حياة.. كُرست للمسرح

ترك الكاتب والمخرج المسرحي “جبار صبري العطية”، إرثاً مسرحيا تجاوز الثمانين عملاً توزع بين التأليف والإعداد والإخراج والبحوث التوثيقية عن المسرح و الأوبريت. ” العطية” ارتقى خشبة المسرح حينما كان تلميذاً في الدراسة الابتدائية عام 1950،ومثّل في الدراسة الإعدادية في مسرحيتي”أهل الكهف – لتوفيق الحكيم” و” عرس الدم- للوركا”، وأخرجهما أستاذنا “محمود عبد الوهاب” 1956 – 1957، كما و مثل في مسرحية “المرؤة المقنعة”-1958 – أخرجها أستاذه ” زكي الجابر”. تحاشى جبار العطية في سيرته وكتاباته وأعماله المسرحية ، مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ، وبقي ينشد الحق والحرية والعدالة الإنسانية ، متوجهاً إلى الناس الذين طحنتهم الحياة وقسوة الأنظمة المستبدة، معرياً التواطؤات بوضوح، بعد أن أمسى فيه الوضوح سبة، وظل يفخر بمسؤوليته ووضوحه، وقد جوبهت نصوصه المسرحية،بعد 1978، بالإهمال والتجاهل بحجج واهية وذرائع قصدية، كما تعرضت للسرقة ، خارج العراق زمن الحصار، وواجه ذلك في قاعة “بهو الإدارة المحلية”- التي أحرقت وهدمت بعد سقوط النظام، وتحولت الآن إلى”مول”؟! ، بجرأة كادت تودي به ولم يتراجع حتى تم الاعتراف له بذلك. أسس مع مجموعة من فناني (البصرة) عام 1960 ” جماعة المسرح المعاصر” وقدمت بعض العروض المسرحية.وللـ(العطية) سبق الريادة بمسرح الطفل، فقدم أول مسرحية خاصة بـ(مسرح الطفل) في البصرة عام 1961، كما أخرجت المخرجة” منتهى محمد رحيم” مسرحية كتبها للأطفال وعرضت في بغداد زمن التسعينات. انظم إلى” جماعة كتابات مسرحية”،التي اتخذت “نادي الفنون” مقراً لها وقدمت بعض العروض المسرحية على قاعته و حدائقه. اخرج وقدم على قاعة(التربية) -عتبة بن غزوان حالياً- مسرحية( المنجم) للشاعر(معين بسيسو)،وشارك في العروض التي كانت تقام في البصرة، بـ(يوم المسرح العالمي) ،وأخرج أوبريت” نيران السلف” لصالح فرقة “نادي الموانئ المسرحية”، وتلحين الفنان ” مجيد العلي”،وعرض في بغداد والبصرة، كما عرضه تلفزيون بغداد الذي قدم من تأليفه أكثر من سهرة “درامية- تلفزيونية”. نرى إن السيرة الثقافية- المسرحية للراحل (العطية)

متعددة و غنية ولا يمكن الإيفاء بها ، كونه كرس حياته كلها للمسرح، وختمها في وصيته ،التي أشهرها المسرحي “هلال العطية” في أربعينية الراحل التي أقامها اتحاد أدباء وكتاب البصرة ، وقد تمنى فيها :”أن يُصنع تابوته من أخشاب المسرح و كفنه من ستارته، و يُخصص له مقعد خاص به ، في كل عرض مسرحي يقدّم في المدينة”. تعرض العطية لتعسف النظام المنهار،فتم اعتقاله ،و نقل من عمله في التعليم ،وعند تأسيس “معهد الفنون الجميلة “في البصرة تم التعاقد معه للعمل فيه بصفة ((خبيراً مسرحياً)) لكن الجهات الأمنية لم تمنحه الموافقة ، بسب توجهاته الفكرية المعروفة.بعد سقوط النظام أصدرت”محلية الحزب الشيوعي العراقي” في البصرة، جريدة”الحقيقة” الأسبوعية، فزودها (العطية) بعدد من مذكراته الشخصية المرتبطة بنشاط الحزب الشيوعي، بين الطلاب وفي المحلات الشعبية البصرية ومنها :”الخندق والتميمية و العطيرية “، ووثق فيها بأمانة وذاكرة يقظة، النشاط الدؤب للحزب الشيوعي في تلك المحلات الشعبية،قبل وبعد 14 تموز 1958، وكيفية كسب الناس للعمل الوطني-الديمقراطي ، بوسائل محترمة ومبتكرة،مما جعل تلك المناطق شبه مغلقة لنشاط الحزب الشيوعي العراقي،لكن اعصار8 شباط الدموي1963 فتك بالروح الاجتماعية-الثورية التي عرفت بها تلك المناطق. تميز”جبار صبري العطية” بوفائه للمبدعين البصريين الأحياء منهم أو الذين ارتحلوا ، ووثّق حياتهم وأعمالهم الأدبية والفنية في أعماله الموندرامية ، وتعامل فيها بصفتها فناً جمالياً وشاهداً على مرحلة التسعينات ، وما رافقها من حصار قاسٍ خَلفَ انهيارات جمة في العلاقات الاجتماعية العراقية ،و قدم “العطية” من خلالها محن الإنسان وهمومه الحياتية اليومية والروحية، ملامساً العلاقات الاجتماعية من دون أن يُضيّقَ بها توجهه المسرحي- الفني. لقد فَعّل” العطية” في ” موندراماته” ، مخاطبة الآخر، وليس الآخر نقيض الذات أو الأنا المتضخمة التي تغدو بمثابة التجسيد لكل ما هو غير مألوف بالنسبة للذات الإنسانية، بل الآخر بصفته المصدر الحقيقي للأنا التي لا تستطيع أن تتخلق أو تتعايش خارجياً ضمن انعزاليتها المغلقة إنسانياً – اجتماعياً ، دون أن تتماس مع الآخر، وتدين القوى التي تسعى لأن تشوه طهارة ذاته ونقائها. والآخر الذي كتب عنه ” العطية” وأدخله بصفته جزءاً من كيانه الشخصي بنزوع أخلاقي رفيع ليس (جحيماً) ، بل قدمه،في موندراما “تحت المطر” ، خلال” 12 ” مشهداً، ومعه مدينته التي يعيش فيها ، وله فيها علاقات لا حدود لها، وتدمرها نتائج حرب الثماني سنوات وما

رافقها من قصف مدفعي على “البصرة”، وتواصل انتهاكها عبر التعسف السلطوي ، ويتجلى ماضيها الغني الإنساني عبر شواخصها الدالة عليها، وتختلط زققة “طائر الحب”وهو داخل قفصه ،في الموندراما، بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب ، أو المغدورين في أمكنة وأزمنة أخرى، وتعلقهم بين ثنائيات: الحياة – الموت ، الحب – الكراهية ، المقت-التسامح ، الثأر- الغفران، الأمل- اليأس . ويبرز النزوع الطبيعي لتشبث الضحايا بالحياة ، خلال أجواء الحرب وكآبتها بأصوات القذائف والأجواء الموحشة المحيطة بالمسكن وساكنه الوحيد ، ويظل متوحداً مع ذاكرته المتوقدة ووجوده المهدد بالفناء في أية لحظة قد تسقط فيها قذيفة على مسكنه ؛ ويستحضر رجل- الموندراما- ، تلك الحياة المدينية والاطمئنان والدعة والسلام التي كانت تتميز بها مدينته وأجهزت عليها سنوات الحرب، من خلال طائر الحب ، المحبوس في قفصه و المرعوب، بافتراس الموت له في لحظة ما. ويُلاحظ أن البطل في مونودرامات “العطية” المتعددة ، قد تجاوز مرحلة الشباب العاصف ومفعماً بالصبر والتأني والحكمة ودقة التصورات والرؤى العامة المتسعة، ولا تشغله المطامع الخاصة أو المنافع الذاتية ويتحرك على وفق قناعاته الشخصية- الاجتماعية ويواجه امتحان الخيارات الإنسانية بتوتر ؛ خاصة في زمن البؤس التسعيني المغلف برثاثة الحياة اليومية . وتغدو ذاكرة البطل، خلال منولوجاته الخاصة ولغته الرمزية الدالة ، والمفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينات ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الإنسان العراقي. و يستحضر- الرجل- الوقائع الدموية التي هرست كل الأحلام والتمنيات بعجلاتها المسننة وسط أصوات المدافع وراجمات الصواريخ والدبابات، وهي تجوب المناطق السكنية التي تزعق في شوارعها سيارات الإسعاف لتلتقط ما قد بقي من البشر الذين كانوا يحترقون بنار القصف اليومي و بقايا جثثهم في المدينة- البصرة تحديداً- خلال عام 1987 ، حينما بات القتال يجري على أقرب القصبات لمركزها. في موندراما” تحت المطر ” يحاور الرجل عائلته التي ارتحلت بعد سقوط قذيفة على بيتها، وطائر الحب وهو في قفصه وتُرك دون طعام وماء، و مستخدماً الهاتف، لمعرفة مصائر أصدقائه ومعارفه من الكتاب والفنانين، ولا أحد يرد عليه ، ومع ذلك فهو يحاور ويسرد كل ما يستطيع أو يرغب ، ويستعيد المدينة وبعض علاماتها الثقافية الدالة عليها ومنها: أستاذه في الصبا وصديقه في الكبر صاحب “القطار الصاعد إلى بغداد” ، والقاص الطباع صاحب”الندبة

الزرقاء” ، والشاعر”حارس فنار المدينة” الذي ينشغل بأعداد “الوليمة للزائر المجهول”، و صديقه القاص و”ساعاته كالخيول” وهي تجوب “مملكته السوداء” ، ويستمتع -الرجل- وهو في وحدته بنثيث “أناشيد المطر” متطامنا مع الأضواء البعيدة المتوهجة لـ” شناشيل ابنة الجلبي”، ومعلمه صاحب “مجرى الاوشال”، وجماعته المعنية بـ”كتابات مسرحية”، وعلامات ثقافية أخر عرفها وقرأ لها وحاورها و مثل معها وأخرج بعض مسرحياته بتعاونها معه، وأمكنة ذات نكهة محلية تاريخية فريدة تتميز بها مدينته، و يأسى لرفرفة طائر الحب المرعوب، ويستخدم الكاتب موسيقى للموندراما متداخلة مع زققة الطائر وأصوات انفلاقات القذائف للتعبير المجازي عن ثنائيات، الحرب-السلام، الحب- الكراهية ،الأمن- الفوضى،امتلاء المدينة- وفراغها الموحش، النزوح- البقاء. ويعلو صوت الرجل وهو يخاطب بكل ما في أعماقه من حب ووله، البيت- الوطن ،المهدد-المستباح، وبعد انفجار قريب منه يردد: ” ايها البيت المرسوم في حدقة العين.. الساكن في القلب..منك ابتدأ الحب.. وفيك آخر الحب..وبينهما يكبر العمر مزهواً بك “. ثم يفتح الرجل باب القفص لطائرهِ ، ويغادر “طائر الحب” قفصه ،ويظل يدور ويزقق بتواصلٍ وحنان داخل البيت الذي تهاوى طابقه الثاني بفعل قذيفة حرب سقطت عليه، دون أن يدنو- الطائر- من بابه الرئيس المشّرع تجاه الخارج،ثم يحتضن الرجل طائر الحب ، والذي يبقى يواصل الزقزقة.

 

 

جاسم العايف

 

https://www.kitabat.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *