قراءة في عرض ( wood prison ) الإيطالي .. عندما نحيا الحلم في سجن من خشب .. بقلم : يوسف الحمدان

قراءة في عرض ( wood prison ) الإيطالي ..
عندما نحيا الحلم في سجن من خشب ..
بقلم : يوسف الحمدان

أن تجعل من السجن عالما واسعا لأحلامك ، وأن تدعونا معك لنرى هذه الأحلام ونعيشها من خارج السجن وكما لو أننا نشاركك السجن والحلم في نفس الوقت ، فأنت كائن حر إلى درجة لم يعد فيها السجن قيدا لجسدك وروحك وأحلامك ، بقدر ما هو مسرح لحياة تعيشها وتتخيلها وتتشكل معها وأنت القادر على التحكم بها وإدارة دفتها نحو كل حلم تتمنى أن يتحقق بإرادة حصان مخيلتك الجامح .
هكذا رأيت السجن والحلم والحياة في تماهياتهم وتقاطعاتهم الخلاقة اللامحدودة في مسرحية سجن الخشب ( wood prison ) لمؤلفها ومخرجها المبدع وفيلسوف الحلم ( Fabio omodel ) التي أنتجتها فرقة أكاديمية المسرح بروما وعرضت على خشبة الصالة الثقافية ضمن عروض مهرجان أوال المسرحي الدولي 2018 .
وقد تمكن المخرج omodel من أن يجعل من فضاء العرض المسرحي العاري إلا من كراسي أشبه بشماعات علقت عليها أزياء واكسسوارات الممثلين ووضعت عليها الدمى التي شاركت الممثلين أدوارهم وهمهم وحزنهم وفرحهم وأحلامهم ، أن يجعل منه فضاء يعج بمعاناة وأحلام سجناء سجن الخشب الذي تتجاوز دلالته حدود الأطر الضيقة المعهودة للسجون ، لتبدو الحياة برمتها في هيئة سجن كبير متربص لحريتك في أن تفكر وتحلم في أن تكون خارج الأسيجة الخشبية الباردة وأفضيتها الضيقة المعتمة ، بحثا عن ملاذ إنساني أكثر أمنا للذات وتطلعاتها ومتطلباتها الطبيعية والضرورية .
في هذا الفضاء المعتم ، يحيا كل شيء ، وأول الأحياء هو الحلم الذي يتمنى كل سجين من جوقة هذا السجن أن يتحقق ، اللون والقمر والموسيقى والحب والرقص والحرية ، وأهمها الخروج من وعلى الروح والجسد اللذين أوشكا أن يتخشبا بسبب الإقامة الطويلة بين أسيجة وسقف السجن الخشبي البارد والرطب .
هي مقاومة مستمرة وشرسة ضد هذا التخشب ، وفي مواجهة هذه العتمة التي لا تنتج غير الموت الموازي للحياة التي يحلمون بها ، إلى درجة أن أصبح هذا الموت كائنا يعيش معهم في السجن وبين حنايا حياتهم وأحلامهم ، متجسدا ذلك في تلك الدمى أو الهياكل العظمية التي تمكن الممثلون بمهارة وإتقان من تحريكها ومنحها حياة ، لتكون مؤازرة لكل شخصية سجينة وحالمة ، معبرة عن تلك الروح التي طال أمد بقائها في هذه العتمة حتى صارت تحيا بروحين ، تأتلفان أحيان وتختلفان أكثر ، وكما لو أن المخرج omodel يأخذنا برؤيته تلك نحو أسرار السجن المخفية والمواربة في المكان المغلق ، أملا في اكتشافها والتحرر منها وإعلان التمرد عليها بمختلف الصيغ والطرق .
ولعل أجمل تلك الصيغ والطرق ، هو التحرر منها عبر لغة الجمال والفن اللذين يرى فيهما المخرج أهم وسيلة للقضاء على برودة ورطوبة سجن الخشب وقتل مختلف الأوهام والأشباح التي تحيا في عتمته ، وهذه اللغة لن تتحقق إلا بممثلين متمكنين وباقتدار على استيعاب مختلف فنونها وبشكل يبدو احترافيا وليس آنيا وفق متطلبات العرض ، لذا كان الممثلون بروحهم الأدائية الجماعية المتناغمة ، متمكنون من الرسم باللون والجسد والعزف على الآلات الموسيقية وراقصون بامتياز ومحركون للدمى باحتراف ويتملكون دربة غير عادية على فنون السيرك وكل ذلك يأتي في سياق اللغة المسرحية ومقتضيات وشروط اللعبة فيها ، انطلاقا من أن الأجساد الحرة هي وحدها القادرة على ترجمة الحلم بلغات وأشكال متعددة ، وهي المنتجة للحلم نفسه ، والذهاب إلى ما هو أبعد من الحلم ، فطالما الواقع مؤلم فالحلم يبقى ضرورة حتى حلم آخر .
في هذا الفضاء المعتم ، يحيل المخرج omodel الكراسي السوداء المحيطة بفضاء الخشبة إلى شكل يبدو أشبه بخزائن أحلام تحتوي كل القطع والاكسسوارات التي تقتضيها أحلام السجناء الأحرار لحظة التجسد في هذا الفضاء ، وإلى مخابيء واستراحات للموتى الذين يستهويهم اللعب في العتمة والتسلل إلى أرواح السجناء بعد أن ينغمروا بأحلامهم ، كما يحيلها إلى مجتمع متخيل شاهد بصمته على ما يحدث داخل عتمة السجن .
كل شيء في هذا العرض يحيا ويتحاور ، الممثلون والدمى والإضاءة اليدوية التي كانت بطلا حقيقيا في هذا العرض ، وقد تم استخدامها باحترافية عالية في أكثر المشاهد ، وكانت معبرة ودالة ومؤثرة ، بل كانت شخصية أساسية من شخصيات الألم والحلم والفرح في هذا العرض ، كما أنها أبرزت لحظات تعبيرية على أجزاء من أجساد ووجوه الممثلين لنرى من خلالها مشهديات غرائبية وانفعالية وتشكيلية متعددة ، إذ لم يلجأ المخرج omodel للإضاءة الإلكترونية أو إضاءة الخشبة إلا مرتين وفي حدود بسيطة وفقيرة جدا وإن كانت غنية في توظيفها ، وهنا يكمن التحدي الحقيقي في التعامل مع إضاءة بسيطة يدوية لتصبح عالما دالا في عرض بأكمله ، وكما لو أن المخرج يقربنا باستخدامه لهذه الإضاءة الفقيرة المعبرة من موت الزمن في هذا السجن ، سجن الخشب ، ومن ومضات الحلم التي تطفر من هذه العتمة ، ومن الكائنات الغريبة التي تسكن هواجس السجناء في مثل هذا السجن ، ومن وجوه الهياكل العظمية التي تشي بالموت المتربص والمشارك لهؤلاء السجناء سجنهم ، ولعلني رأيت في هذا العرض ومن خلال هذه الإضاءة الفقيرة ذلك الحلم الضوئي حين يكثف المخرج هذه الإضاءة لتصبح إضاءة فيضية منتشرة على خشبة المسرح وكما لو أنها صادرة من خلال إضاءة الخشبة الإلكترونية ليكون منها مشهدا كرنفاليا رائعا ومبهرا حقا .
كل شيء في هذا العرض الحلم يعج بالحياة وبالحركة وبالخفة الأدائية المتنامية ، كل شيء يبدو في هذا العرض أشبه باللعبة ، تفكك وتركب بسرعة وبمهارة وتستثمر من جديد بأشكال أخرى ، كل شيء في هذا الفضاء معد لاختبار مخيلتنا ، تلك الآلات الموسيقية الطفلية التي حولها المؤدون إلى معزوفة موسيقية ، ذلك القماش الذي تحول إلى بحر فشراع فحلم ، تلك القطع الخشبية التي تحولت إلى أبواب ونوافذ ولوحة رسمت عليه إحدى الحالمات قمرها المنتظر بعد محاولات يائسة ، فهل يوجد أجمل وأدفأ من نور القمر في لحظات العتمة وخاصة في السجن الذي تستحيل فيه هذه اللحظات إلى زمنا سرمديا مرعبا ؟ أليس ذلك حلم ؟ وهل للحلم نهاية حين يدعو السجناء الأحرار في هذا العرض إلى مساعدتهم للخروج من كل ما يمكن أن يقف عائقا أمام أحلامهم ؟
إنها مسرحية بحجم حلم لم أره متجسدا أمامي بمخرجه وممثليه الرائعين الحالمين والمحرضين على الحلم منذ زمن .. فشكرا أوال .. شكرا omodel ..

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *