجمهور حاليا بواقع مائة عرض مسرحي يوميا في باريس والمناطق المحيطة بها، رغم تعدد وسائل التقنيات الحديثة! واذا كنا نستطيع ان نجد القصيدة اليومية في مختلف انواع الشعر كلاسيكيا كان او حديثا، قديمه وجديده، فان كاظم النصار استفاد في اخراجه ” سينما “من كل المدارس المسرحية، فنجد التغريب والعبث بجانب التشخيص الستانسلافسكي، ليقدم لنا في الاخير خلطة طباخ ماهر لا ينقصها لا التوابل المحببة ولا النار التي تسربت لقلب المتلقي. شخصيات ميتة لكنها تنبض بالحياة على حين غرة تخرج شخصيات “سينما” من لحودها بسب ما لحق بها من حيف وهم في قبورهم فيملؤون المقبرة احتجاجا وهياجا حتى يسكتهم الدفان ” باسل شبيب” ليبدأ تداعي الحدوتة رويدا رويدا، وسرعان ما نكتشف ان شخصيات كاظم نصار الميتة في مسرحيته “سينما “تتسم بامتداد جذورها عميقا في الأرض، فجاءت تحمل معها نفحات الحياة رغم مرور عدد مختلف من السنين على استشهادها او قتلها، وكل منها يمثل بوضوح الشريحة الاجتماعية التي تنتمي لها.. شخصيات كل منها قائم بذاته وبنيت بدقة مهندس ذكي يعرف كيف يرتب احجاره ليرتفع ببنيان مرصوص وبحبكة درامية لا تهتز أمام الزوابع! فكان سائق السايبة مخلصا لشريحته الجديدة “سواق السايبات” لقد عانى سايق السايبة من هجرتين اولهما التهجير القسري الجغرافي الذي تعرض له فانتقل مجبرا إلى مدينة اخرى، وثانيهما الهجرة من شريحة البرجوازية الصغيرة الى شريحة الشغيلة والكادحين وتبنيه لمطالبهم والدفاع عنها واتضح موقفه هذا عندما قرر (سكان المقبرة!) تاسيس مجلسهم البلدي . واذا تساءلنا لماذا لم يتحدث هذا الكادح عن الانتماء الى نقابة وطنية مهنية تدافع عن حقوقه؟ والجواب موجود لدى المؤلف الذي يدرك بأن النظام السابق قد أفرغ النقابات من محتواها ومهامها الحقيقية وحولها إلى رادحين بحمد النظام واستمر هذا النهج مخيما بظلاله على النقابات لهذا اليوم مع اختلافات هنا وهناك. في الاخير أعطى المؤلف الحرية لسائق السايبة ان يكتشف الحقيقة ويحللها ويقترح البديل دون تدخل قسري من المؤلف ..واعتقد أن هذا الأمر في غاية الأهمية وهو ان لا نجد ظلال المؤلف ولغته مفروضة على الشخصية وتتضح رؤى المؤلف من خلال معالم تلك الشخصية دون شخصنة تذكر. وهذا ينطبق في “سينما” على بقية الشخصيات الأربعة. الجنرال “أياد الطائي” والذي قتل في احدى معارك الحرب العراقية – الايرانية احياه المؤلف المخرج ورماه داخل صراع الوضع الراهن وهذا الجنرال يفهم الديمقراطية على طريقته المتمثلة بضرورة عسكرة البلد واشعال الحروب الداخلية والخارجية من اجل اطفاء الازمات التي يمر بها الوطن معكزا على اهمية الامن ومصلحة الوطن تتطلب ذلك. اما الاعلامية ” ازهار العسلي” والشاعر “علاوي حسين” فقد رسمت ملامحهما بما ينسجم وتوجهاتهما كمثقفين يجدان التجربة الديمقراطية الجديدة جديرة بالتبني دون الغوص في الاسباب الحقيقية للازمات التي راحا ضحية لها.فبشاعة النظام السابق لا تقل سوداوية عن الفساد والطائفية التي انتجتهما المحاصصة المقيتة : “بئر لك وبئر لي، برميل لك وبرميل ، بطل لك وبطل لي : 2 وفي عودة للدفان “باسل الشبيب ” فلا بد أن نعرف انه الشخصية الوحيدة الواقعية والتي تختلف عن بقية الشخصبات الفنطازية. والدفاع يمثل الجهاز التنفيذي والقمعي، في آن، للسلطة التي لا نراها او نرى ممثلها في المسرحية ولكنا نسمع به وتحس به وهو أشبه ما يكون بالتيار الكهربائي، لا تراه، ولكنه ان نمسك فسوف لن يتركك إلا جثة متفحمة! الاداء الجمعي لم اشاهد عملا مسرحيا منذ فترة طويلة امتاز بهذه الصفة وهو الاداء الجمعي بين الممثلين، حيث كل واحد منهم يكمل الاخر ولا تستطيع ان تفضل احدهم على الاخر حتى تحتار لمن تمنح جائزة احسن ممثل! كانوا جميعهم بارعين بالاداء، وكل منهم شغل مساحته بابتكار مبدع، وكانت البطولة مثل فرقة سيمفونية، توزعت مفاصلها الموسيقية بعزف منفى وجمعي. لقد أثارت مسرحية ” سينما ” أسئلة عديدة وتركت الإجابة للمتلقي. وهو جوهر هدف المسرح الأسمى بتحفيز التفكير عند هذا المتلقي من خلال شخصيات ملموسة، استخدمت النكتة هنا وهناك، لتقدم كوميديا سوداء تترك فرحا شفيفا في الروح مثل اغاني فيروز الحزينة!

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *