رحل النهار” تكافؤ المبنى والمعنى .. قراءة في رمزية السياق العام للمسرحية! هايل علي المذابي

“رحل النهار” تكافؤ المبنى والمعنى ..

قراءة في رمزية السياق العام للمسرحية!

هايل علي المذابي

مسرحية “رحل النهار” هي تكافؤ بين المبنى والمعنى (الشكل والمضمون) كأنه عناق حبيبين..

وبالإضافة إلى فصاحة المؤلف إسماعيل عبدالله وبلاغته وإمكانياته اللغوية، فإن النص حشدٌ من أعظم ما يمكن أن نجده في جميع العصور بدءً بالاقتباس والإحالات والتضمين البلاغي لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وانتهاءً بتدبيجهِ بأعظم المقولات والقصائد التي خلدها التاريخ، فهي مزيج بين إمكانيات المؤلف وشهرة الاقتباسات التي هي شرط فاعلية التناص وتحقق نجاحه، بالإضافة إلى أنها لغة شعرية المبنى والوزن واقعية المعنى، لكن كل ذلك الحشد والتناص، الذي ينم عن ثقافة المؤلف العريضة جدا لم يكن له من غاية سوى خدمة الفكرة الجوهرية للمسرحية والسياق العام للبناء الدرامي.. فجاء بلا حشو يعطل دينامية الحركة والإثارة في مسار المسرحية، ومن ثم فقد بدا جلياً أن توظيفها ليس له من غاية سوى تجسيد الصراع صعودا حتى الوصول إلى الذروة وهبوطاً حتى الوصول إلى الحل..

ومن الأمثلة على التضمينات والتناص بعض لافتات الشاعر العراقي أحمد مطر ويقول في أحدها: “أبالغ في الانحناء لكي أزرع القنبلة” وكذلك لحن أغنية جيفارا الذي يردده الممثلون همهمة في مشهد ظهور جيفارا، واقتباسات وتناص أيضا مع بعض قصائد درويش وتناص وإحالة إلى قصيدة أنشودة المطر- المومس العمياء للشاعر العراقي بدر شاكر السياب التي يقول في بعضها “من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف؛ من أي وجر للذئاب؟؛ من أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب؟… إلخ”، وغير ذلك الكثير جدا الذي لا يتسع المقام لحصره..

هذه الملكات والإمكانيات التي يمتلكها الكاتب الإماراتي إسماعيل عبدالله لاينبغي لها أن توهب كما وهي لا تكتسب.. إنها عطية من غيابات الماضي

فكرة المسرحية تقوم على أن تجسد برمزية، كما يظهر من الشخصيات وأقوالها، ذلك الصراع الدائر في الوطن العربي الذي تحكمه أربع فئات حاكم مستبد وجيفاريون وشيعة وإخوان مُضطهِدوُن للخلق، وكلهم ظالمون لشعوبهم مؤدلجون جيدا وبما يكفي لمزج الدين بالسياسة لمئارب وغايات تهين المؤسسة الدينية وتضع من شأن ما يعتقده الناس، أو ما كانوا يرجونه فيها، وسيئون بما يكفي لاستخدام شعارات الثورات لتحقيق الأطماع الشخصية والوصول لكرسي الحكم الذي يدفعهم إلى فعل أي شيء كبشرٍ تجردوا من كل شيء يصلهم بالإنسانية والآدمية ليبدو ليس أكثر من جماعات وظيفية ليس لها سوى بعُد واحد فقط هو بُعد الوظيفة التي يمتهنونها لخدمة إيديولوجياتهم المرتبطة بالرغبة العميقة في التسلط والسيطرة..

لكن تلك الكيانات الأربعة قد تجتمع على قلب رجل واحد رغم تنافر أقطابها عندما يتعلق الأمر بالحصول على النفط على الأقل كما تصور ذلك المسرحية، وصاحب النفط هو الفئة الخامسة؛ وليس ذلك فقط بل وقد يتسع الأمر إلى أن تتحالف تلك الفئات الأربع مع الشياطين وتتجرد من تلك المبادئ التي تسوق لنفسها بدعوى الإنتماء إليها، للوصول إلى تلك الغاية وهي غاية الحصول على النفط والذي بدونه لا يمكن أن يُسوُغ لهم حكم شعوبهم، لذلك فهم يسعون بشتى أنواع الأساليب بما فيها الإرهابية والسياسية والعسكرية الحربية لسلب صاحب الزيت، الذي يحتمي بسلطة ما يملكه، “زيته” مهما كان الثمن ومهما كلف الأمر…

الإخراج عبقري متناسب مع مضمون المسرحية ومتناسب مع إمكانيات التلقي لدى الجمهور…

أخيراً يمكنني القول أن ثمة أعمال أدبية وفنية على مر الزمان كانت تمثل نقاط وعلامات تحول في مختلف العصور ولا بأس إن قلنا أن مسرحية إسماعيل عبدالله التي أخرجها للنور الفنان محمد العامري هي علامة تحول فارقة في تاريخ الفن المسرحي العربي المعاصر، فهي تجسد الذروة التي بلغها مسرحنا العربي، ليس لإنها مثلا حصدت جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان المسرح العربي في دورته الثالثة عشرة للتنافس على جائزة صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حفظه الله، بل لإنها تعتبر من البصمات العربية القليلة الخالصة في فننا المسرحي العربي، ولإنها تمثيل حقيقي لما ينبغي أن يكون عليه حال المسرح العربي مبنىً ومعنى، خصوصا وهذا الفن لم تكن له هوية عربية خالصة في أي يوم فهي غربية الجذور، ولكن ذلك قبل هذا الطراز من المسرحيات: مسرحية “رحل النهار”؛ أقول ذلك بلا مبالغة وأتكئ على ذائقتي التي تصور لي ذلك من خلال معرفتي وثقافتي المسرحية التي ظلت تتنامى وتصقل منذ حوالي ثلاثة عشر عاما فقط.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش