النص والنقد.. فوضى أم نظام؟/د. جبار صبري

 

المصدر / الصباح/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

تصوّر أن طريقا آخذة بك الى الفهم والمعرفة ، وكانت هذه الطريق قد بنيت على أسّ صريح اعتمد المعادلة الآتية : العالم فوضى في أصله وحينما يدخل عليه العقل يصبح منتظما . وبذلك نفهم ان النقد وهو شكل من أشكال تجليات العقل يعمل بالضرورة على جعل نصوص العالم المضطربة لحظة قراءتها ، كشفها ، نصوصا معقولات خرجن من محاضن الفوضى ودخلن محاضن النظام .  اذن ، نحن في قوننة واضحة في مجالات النقد مفادها : النقد ضرورة انتظام . إذ بمستطاعه أن يعقلن العالم / النصوص . يضفي عليه طابع الوعي والحساب والقياس والحدود والتكرار فيجعله في انسجام تام بعدما كان في فوضى تامة قبل ذلك . وان النقد كضرورة نظامية لم يقل الا كلمة فصل واحدة وهي ان جميع ما كان قبل دخوله مصهر النقد كان في فوضى متلازمة معه . فوضى تكون في اصله . داخل انموذجه ، وهي واحدة من قابلياته الممكنة في الوجود . فوضى أكسبته البقاء . وفي هذا مؤشر عنواناتي صريح ان عالم الابداع هو عالم ← لا وعي . ذلك اذا افترضنا ان النقد هو وعي+(موجب) فانه يتضامن مع افتراضنا ان العالم المنقود هناك هو وعي− ( سالب).    كذلك بغض النظر عمّا تمرحل به النقد من مداخل مختلفة الا ان الشفرة التي احكمت طوقها عليه في ثبات صدق التجربة لم تخرج من ان النقد ضرورة نظام لعالم تتمفصل في أشكاله وعضوياته وخطوط او مسارات حركته كل اشكال او تفاعلات الفوضى . وسواء كانت مراحله الاولى في عنوانها : النقد السياقي . اي مناهج النقد التاريخي او النفسي او الاجتماعي او الاخلاقي .. والذي يتلازم بمشفرة التعقيل والكشف والحدّ بمدركات معلومة ومتّسقة لكل المعاني المخبوءة في نصوص العالم عبر نصوص مؤلفيها حصرا او كانت قد أقبلت في مرحلة ثانية عنوانها : النقد البنيوي. اي مناهج النقد البنيوي او الشكلاني او الاسلوبي او النقد الجديد .. والذي هو الاخر اعتمد تعقيل عضوياته الداخلة فيه كأصل لتعقيل نصوص العالم عبر مدار نصوص العالم ذاتها او كانت تلك المرحلة قد انعطفت باتجاه مرحلة عنوانها : نقد القراءة والتلقي. أي مناهج النقد التأويلي او التفكيكي او السيميائي او التداولي .. والتي جاءت تعقيلات النصوص عبر آخر . قارئ هناك يلملم اجزاء ما تساقط من آثار بدالة المؤلف او دالة النص لأجل تعقيل تلك الاجزاء المختلفة بقراءة ذاتية لنصوص العالم المفتوحة . هذا يعني ان كل نص هو فوضى نص بدالة اضطرابه التكويني او المعنوي لان النص هو تعدد والتعدد اختلاف وبالضرورة ان الاختلاف هو ← لا نظام . ان النص جسم يطلب معنى ما والجسم مشروط وجوده بشرط الحسيّات المدركة لهوان تلك الحسيّات تظل في دائرة التعدد واللامعنى حتى يحتويها العقل فيؤسس لها وحدة من جهة ، ويؤسس لها معنى عقلاني من جهة ثانية . اي ان العقل يخرج النص من تعدده وكثرته الحسية حتى يدخله في مصهر الوحدة او الكلية ( المعنوية).
كذلك نفهم ان النص جسم يمكن تبيانه من تبيان سخونة حركاته واختلافاتها وما نتوافر عليه من طاقة نلاحظها لاحقا هي معنى يتغطى به ذلك الجسم . ان الحركة المرئية عنوان اضطراب عكس الطاقة اللامرئية التي هي عنوان انسجام . اي ان الجزئي مثقل بالحاجة والاضطراب بينما الكلي ممتلئ بالاكتفاء والانسجام . ولمّا كانت كذلك كانت الاجزاء المنفعلة بالحركة هي اجزاء مضطربة لا قبل لها بالنظام لأنها لا قبل لها بالاتزان الاولي . ونحن نفهم من ذلك الاتزان الاولي الذي يفقده الجسم ابتداء : ان الطاقة / المعنى لاحقة عن الحركة ولما كانت لاحقة دفعت النقد ان يكون لاحقا عن النصوص وكأن أولية الحس كانت سابقة على آخرية العقل . تلك الآخرية التي تخارجت بمسمّى النقد او هي شرط التنظيم المتأتي من بعد شرط الفوضى . وسواء كان التعالي الفلسفي الذي يشفرن العالم : مثاليا او ماديا ، كانت مداخل النقد بعنوانات مراحلها الثلاث : السياقي ، البنيوي ، القراءة والتلقي قد اعتمدت المدخلات اعلاه المتوافقة على فرض ان العالم نصوصه في فوضى حتى اذا جاء النقد عقلنها فانتظمت به . اي العالم بأصله هو لا وعي والذي بمستطاع النقد ان يجعله وعيا .. وهكذا كان النقد ضرورة نظام . لكن ثمّة إشارة تغاير في ضرورة العمل : بالإمكان قلب المعادلة على نحو ان النقد ضرورة فوضى لا ضرورة نظام ولأسباب يمكن ايضاحها كالآتي :
1 – قولنا المستمد من عوالم الكيمياء الذي يؤكد ان الشيء متزن ابتداء قبيل حدوث التفاعل عليه وهو في لحظة صفرية كما يبين ذلك علنا قانون الحرارة الثاني .
2 – التفاعلات مهاد للحس وهي طريق الما صدق في التجربة ولولاها لما أدركنا الحركة .
3 – الطاقة اصل تلك التفاعلات ، بها تدرك عمليات الحركة او التحولات . وهذا يعني ان الطاقة لها الاسبقية الكمونية في النصوص لا كما فهمنا للمعنى في مجالات النقد السابقة التي تؤكد ان الطاقة / المعنى لاحقة عن الحركة .
اذن ، سؤالنا ان النقد ضرورة فوضى هو اساس انتاج مدخل نقدي مغاير يكون النص فيه نظاما والنقد فوضى لا كما عرفنا في سالف مناهج او مراحل نقدية مترادفة مع مراحل خطابية يكون النص فيه فوضى والنقد نظام ، وبدلا من معادلة حركة ← طاقة لبلوغ المعنى وتحصيل الفهم سنأتي بمعادلة مغايرة : طاقة ← حركة. اي ان النص طاقة والنقد حركة او النص وعي والنقد
لا وعي ..
وهكذا نكون على اعتاب قبول متسع فلسفي عبر مدخل لمنهج آخر يؤكد العالم والنقد على فرض : نظام ← فوضى وينهي حقب نقدية سابقة اعتمدت العالم والنقد على فرض : فوضى ← نظام . ولنبدأ من جديد بالفهم

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *