بين الجدران’ المسرح يدخل السجن ليعيش التجربة : أبو بكر العيادي

 

المصدر : العرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

  • جديد رجل المسرح الشاب ألكسيس ميشاليك مسرحية بعنوان “بين الجدران”، تعرض حاليا في “مسرح المشتل” بباريس، وتتميز عن سابقاتها باتصالها بقضايا الراهن من جهة المضمون، وبأساليب الكتابة الركحية التي تعتمد على المشاركة والارتجال من جهة الشكل.

بدأ نجم الساحة المسرحية ألكسيس ميشاليك حياته الفنية ممثلا مسرحيا تحت إدارة إيرينا بروك (ابنة المخرج البريطاني بيتر بروك والممثلة نتاشا بارّي) وتوما لودواريك، ثم ممثلا سينمائيا تحت إشراف سافي نيبو وديان كوريس وألكسندر أركادي، وتلفزيونيا في بعض المسلسلات أمثال “جرائم عائلية صغرى” و”كابول كيتشن” و

 

”فرساي”، ثم مخرجا لأعمال مقتبسة عن مسرحيات شكسبير، قبل أن ينصرف إلى تأليف مسرحياته، وإخراجها بنفسه. وبعد “حامل الحكايات” و”حلقة الحواة” و”إدمون”، وكلها مسرحيات ناجحة نال عنها جوائز موليير وبومارشيه والمسرح الشاب للأكاديمية الفرنسية، يقترح مسرحية جديدة بعنوان “بين الجدران”، فضاءُ أحداثها سجن.

تولّدت الفكرة يوم أن أسند بعض المساجين جائزة إلى شريط قصير أنجزه ميشاليك عن الحياة وراء القضبان، وشاهدوه على كمبيوتراتهم، فعاد مع بطلة شريطه لمحاورة أولئك المساجين، وتطرق معهم إلى معيشهم اليومي في هذا الفضاء المغلق، وإدراكهم للزمن الذي يتمطط بلا نهاية، لا سيما أن فيهم من قضى في السجن زمنا أطول مما قضاه خارجه.

ولما غادرهم ظل يتساءل عن المواضيع التي كان يمكن أن يثيرها معهم، وخطر بباله أن ينجز عملا تدور أحداثه في زنزانة، يفسح فيه المجال للمساجين كي يعبّروا عمّا يشغلهم، فابتكر شخصية مخرج يأتي إلى السجن لتقديم درس في المسرح، ولكن ليس بطريقة عمودية يكون هو فيها الباث، بل بإتاحة الفرصة للسجناء كي يتحدثوا عن أسباب اعتقالهم، وعلاقتهم بالزمن وبالفضاء الذي يفصلهم عمّن هم خارجَه.

ومن هذا السبر لدواخل المساجين، نشأت حكاية سردية مليئة بالتقلبات، على خشبة عارية، هي أرضية الزنزانة، لا يشغلها سوى سرير حديدي ذي عجلات وبضعة كراسي، ومشجب عليه ألبسة يغيّرها الممثلون تباعا لتقمص أدوار مختلفة، وميشاليك من القلائل الذين يتوصلون إلى إنتاج عمل مسرحيّ ناجح من لا شيء، وبوسائل محدودة.

ألكسيس ميشاليك قادر على إنتاج عمل مسرحي ناجح من لا شيء، وبوسائل محدودة

البطل ريشار مخرج قبِل عرضَ مرشدةٍ اجتماعية شابة لتنشيط ورشة تمثيل داخل سجن ينزل به أكثر السجناء عنتا وتمردا، فأمّل أن يُقبل على درسه عدد هام، قد يفتح أمامه إمكانية تقديم دروس أخرى تتيح له كسب مقابل مادي مريح، ولكنه لم يجد في انتظاره غير سجينين، أحدهما أنج رجل فظ في الخمسين من أصول كورسيكية، والثاني كيفن، شاب أهوج من أصول عربية.

ويبدأ الدرس بكيفية يتباين فيها سلوك المخرج من جهة نقده اللاذع للمسرح المتعالي على الجمهور “أمامكم مسرح، وفي المسرح نضجر أحيانا..” مع سلوك السجينين المتنطع، تحت أنظار المساعدة جانْ التي نكتشف أنها طليقة المخرج، والمساعدة الاجتماعية التي سنعرف أن لها دوافعَ خاصة في مساندة ورشة التمثيل هذه.

ورغم ما شاب خطاب الرجلين من تهور واستهتار، يقرر إنجاز درسه، فيشرع في استدراجهما للحديث عن ماضيهما والأسباب التي أدت بهما إلى الانحراف عن سواء السبيل حتى حوكِما وسُجنا، فأما أنج فيمتنع في البداية عن الحديث ويلزم الصمت، وأما كيفن فيعترف أنه لا يحمل أي ذكرى سعيدة عن أيام طفولته، إذ نشأ في أسرة مفككة، تتكون من أب عنيف وأم سكيرة، وإخوة التقطتهم منظمة رعاية الطفولة، وعاش مراهقته وحيدا بلا راع ولا دليل، حتى انحرف وباء به انحرافه إلى السجن.

ثم تتعدد الشخصيات، وتتناسل الحكايات، ويأخذ بعضها برقاب بعض، لتشكل مثل قطع المربكة حكاية متكاملة تنبض بالحياة، وهو الأسلوب الذي توخاه ميشاليك في أعماله السابقة، فالحكايات عنده تتوالى دون أن تلتزم بخطية زمنية، بل يعتريها دائما تشابك وتضافر وارتداد، في كتابة سينمائية يخطها خيال مجنّح.

لقد استطاع ميشاليك، الذي يهوى بطبعه الحكايات المتضافرة والمصائر المتشعبة كما في مسرحياته الآنفة الذكر، أن يخلق عملا يسمح له بإبراز حقائق كل بطل من أبطاله، والمرور بهم عبر دروب الخيال إلى الحرية، فهو يجرب الكتابة الركحية ليحملنا إلى ما نحسبه حدا فاصلا بين الحياة والمسرح والحال أنهما متنافذان، ويخلخل الجدران التي نخالها منيعة، فإذا هي بفضل الخيال هشة، سهلة الاختراق.

بقي أن نقول إن فكرة إدخال المسرح إلى السجن ليست جديدة، فقد رأيناها مثلا في مسرحية “تمثيل” لكزافييه دورانجي، والفرق بينهما أن التمرن على التمثيل عند دورانجي صدر عن المساجين أنفسهم، إذ عرض أحدهم على رفيقه، الذي عرف التمثيل والإخراج قبل حبسه عن جريمة قتل، أن يخلق منه نجما كوميديا، في حين أن ميشاليك استعان بمخرج يدرب المساجين ليجعل درسه مطية للحديث عن المشاكل الراهنة التي يعاني منها المجتمع الفرنسي، وتدفع ببعض الشبان إلى ارتكاب المحظور، وعن أحلامهم المجهضة، وأخيلتهم وأمانيهم حين يودَعون زنزانة، وعلاقتهم بالزمن الذي لا يمضي، وبالآخر الذي يعيش عيشة معتادة، هناك، في مكان ما من المدينة، أو الضاحية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *