تأملات حول مسرح تولستوي

تولستوي مسرحيا – موضوع ممتع وحيوي جدا في تاريخ الادب الروسي ومسيرته , على الرغم من انه ليس بالموضوع الجديد بالنسبة للقارئ العربي بشكل عام اذ تناوله الكثير من الباحثين , ولكني اعود اليه الان لاني تحدثت هاتفيا قبل ايام مع الاستاذ عبد الله حبه ( أحد أبرز المثقفين العراقيين المقيمين بشكل دائمي في موسكو منذ اكثر من نصف قرن والذي سبق لي ان كتبت عنه مقالة بعنوان عبد الله حبه والادب الروسي ) حول ذلك المسرح والذي سألني – هل ان الدكتورة المرحومة حياة شرارة قد ترجمت مسرحيات تولستوي الى العربية حسب علمي ؟ فقلت له كلا , انها لم تترجم مسرح تولستوي وانما قامت بترجمة مسرح بوشكين , فاخبرني انه اتفق مع احدى دور النشر في الخليج – اثناء زيارته الاخيرة ومشاركته بمعرض الكتاب في الشارقة – وانه سينشر هناك ثلاث مسرحيات مترجمة من قبله لتولستوي قريبا , ففرحت جدا بهذا الخبر و حييته على هذا العمل العلمي الجميل وقدمت له التهاني على هذا الانجاز الحقيقي فعلا لتعزيز الحركة الثقافية والمسرحية في عالمنا العربي , وسألني كذلك – وهل هذه المسرحيات مترجمة الى العربية بشكل عام ؟ فاجبته نعم , كل مسرحيات تولستوي مترجمة عن الفرنسية ومنشورة في سوريا عام 1989 من قبل وزارة الثقافة هناك و بترجمة صيٌاح الجهيم ( وريث المترجم الكبير الدكتور سامي الدروبي ان صحٌ التعبير ) مع مقدمة تعريفية جميلة بقلم المترجم حول مسرح تولستوي, وان هناك بعض الترجمات الاخرى عن الروسية التي قام بها بعض الزملاء المصريين وتم نشرها في الكويت في حينها ضمن سلسلة المسرح العالمي المشهورة, ولكني أكدٌت له ان هذا لا يمنع ابدا من اعادة ترجمتها للقارئ العربي مرة اخرى , لان كل ترجمة جديدة لتلك المسرحيات الى اللغة العربية هي اجتهاد شخصي اضافي جديد

ورؤية ذاتية بحتة للمترجم تجاه تلك الاعمال الابداعية الخالدة خصوصا من قبل شخص متخصص في الفن المسرحي العراقي والروسي وبهذا المستوى الرفيع من الثقافة والخبرة مثله , ولهذا فان تعدد الترجمات هو عمل فكري جيد جدا يساهم باغناء ثقافتنا و تعميق معرفتنا ويوسٌع مداركنا ويوقظ فينا الاهتمام مرة اخرى تجاه هذه الاعمال الابداعية ويدفعنا لمقارنة هذه الترجمات لنص اجنبي واحد واختيار الافضل , و قلت له انني ساكون اول المؤيدين و المصفقين لتلك الترجمة الجديدة التي قام بها عن اللغة الروسية لمسرحيات تولستوي عند صدورها , واريد ان اقول له ايضا هنا , ان المترجمين العرب مثلا قد ترجموا عنوان مسرحيتين شهيرتين من مسرحيات تولستوي باشكال مختلفة جدا , الاولى وهي – ( ثمار التنوير / ثمار التربية / ثمار التعليم / ثمار الحضارة / ثمار المعرفة) , والثانية وهي – ( قوة الظلام / سلطة العتمة / سلطة الظلمة / سلطة الظلمات / سلطة الظلام / قوة الظلمات ) , ويكفي هذا المثل للتأكيد على صحة ما ذهبنا اليه هنا , ولكنهم اتفقوا – والحمد لله – فقط على عنوان مسرحيته الاخيرة

وهي – الجثة الحيٌة , والتي

سبق لنا ان تحدثنا عنها ( انظر مقالتنا بعنوان حول مسرحيات تولستوي , ومقالتنا الاخرى بعنوان ملاحظات حول مسرحية تشيخوف الخال فانيا ) والتي تناولنا فيهما الخصائص الرئيسية لتلك المسرحية وبعض ظروف كتابتها وكيف انها جاءت جوابا من قبل تولستوي على خصائص مسرح تشيخوف بالذات , والذي لا يوجد فيه احداث دراماتيكية من وجهة نظر تولستوي , وعدم اتفاقه ( اي تولستوي) مع طبيعة ذلك المسرح وبنيته , واود هنا ايضا ان اشير حتما الى مقالة الاستاذ ابراهيم العريض ( وان أشيد بها طبعا ) , وهي منشورة في جريدة الحياة اللندنية ( وفي مجلة الوسط ايضا ) وعنوانها – ( الجثة الحية لتولستوي – صورة مبكرة لانسان التردد الجديد ) بتاريخ 18/ 11/ 2009 , اذ انها دراسة علمية وموضوعية جدا حول هذه المسرحية وسماتها ( وكما تعودنا دائما في مقالات هذا الباحث الموسوعي الفذ والكبير ) , والذي وجد فيها فكرة جديدة فعلا وهي

شخصية الانسان المتردد في حسم الامور والنتائج الوخيمة لهذا التردد التي تؤدي اليها , و قد ربط الباحث هذه الفكرة الجديدة بالادب العالمي وبالذات مع كافكا في اواسط القرن العشرين , وعلى الرغم من ان هذه الفكرة تتطلب بلا شك من الباحث المذكور قبل كل شئ ان يدافع عنها امام الآخرين ويثبت صحتها طبعا , الا انها تبقى فكرة اصيلة و مبتكرة فعلا , علما اني لم اجد لها اشارة باي شكل من الاشكال في النقد الادبي الروسي حول هذه المسرحية , ومن المؤكد طبعا ان تكون هناك مصادر عربية اخرى تناولت هذا الموضوع بالذات ولا علم لي بها, ولكني اود ان اشير هنا الى ان مسرح تولستوي لا زال يثير الباحثين الروس انفسهم ولحد الان ( ونحن في نهاية عام 2014 ) , فقد تعرفت قبل ايام ليس الا على مضمون اطروحة روسية للحصول على شهادة دكتوراه علوم ( دكتور ناووك بالروسية ) في مجال الدراسات الادبية , وهي اعلى شهادة اكاديمية تمنحها الجامعات الروسية كما هو معروف , تقدم بها باحث عام 2004 الى جامعة (روستوف على نهر الدون ) حول ادب تولستوي المسرحي , وينطلق هذا الباحث من ان تولستوي حاول ان يعيد بنية الادب المسرحي ويحدد طريق تطورها اللاحق, مؤكدا ( اي تولستوي ) ان هذه البنية يجب ان ترتكز على الدراما الروحية للانسان والتشابك الدراماتيكي لحياته اليومية ويجب ان تكون شكلا من أشكال ( المحكمة ) ان صح هذا التعبير , والتي تنطلق من متطلبات ( علم الاخلاق ) بالذات , وبالتالي فان بنية المسرحية عند تولستوي ترتبط ارتباطا وثيقا بالادب المسرحي الكلاسيكي العالمي وقواعده وتقاليده ومسيرته , ولهذا فان دراسة تجربة تولستوي المسرحية وتحليلها من جديد تعني بشكل عام دراسة الارتباطات والتناغم بين الادب الروسي من جهة والادب العالمي من جهة اخرى وتأثير الادب العالمي عليه وانعكاس ذلك في مسرح تولستوي بالذات ,وهي ظاهرة جديرة بالتأمل والتفكير وتؤدي الى استنتاجات جديدة فعلا في الوعي الثقافي للقراء والمتابعين لقضايا الادب بشكل عام وحتى في وعيهم الاجتماعي . هذا وقد اثار انتباهي في خلاصة تلك الاطروحة ايضا عدد المصادر المثبتة

في نهايتها والتي اعتمدها الباحث , اذ بلغ عدد المصادر تلك 431 مصدرا , منها 394 مصدرا باللغة الروسية والبقية باللغات الانكليزية والالمانية وغيرها من اللغات , ومعظم هذه المصادر المذكورة اعلاه صادرة في النصف الثاني من القرن العشرين في روسيا واوربا الغربية , وهذا دليل آخر على حيوية هذا الموضوع بلا شك . وخلاصة هذه التأملات حول مسرح تولستوي تكمن في اننا بحاجة الى اعادة ترجمة مسرحيات تولستوي الى اللغة العربية من جديد كي ندرسها على وفق متطلبات عصرنا .

————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ضياء نافع – كتابات

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *