تحولات الممثل واستعاراته

يشير «غروتوفسكي» ، في كتابه « المسرح الفقير »1 إلى أن كل ما تعودنا على مشاهدته وسماع من فوق خشبة المسرح يكاد أن يكون مصطنعا أو بالأحرى اصطناعيا إلا ما يخص المواجهة التي تتم بين الممثل والمتفرج. في معنى آخر، أي أن بإمكاننا الاستغناء عن الديكور والأزياء، الإضاءة والموسيقى، بل وحذف حتى النص والجمهور، الإكسسوارات والكومبارس … والاحتفاظ فقط بالمواجهة التي تقع ما بين ممثل واحد ومتفرج واحد لكي تستطيع الظاهرة المسرحية أن تتحقق.
ولقد كتب « بيتر بروك » في بداية كتابه « الفضاء الخالي »: (إن كل ما يقتضيه الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر وهذا كاف لأن يفجر الفعل المسرحي)2. وأضاف في كتابه « الضجر هو الشيطان »: (لا بد من وجود شخص ثالث. إذا وجد شخص واقف، وأخر ينظر، فهذا يعني أن هناك فعلا مسبقا، موجود فيه كل شيء، شرط أن يذهب هذا الفعل أبعد كثيرا)3. نلاحظ مما تقدم، أن الإشارتان اللتان جاءتا على سان غروتوفسكي وبروك، تشيران وبشكل ضمني إلى ضرورة الحياة وجريانها على المسرح، وهذا لا يتم إلا من خلال فعل « المواجهة » كما أراد أن يسميه غروتوفسكي، وعقد العلاقة التي تفجر الحدث المسرحي، مثلما وصفها بروك.

ونستنتج من ذلك، أن الممثل في جميع الإخراجات المسرحية، إن صح التعبير، ليس مجرد حقيقة أولية فحسب وإنما هو العنصر الأساسي الذي من غيره لا يمكن أن تكتمل الرؤية الإخراجية لا على الصعيد النظري ولا التطبيقي. ولقد شعرنا بأهمية هذا الإحساس، من المكانة والوظيفة التي أعطيت للممثل في العرض المسرحي، ومن مختلف التدخلات التي اقترحها هو كمثل والتي اقترحت عليه. وكل هذا يعتبر جزء أو بالأحرى يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من تاريخ المسرح، ومن التاريخ الخاص لأشكال العروض المسرحية التي قدمت على مر العصور.
إن ما نسميه أو نطلق عليه سلطة المخرج قد تحققت في مناخ مثير ومشوق تقريبا، وذلك لأن من أجل أن يوجد هذا الأخير ويفرض نفسه، لا بد له أولا وقبل كل شيء، من مقاومة سلطة الممثل، التي اعتبرت عن طريق الخطأ أو الصواب ليس فقط كسلطة طاغية ومميزة، وإنما كجزء من الحرية الإبداعية الجاهلة بفنها. وعلى عكس ما كان سائدا في القرن التاسع عشر في أجواء الفرق المسرحية من ديمقراطية محببة ومعقولة، فرض المخرج عند مجيئه سلطة تشبه إلى حد كبير السلطة الدينية المغلقة والمتعصبة، خاصة عندما تطالب بالهيمنة المطلقة على جميع عناصر العرض المسرحي. إن هذا المناخ القائم على الصراع، يشير لنا بشكل أو بآخر، بعدم الثقة والاحتقار الذي طغى، في بعض الأحيان،على الخطاب المتعلق بالممثل من قبل بعض المنظرين المسرحيين. إن كوردن كريك، كان يحلم، على سبيل المثال، بمسرح خال من الممثل، بل كان ينادي بممثل جديد ليس له علاقة مشتركة بممثلي عصره. وآرتو يصرح بأعلى صوته ويقول بأن الممثل: ( عنصر له أهمية قصوى، مادام نجاح العرض متوقفا على فاعلية أدائه، وعنصر سلبي محايد، مادامت كل مبادرة شخصية مرفوضة له رفضا باتا)4.
علما أننا نلاحظ عندما نرجع بالزمن قليلا إلى الوراء، أن هذه « السلطة » التي استحوذ عليها المخرج عملت، في حقيقة الأمر، على ازدهار وتطور وتجدد فن الممثل، على الرغم من أنها قد وضعت الممثل في مساءلة دائمة وقضت على هيبته كنجم. لأن الممثل حتى نهاية القرن التاسع عشر كان يعتبر هو الشخصية الوحيدة والفريدة التي تعترض طريق التكنيك الضروري والمهم للمسرح لأنه، وبكل بساطة، كان يفرض نفوذه على شباك التذاكر ويقود المسرحية نحو النجاح أو الفشل، وهذه العادة أصبحت متوارثة من جيل لأخر. ولهذا السبب كان النقد آنذاك، يحمل دائما العديد من الممثلين والممثلات، مثل، ساره برنار، جوليان باريت، وغيرهن، مسؤولية تجاهل أو الإخلال بنظام « فن التمثيل ». ولهذا يعتبر القرن العشرين فاتحة جديدة في تاريخ فن الممثل، لأنه قد سمح لهذا الأخير بأن يكتشف ثراء وحقيقة المصادر والإمكانيات التي يمتلكها.

إن أكبر نظريات العرض المسرحي قد تعاملت مع التمثيل التقليدي بنوع من التعارض وأبدت نحوه شيئا من الرفض، وذلك من خلال اقتراح نظريات وتجارب جديدة استطاعت في ذات الوقت، أن تحول وتغير وجهة فن الممثل على الصعيد التقني والجمالي. ولقد كانت جميع الجهود التي بذلها ستانسلافسكي في روسيا على سبيل المثال، تصب في هذا الاتجاه، أي في ضرورة أعداد تقنيات الممثل، وقد تمثلت في كتابين مهمين هما: « حياتي في الفن » و « أعداد الممثل »، حيث أسس منهجا يتشكل من القوانين العضوية للممثل والتي درسها باستفاضة خلال الممارسة. وميزة ستانسلافسكي الرئيسية في هذين المؤلفين، هو أنه لاشيء فيهما مبتكرا أو قادما من وحي الخيال وإنما كان نتيجة اختيار وممارسة، ونتيجة طبيعية لخبرته على الخشبة ولمدة سنوات طويلة. وقد سلك طريقه ومنهجه « لي استراسبوغ » في أمريكا، عندما أسس « أستوديو الممثل » عام 1947، مما أغنى بدوره وبشكل ملفت للنظر فن الممثل في بلاده.وكذلك نظرية المسرح الملحمي التي تطالب بظهور ووجود ممثل جديد، يتقاطع في تقنياته مع ممثل الطريقة. وقد امتحن وجرب هذا التكنيك الجديد ووضع موضع التطبيق من قبل فرقة « البرلين انسامبل ». ولقد استوحى واشتغل العديد من المخرجين على منوال ما نادى به بريشت من نظريات وتطبيقات مسرحية. بل صاروا ينطلقون منها لكي يؤسسوا بدورهم فهما ومعنا خاص بهم يخرج بنتائج لا تبتعد كثيرا عما جاء به ستانسلافسكي من نظرية وتطبيقات ولا تختلف عما نادى به بريشت من تجديدات، وهذا ما أغنى أشكال العرض وأثرى شروط اختلافاته. بهذه الطريقة اشتغل بلانشون في فرنسا، وشتيلر في إيطاليا .. وحتى أرتو الذي أعلن كراهيته الصريحة واحتقاره للممثل في عصره، لم يتراجع حلمه في ممثل جديد يكون في ذات الوقت كاهن كبير وضحية مقدسة لطقس أو عرض يصبح حدثا وتظاهرة قدرية.
بلا شك أن كل هذا قد ترك تأثيره على فن العرض وفن الممثل، ولكن من أجل التقدم إلى الأمام لا بد من النظر إلى الوراء أيضا، ولن يقوى على هذا التقدم إلا من استطاع النظر أولا إلى الخلف ومعرفة ما تم إنجازه في أوقات مختلفة وأماكن متباينة. وهذا ما نظر له أرتو في انشغاله بالممثل في الجزء الذي يتحدث فيه عن « ألعاب القوى العاطفية »5 ، هذا بالإضافة إلى أن غروتوفسكي وبريشت يعترفان بدينهما للماضي، فمثل هؤلاء الرجال يقيمون بناءهم الخاص على الأسس التي يجدونها قائمة، ولا يستطيعون أن ينكروا دينهم للماضي حتى حين يتحتم عليهم إعلان القطيعة معه وتجاوزه. لهذا نلاحظ أن « غروتوفسكي » و « روكلاف »، في الستينيات من القرن العشرين كانا يبحثان ويستهدفان ممثلا جديدا بشكل مزدوج، إن صح التعبير: جديدا بالنسبة للتحديد العادي المتفق عليه كونه مؤدي، وفي نفس الوقت، شخصية خيالية. فالممثل لدى غروتوفسكي راهب يخلق الفعل الدرامي، ويقود الجمهور إليه في نفس الوقت: (وهذا عنصر جديد في المسرح، هذا التوتر السيكولوجي بين الممثل والجمهور، فالأول يحاول أن يخضع الثاني ويبهره، وأن يزيح أي دفاع عقلي يتمسك به هذا، في حين أن المتفرج يناضل ضد « سحر » الحركة والكلمة، ويتعلق بالمنطق، باحثا عن خط دفاع أخير ضد انهيار درعه الاجتماعي)6.
إذا كان المسرح في القرن العشرين قد نجح في اكتشاف واستعمال الإمكانيات المشكوك فيها، فيما يخص صوت وجسد الممثل، فإنه في نفس الوقت، أهتم أو بالأحرى أخذ على عاتقه ماضيه وتقنياته التي كادت أن تضيع وتنسى لقدمها، وحاول إعادة تنشيطها قدر ما يستطيع.ولقد فعل ذلك كوردن كريج في مجلته « The mask », وكذلك آينا كولدوني الذي بحث في هذا المعنى والاتجاه. وفي روسيا، فاختنكوف، وفي إيطاليا شتيلر، وفي فرنسا آريان منوشكين. إن هؤلاء المخرجين والبحاثة إحياء وإعادة الروح إلى تقنيات تعود على عصور مختلفة يرجع تاريخها إلى أربعة قرون واكثر، مثل كوميديا دي لارتي.إن هذه الجهود والبحوث التي قدمت في مجال إعادة ترميم التكنيك القديم وتقديمه من جديد، قد سمح بتقديم عروض غاية في الروعة، كشفت عن براعات مسرحية عصرية، ابتعدت كل البعد عن أن تكون معلومات ووثائق آركيولوجية مسرحية.
إن هذا الانفتاح والثراء الذي طرأ على فن الممثل في القرن العشرين، جعل المخرجين والممثلين والفرق المسرحية في حركة تبادل ثقافي وفني مستمر في جميع أنحاء العالم. ولكن على الرغم من ذلك، فإن هذه الظاهرة التي كبر حجمها وتعددت مجالات اتساعها لا تعتبر جديدة: ففي عام 1912 وبعد أن قرأ ستانسلافسكي مقال كوردن كريج « فنان مسرح المستقبل » دعاه إلى مسرح موسكو الفني، كي يصمم ويخرج مسرحية « هاملت »، حيث قرر « كريج » أن يستخدم ستائر في العرض، وكان يريد أولا أن يجعلها من المعدن، لكن ستانسلافسكي أشار بجفاف إلى أن ثقل هذه الستائر يحتم ضرورة إعادة بناء المسرح، وإدخال الآلات الهيدروليكية إليه. وظل الفنيون العاملون في ورشة مسرح الفن عدة شهور يجربون مختلف المعادن، والأخشاب وحتى الفلين، ووجدوها جميعا ثقيلة. وفي عام 1923، قام « كريج » برحلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وترك بصماته وأثره هناك على الكثير من الفرق والمخرجين المسرحيين. وفي عام 1931 شاهد أرتو – في معرض المستعمرات بباريس- راقصي جزيرة بالي، فتركوا أثرا عميقا على تصوره للمسرح. وقد تركت أوبرا بكين في عام 1955 أثناء دورتها الملكوكية، في المدن والعواصم الأوربية، أثرا بالغا في المسرح الغربي لا يمكن نسيانه أو نكرانه. وغروتوفسكي مثل بريشت يعترف بدينه لكل من ديلان وديلسارت وستانسلافسكي ومييرهولد وفاختنكوف وراقصي الكاتكالي، والمسرح الياباني، والمسرح الصيني الذي جعله يذهب إلى هناك عام 1962 لكي يدرس فن وتقنيات الممثل الصيني. ويقول في هذا الصدد: (إننا حين نواجه التراث العام للتجديد في المسرح من ستانسلافسكي إلى ديلان، ومن مييرهولد إلى أرتو، نوقن أننا لم نبدأ من فراغ)7.
إن هذا الكم الهائل من التجارب، واللقاءات الفكرية والتطبيقية المختلفة والمتعددة قد طورت مفهوم الممثل نفسه وخلقت العديد من المفاهيم والمعارف والتقنيات. أضف إلى ذلك، إن تأثير المخرج عليه في مراحل التدريب وخاصة حينما يكون عضوا في فرقة مسرحية ثابتة، كان إيجابيا. لأن أكثر المخرجين الذين طوروا فن الممثل والعرض كانت لديهم فرقا مسرحية قارة وإن لم يكن، فهم يشترطون ذلك في قبل المباشرة في أي عمل. وهذا في اعتقادنا شيئا طبيعيا، لأنه لا يمكن أن يحدث تطور في مجال هذا النوع من الفنون ما لم تتوفر الاستمرارية التي تتحقق بواسطتها المعرفة المتبادلة ما بين الطرفين، ونقصد المخرج والممثل, لهذا صار من المتعارف عليه اليوم، بأن أغلب المخرجين يمتلكون فرقا خاصة بهم. وإن هذه الفرق تكتسب نتيجة لاشتغالها مع مخرج واحد وفريق عمل ثابت تقريبا، نوعا من الهارمونية والاتفاقية والدقة التي تؤدي إلى نوع من الكمال والانضباط الذي لا يمكن أن يتوفر في فرق المناسبات المسرحية. وهذا ما كان «كريك » يحسد عليه « ستانسلافسكي » لامتلاكه فرقة يشتغل معها ويعلمها ويدربها بشكل دائم. وكذلك « لوي جوفه » الذي لم يشتغل إلا مع فرقته الخاصة، و »جان لوي بارو » الذي ترك « الكوميدي فرنسيز » سريعا حتى يُكونّ فرقته الخاصة عام 1946. وإن « فيلار » لم يقبل بإدارة المسرح الوطني الشعبي إلا عندما تأكد من حصوله على فرقة ثابتة. ومسرح « الشمس » الذي يمكن تعريفه بأنه جمعية مسرحية من بين منتسبيها « آريان منوشكين »، والشيء نفسه ينطبق على مسرح « البرلين أنسامبل » من حيث هو فرقة ثابتة ولها مخرج ومنظر ودراماتورج، ومسرح « البيكولو تياترو » في ميلانو وغيرها من المسارح والفرق.
إن أكثر الطروحات النقدية التي رصدت فن الممثل الذي بدأ يفقد نجمه والتماعه في نهاية القرن التاسع عشر، كانت تصدر دائما عن المخرجين الكبار. وقد تمثلت هذه الطروحات بجمل، مثل: أداء روتيني، تمثيل هواة خالي من الإحساس، عدم مسؤولية في الأداء، نقص مطلق في المعنى الفني للعمل ,, وإلى أخره من العبارات التي كانت تنتقد فن الممثل وتأسس له بشكل مباشر أو غير مباشر نقدا مسرحيا يعني به, وهذا ما نجده دائما في كتابات ستانسلافسكي حول الممثل أو كوردن كريك، وكذلك لدى أرتو وبريشت.
إن العصر الذي نتحدث عنه، هو أيضا عصر ما يسمى بـ « الوحش المقدس monstres sacrés » : سارة برنارد وجوليا بارتي، وموني سيلي، وهو عصر أب وأم كوردن كريك وإلين تيري وهنري إرفين وغيرهم من الممثلين الذين لا يمكن أن ينساهم التاريخ البشري لما بذلوه من جهود وتضحيات من أجل الفن.
وربما من المفاجئ أيضا، أن هناك نقادا نظروا وصنعوا، في نفس الوقت، ممثلين كبار: ستانسلافسكي لم يتوقف عن تمثيل أدوار لا تنسى على امتداد حياته الفنية؛ وكوردن كريك أكد في شبابه على إمكانيات خارقة للعادة وخاصة في تمثيله للأدوار الشكسبيرية، وأن المسرح فقد الكثير حينما قرر اعتزال التمثيل والتفرغ للتنظير، وكذلك أرتو كان بارعا وعبقريا في أداءه في المرات القليلة التي مثل بها، وإذا كان بريشت لم يزعم انه قد اعتلى خشبة المسرح، (فهناك العديد من الشواهد والثوابت التي تؤكد بأن الموهبة لم تكن تنقصه خاصة وأنه كان واحد من أهم المنظرين لفن التمثيل المعاصر) .
إن تعبير « الوحش المقدس monstres sacrés »، نفسه أوحى بوضوح للكثير من المسرحيين المجددين بالابتعاد قدر ما يمكن عن هذا النوع من الممثلين إلا في حالة رضوخ عبقريتهم التمثيلية لإرادة المخرج الإبداعية، مثلما فعل « ستانسلافسكي » و « اليونورا ديس » مع « كوردن كريك »* و « جيرار فيليب » مع « فيلار ».
في البداية، ظهر الوحش المقدس فوق خشبة المسرح مثل كائن خاص، فهو وحش، وفي ذات الوقت، بالمعنى المتداول- الممثل الذي يتحدى جميع الأنظمة، والذي يغير ويتجاوز جميع القوانين المسرحية إذا اقتضى الأمر- وهو في المعنى الأصلي لكلمة « ساحر » يعني وحش أيضا. وإن هذا التفرد، بحد ذاته، قد أعطى للممثل من هذا النوع إمكانية أن يوجه ويقود جميع العروض وفقا لتصوره وإحساسه الخاص

———————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. محمد سيف – فضاءات مسرحية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *