مسرح الأقليات ومسارح أُخرى د. محمد سيف

مسرح الأقليات ومسارح أُخرى

د. محمد سيف

قبل عقود، كان المسرح لا يزال لديه مكانة في وسائل الاعلام الرئيسية في مجتمعنا، ويمكن ان يكون محركاً للرأي العام ، في طرحه اسئلة في وحول السياسة . وللأسف لم يعد الحال اليوم كما كان من قبل ، بسبب ظلامية الأنظمة وشعورها بالخطر من سلطة أخذ الكلام ، ولهذا تفضل تلكَ الأنظمة وجماهيرها , الخطب الدينية المحرفة على المسرح ، ومع ذلك، خلافاً لما يحاولون جعلنا نعتقد أن نرى إن صالات العروض ليست خالية ، والجمهور لم يتقلص، رغم عبث الارهاب ، وغلق بعض المسارح وتحويلها الى مخازن للحبوب ، وعدم دعم العروض مادياً بحجة الأزمة الاقتصادية وانخفاض الميزانية الثقافية ، وتهميش الفن عموماً ، واستخدام لغة التخويف والترهيب ، هناك دائماً ازدحام أمام أبواب المسارح ، وربما اكثر حتى من قبل , وهناك دائماً اسهامات أدبية وفنية يقدمها الباحثون تعتبر اجتهاداً في مجال المعرفة , وكتاب (مسرح الأقليات_دراسات في المسرح المعاصر) لمؤلفهِ (د.بشار عليوي) الصادر حديثاً عن “مؤسسة دار الصادق الثقافية) في بابل العراقية واحداً منها ، لا سيما أنه يسلط الضوء نقدا وقراءة ونحتاً في مجموعة من المحاور التي تتقاطع أحياناً وتلتقي أحياناً أخرى وتتداخل في أغلب الأحيان .

أن ما يريد ان يقوله الدكتور بشار عليوي في كتابهِ هذا برأينا المتواضع ، لا توجد لغة “أقلية” وإن كل لغة ، حتى لو تحدث بها عشرة اشخاص فهي تستحق الاحترام لأنها وبكل بساطة  تمرر دائماً وابداً لغزاً كبيراً من خلال الذكاء البشري ، شكوكه، احتياجاته ، احتجاجاته ، ومخاوفه , فالأنظمة الشمولية والاستعمارية الامبريالية، أرادت القضاء أو اسكات ، في مرحلة ما بعض اللغات القوية ، والرائعة ، مثل: لغة الباسك في اسبانيا، واللغة العربية التي تتكلمها أقلية العرب في ايران واللغة الكُردية التي ينطقها الكُرد ، ولغة الامازيغ في شمال افريقيا، ولغة الاقباط في مصر، ولغة الأقليات الموجود في العراق من كرد وتركمان وسريان وغيرها ، ولكن مع مرور الوقت، تختفي الامبريالية والأنظمة الشمولية، فيحين تبقى دائماً اللغات التي أرادوا اقتطاعها من جذورها هناك حيثما ولدت لتتألق كل يوم أكثر فأكثر.

يقول المخرج الفرنسي “أوليفييه بي” : (بما ان المسرح اقلية، فهو استثنائي) , إن هذا الرأي يجعلنا نتسائل عن مكانة الفن الدرامي في مجتمعنا الحالي , هذه المكانة التي أصبحت شيئاً فشيئاً أكثر هامشية من ذي قبل , والتي ينقل ميزتها الينا الدكتور بشار عليوي في كتابه الموسوم (مسرح الأقليات_دراسات في المسرح المعاصر)، الذي يجيب على هذا السؤال بشكل ضمني ، وعلى اسئلة اخرى مختلفة ومتنوعة ، تخوض أكثرها في موضوع تمسرح أفكار المسرحة ، والمسرح الذي يتحدث عن المسرح ، الذي يُشيد بالشعر الدرامي من خلال لغة الأقليات ، وفعل الإحتجاج الذي عرفهُ المسرح العالمي ومنهُ العربي، والأداء الأنثروبولوجي له في سعيه للحفاظ على هوية الشعوب المختلفة ، (اذ عمدَّ هؤلاء الأفراد الى تبني المُمارسة المسرحية كنوع من تأكيد الهوية الجمعية لشعوبهم ) كما يؤكد المؤلف في كتابهِ , فضلاً عن تقنية الكولاج في المسرح المعاصر ، ومبدا التراسل بين الفنون وأشكالها وتداخلها ، بحيث صرنا لم نعد نعرف اليوم اذا كنا نحضر عرضاً مسرحياً ، راقصاً ، تشكيلياً أو سينمائي ، نتيجة لإقتراح هذه الأشكال الجديدة تنظيماً جديداً للخشبة ، بعد ما فقد النص هيمنتهِ ودورهِ اذ صارت تحاول جميع هذه العناصر بناء قواعد نحو مسرحية جديدة , وبالتالي أساليب تنظيم جديدة في عرض القصة .

لقد تناول الكتاب العديد من الدراسات الهامة والثرية ، وخاصة في الدراسة التي كرسها الدكتور بشار علوي حول (مقترح لقراءة ميديولوجية للعرض المسرحي المعاصر)، عبرَ رصده للظاهرة الوسائطية الثقافية ، بالاعتماد على سلسلة الكتب التي كرسها الفيلسوف الفرنسي “ريجيس دوبري” ، لهذه الظاهرة ، ودراسة هذا الأخير لدور المثقف، قوة العلامات، الأجهزة التقنية للاتصال، ومغزى الممارسات الرمزية … والخ , اذ يرى الباحث (د.عليوي) في دراستهِ ان تطور التقنيات قد فرض هذا الاختصاص الجديد الذي هو علم الميديولوجيا، ليس على المسرح وحده وإنما على النقد أيضاً ، فهو ينادي بنقد ميديولوجي بديل للنقد التقليدي المتعارف عليه في قراءة العروض ويقدم بحثا لهذا الموضوع ورؤية تأملية في تأثيره وخصوبته لا سيما أن المسرح كما هو متعارف عليه ، قد نشأ من طقوس العبادة والأساطير في اليونان القديمة وإن معظم الأنشطة البشرية آنذاك مثل، السياسة، العلم، الفلسفة، والدين، قد اخذت استقلالها في اليونان القديمة ، مثلها في ذلك مثل المسرح ولكن هذا الأخير على الرغم من انفصاله واستقلاله ، كانت لهُ بعض الخصوصية ، التي تكمن بسعيهِ الدائم في المحافظة على بعض الروابط والعلاقات مع باقي العناصر التي انفصلت عنه, فالمسرح لا يمكن أن يولد إلا في العالم الذي انفصل عنه ، لأنه يشعر اولا وقبل كل شيء بالحاجة إلى الارتباط بمختلف العناصر .

يعتمد المؤلف في كتابهِ على التأثير المختلف للمسارح ، وعلى خليط من اللغات والأشكال والتجارب المحلية منها ، العربية والغربية، لبلورة بناء دراسي بحثي يجوب مختلف الأنواع والبحوث المسرحية . وتعتبر هذه المقاربة واحدة من الأفكار الرئيسية للكتاب الذي أراد الباحث ان يمرّ من خلالها لجميع المسارح في العالم تقريباً من أجل معرفة العالم نفسه. وبقطع النظر عن هذه الرؤى المتعددة للمسرح ، فالكتاب متنوع في قسميه، اللذين يتألفان من ثلاثة عشر مقالة دراسية يربط بينهم المسرح كظاهرة جمعية ومتغيرة ، من خلال عصاه السحرية فالأمر كما يبدو، لا يتعلق فقط بمسرح الأقليات والأداء الأنثروبولوجي لها ، وانما أيضا بمسرح الأفكار والافعال اللذان يحاولان ألا يكتفيا بموضوع اجتماعي أو سياسي ، وإنما بالاقتراب من مجمل الحقائق الإنسانية في كل جزء من اجزائه , فبُغية العثور على فكر المؤلف ، لا بد من المرور من خلال جميع مقالاته الرائعة ، من وجهة نظر الفكر، والممارسة وتنوعهما واختلافهما في ذات الوقت، وتجدد الأشكال، والاعمال التي لا تتحول الى ديماغوجية اجتماعية ثقافية ، وانما إلى حرص على العلاقة مع المتفرج وكذلك القارئ . فهوَ بمثابة طروحات نقدية لأجل قول الجمال أو الجميل الذي يتجاوز فكر المسرح بمفهومه التقليدي .

إن كتاب الدكتور بشار علاوي هذا، من الوفرة والغناء بحيث يجعلنا نقف مندهشين امام ثقافة هذا الباحث المتنوعة ومقارباتهِ المختلفة التي تناقش المسرح الحديث والقديم وفنون الشارع ، من وجهة نظر معاصرة ، وليست تقليدية ، طالما أنها تتحدث عن ما يحدث الأن هنا وهناك ، رغم تاريخ بعض التجارب القديم , هوَ كتاب يجمع الفلسفة بالشعر والتداولية بجماليات الإنتاج المسرحي وتنوعها , ومن ميزه الأخرى، انه لم يبق حبيس التجارب الغربية او العربية وانما استعرض وحلل وقرأ الكثير من العروض العراقية المحلية .

بلاشك إننا امام باحث مقتدر ، يمتلك زمام ادواته المعرفية، وخبرته في أحشاء المسرح الداخلية وهذا بحد ذاته ، ما سيساعد القارئ وجميع المسرحيين , على إدراك مفردات المسرح وعناصره اللامحدودة ، من خلال وجهة نظر متطورة .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *