غرفة في الهند’.. شمس الحرية تشع ضد الهمجية : أبو بكر العيادي

المصدر : العرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

غرفة في الهند” لنجمة المسرح أريان منوشكين، هي المسرحية الثانية المتوجة بجائزة بومارشيه كأفضل عرض هذا العام، بالتساوي مع “تصليح الأحياء” التي سبق أن قدمناها هنا لقرائنا الكرام، تلك المسرحية التي عرضت بـ”مسرح الشمس” بباريس، تكاد تلخص أعمال منوشكين حول فوضى العالم وعجزنا عن الإحاطة به.

اختار “مسرح الشمس” الباريسي أن يأخذ المتفرج إلى الهند، لا هربا من العالم، بل للنظر إليه وجها لوجه، وإن شئنا الدقة، لتأمل الشيطان بملء عينيه، ذلك أن أريان منوشكين وفرقتها لا يتهيبان مواجهة الإرهاب بجرأة، وإظهار مجرمي داعش على الخشبة، باستعمال السخرية كأفضل وسيلة لمواجهة التشدد.

ومسرحية “غرفة في الهند” بسخريتها من الدولة الإسلامية، إنما تطرح دور المسرح في مقاومة الهمجية، ففظائع الحروب يمكن أن تصيب المرء بالجنون، على غرار ما حصل للمخرج قسطنطين لير، مدير فرقة مسرحية كانت في ضيافة إحدى المدن الهندية، فبعد أحداث نوفمبر 2015 التي ضربت باريس، صدم صدمة أفقدته عقله، فتخلى عن مشروع عرض “المهابهاراتا”، وتاه في شوارع المدينة إلى أن عثر عليه وهو يتسلق عاريا تمثال غاندي، فاقتيد إلى السجن.

في الأثناء، خلفته مساعدته كورنيليا لتقدم عرضا يتنزل في الراهن المضطرب، ولكن الإلهام أعوزها، فراحت تقدح زناد الفكر حدّ الإرهاق، حتى جفاها النوم، وخيل إليها أنها ترى ما بين يقظة ومنام كوابيس شتى، من العمليات الإرهابية إلى نضوب المياه الجوفية وانقطاع الماء الصالح للشراب وتراجيديا الشعوب السورية والعراقية والأفغانية، وتحس بعجزها عن الإمساك بخيط كي تفهم ما يجري، وعن فهم الكيفية التي يستطيع بواسطتها تنظيم داعش انتداب الشباب بمثل تلك السهولة، وإحساسها بأنها لا تملك أي تأثير على مجريات الأحداث.

وترتادها في تلك الغفوة أطياف غاندي وتشيخوف وخاصة شكسبير الذي سينير لها السبيل، وهو يعبر لها عن أسفه لكونه لم يسخر كثيرا من الأشرار في مسرحياته، تتلو ذلك مواقف ساخرة من المتشددين الإسلاميين والهنديين وسائر الراديكاليين في شكل ساينيت على طريقة مسرح شكسبير.

وتبدو الخشبة خالية في البداية ليس بها غير كورنيليا وهي تتنقل في غلالة نوم وسط غرفة يشغلها سرير من الخشب وبعض الصناديق المزخرفة، فهي قلقة متوترة لأنها لم تتوصل بعد لتقديم برنامج عرضها لأريستيد التي تولت إدارة المسرح نيابة عن قسطنطين لير، وكانت تصرخ “دعوني أَنَمْ. لا بد لي من استراحة”.

العرض يحفل بمواقف ساخرة من المتشددين وسائر الراديكاليين في شكل ساينيت على طريقة مسرح شكسبير

ولكن صخب العالم ومشاغلها الذاتية لا تترك لها فرصة، بل تحتد في صدرها، وتتجلى تباعا في تلك الغرفة ذات النافذة المشرعة للريح والعصافير وصخب الشارع، ذات الأرضية التي تشغلها صور ومقالات عن مسرحيات تشيخوف كـ”العم فانيا” وبلاتونوف و”الأخوات الثلاث” (كانت منوشكين أخرجتها أو تقمصت دور البطولة فيها)، وأطياف من عشقتهم من أعلام المسرح ومؤسسيه كمسرح الـ”نو” الياباني، وملحمة المهابهاراتا الهندية في شكلها الشعبي “تيروكوتو”، التي كانت تعرض ليلا في القرى على الأرض المتربة لقرويين لا يحسنون القراءة، والكوميديا ديلارتي الإيطالية، ومسرح العرائس الصيني..

وفي تلك الغرفة التي تحوي هموم العالم كله، تَعرض منوشكين لمآسي البشر في سوريا والعراق وأفغانستان وسواها من البلدان التي تمزق أوصالها النزاعات، ومعاناة النساء والأطفال بوصفهم أبرز ضحايا الحروب، وانبهار الشباب بدعاية داعش على غرار شاب فرنسي متعلم التحق بالجبهة مقتنعا بخطابها الذي يزعم تخليص العالم من شروره، وكيفية تهيئة ذلك التنظيم الإرهابي للأطفال كي يكونوا قنابل متفجرة.

ومنوشكين، إذ تستدعي العالم كله إلى تلك الغرفة، لا تكف، عبر صوت مجوف الأصداء يأتي من غيب، عن التذكير بأنها لن تقدر على الإحاطة بكل المشاكل الراهنة، والتي لا تخص العالم الثالث وحده، بل هي حاضرة حتى في العالم المتحضر، انتخاب دونالد ترامب نموذجا، ولا إيجاد حلول لها، وغاية ما تقوم به هو التوسل بالفن لمقاربة القضايا الراهنة، وإن بدا أنها تطنب أحيانا حين تميل إلى نقد أوضاع ثقافية فرنسية مخصوصة.

ورغم أن أحداث المسرحية تدور في غرفة، فهي غرفة من السعة ما يجعلها فضاء يتحرك فيه حوالي أربعين ممثلا، وتمتزج فيه الألوان بالأنغام الهندية، والصور المبثوثة عن الحياة في الهند، والمواكبة للمواضيع المطروحة.

ومسك الختام شارلي شابلن، في هيئة إمام هذه المرة، يعيد تلاوة الخطبة التي ألقاها في نهاية شريط “الدكتاتور الأعظم”، وفضل المسرحية أنها تطرح كل القضايا الراهنة بشكل مباشر، ولا تتخفى خلف تشابك مظهري، بل تنفتح على الجمهور العريض، وكأن منوشكين تريد أن تقول “ادخلوا، لستم وحدكم الذين لم يفهموا فوضى العالم”.

وقد بدا النص متشظيا، ينتقل من موضوع إلى آخر، ولا يجد له رابطا إلاّ في تلك اللوحات الراقصة، فالمسرحية، التي كتبت بشكل جماعي، تراكم السؤال تلو السؤال: كيف يمكن للمسرح أن يسرد وقائع العالم؟ كيف يمكنه أن يكون شاهدا على فوضاه التي لا تكاد تمسك؟ وكيف يمكنه استكشاف تعقد ذلك العالم؟ والسؤال الأهم، من سيتحسر عليه لو هدمت مسارح الدنيا كلها

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *