قراءة في عرض ( remember ) لكوريا الجنوبية .. المخرجة hwa تشعل حريق ذاكرة اغتصاب النسوة .. بقلم : يوسف الحمدان

قراءة في عرض ( remember ) لكوريا الجنوبية ..

المخرجة hwa تشعل حريق ذاكرة اغتصاب النسوة ..

بقلم : يوسف الحمدان

بعد أن تسيدت في ذاكرتنا روح الطقس والأسطورة والسحر والموروث المتخم بأزيائه واكسسواراته وألوانه الحارة الفاقعة والمذهبة في العروض المسرحية الكورية التي تسنى لنا مشاهدتها في مهرجانات ومناسبات مسرحية دولية عدة ، تأتي مسرحية ( تذكر ) أو ( remember ) من كوريا الجنوبية لمؤلفتها ومخرجتها ( ha kyoung hwa ) والتي عرضت ضمن مهرجان أوال المسرحي الدولي 2018 ، لتقترح على متلقيها رؤية مسرحية أخرى متحررة من تلك الروح الفضفاضة التي عهدناها في أغلب العروض المسرحية الكورية ، ومتواشجة مع قضايا الإنسان في همه الإنساني الصعب والذي يتعذر نسيانه بسهولة ، خاصة ما إذا اتصل هذا الهم بالحروب وما تبعها من اعتداءات يصعب على الذاكرة نسيانها أو تجاهلها ، مثل الاعتداء على الفتيات واغتصابهن في معسكرات العدو ، وهو المحور الذي طرقت من خلاله المخرجة (ha kyoung hwa ) أبواب الذاكرة بقوة ، إذ لا يزال الشعب الكوري الجنوبي ، وخاصة النسوة اللواتي شهدن هذه الكارثة ، لا يزال يتذكرها ويحذر منها ومن تكرارها .

في هذه المسرحية تشعل المخرجة ha kyoung hwa حريق الذاكرة ، ذاكرة الاغتصاب ، عبر استذكار واحدة من اللواتي نجون بأعجوبة من هذا الاغتصاب الدامي والبشع ، حادثة ما قبل الاغتصاب ، حيث البراءة النقية تحتل مكانا أثيرا في نفوس وعلى سلوك الفتيات في حياتهن اليومية ، وما حدث بعد الحرب واستعمار إحدى الدول المجاورة لكوريا من انتهاكات غير عادية لحقوق الإنسان وخاصة النسوة اللواتي اغتصبن عنوة في معسكرات المستعمر ، ويطلق على هذه المرأة الناجية التي تستذكر الحكاية عبر إنشادها لموشح الأموات ، يطلق عليها ( امرأة المواساة ) .

ويأتي هذا الاستذكار الصاخب من الداخل ، عبر ومضات بليغة لحالات صعبة تطفر بين حين وآخر في الظلمة الاستحضارية والنور الفاضح والشاهد على عذابات النسوة المغتصبات اللواتي تعرضن لاعتداءات بشعة آلت بأغلبهن إلى الموت ، لتشكل هذه الومضات مشهدية متواترة الزمن والذاكرة في العرض .

وتأتي الموسيقى والمؤثرات المؤلفة خصيصا لذاكرة العرض ، بوصفها محورا حيا ومؤازرا لدور الشخصيات في هذا العرض ، وبوصفها مشحاذا للذاكرة الجميلة والمؤلمة ، ولاعبا أساسيا في تحديد الانتقالات المشهدية الزمنية والمكانية .

وقد وفقت المخرجة ha kyoung hwa أيما توفيق ، باستعاضتها للموسيقى والمؤثرات بديلا عن الشخصيات التي ارتكبت جريمة الاغتصاب البشعة ، وبديلا عن هوية العدو المستعمر ، وذلك كي تصبح مثل هذه القضية في متناول كل من تعرض من النساء للاغتصاب في بلدان كثيرة عانت من جرائم الاستعمار ، ويمكن أن تلامس الكثير من النسوة في هذا العالم وليس في كوريا الجنوبية فحسب .

وقد تمكنت الممثلات المؤديات لهذا العرض الاستذكاري المؤلم ، من أن يقدمن عرضا مؤثرا بوصفه قضية تبنينها وآمنّ بها ، وكما لو أنهن محترفات ولسن هواة ، فكان الاشتغال على الذاكرة المحفز الأساسي لتشكيل الروح والجسد المقاومين والمستباحين في هذا العرض ، واللذين من خلالهما تتشكل اللعبة الصعبة المرتكزة على بساطة أدائية لا حدود لها ، بعيدة عن أي تصنع أو افتعال أو مبالغات .

أداء ينسل في الروح من خلال مشهديات وامضة مبرقة ، يبدو عفويا وتلقائيا في لحظات ويبدو إيمائيا مركبا متداخلا ومتشكلا من خلال هذه العفوية والتلقائية في أحيان أخرى ، ويبدو أحيانا كرقصة الذبيح على جمر الحزن والفتك ، حيث تتشكل من كل هذا المزيج الأدائي الهائل كوريغرافيا الفدح ، وخاصة في مشهدية الهلع الذي أربك أرواح الممثلات وأجسادهن لحظة استشعارهن بقدوم العدو ، ولحظة الاغتصاب التي مزقت هذه الأرواح والأجساد وطلتها بدم السفك المجرم البشع ، ولحظة القتل المادي المضاعف لقتل الروح وهدرها .

وأعتقد أن هذه المسرحية ، وإن لم تتخللها لغة منطوقة ، فإنها بالإمكان أن تصل قضيتها إلى المتلقي وتلامس روحه .

وقد كانت المخرجة hwa موفقة في استخدام الأبيض في زي النسوة ، ذلك اللون الذي اكتساهن نقاؤه وسلامه أطفالا فصبايا فموتى ، إنه اللون الشاهد على جريمة الاعتداء على الإنسانية بوصفها قيمة مثلى ينبغي ألا تمس أو تخدش ، وكانت اللحظة التي تمزق فيه أزياؤهن البيضاء ، تشعرك وكما لو أن الاعتداء على هذه الأزياء هو اعتداء على أجسادهن وأرواحهن نفسها .

هذا الأبيض المخترق والملوث بدم العدو المغتصب ، تحيله المخرجة hwa مقبرة موشّاة بالزهور التي نثرتها امرأة المواساة على جثثهن كشاهد على الجريمة البشعة التي ارتكبت في حقهن ، ولتنهي هذه المأساة بوثيقة بصرية صامتة حية لضحايا الاغتصاب وهن يتجمعن في كتلتين حول كرسيين تعرشتا مقعديه امرأتين من الضحايا ، رامية من خلال هذه الوثيقة إلى ضرورة تذكر هؤلاء النسوة الضحايا اللواتي لم يزلن يعشن بعد في دواخلنا وذاكرتنا .

كل هذه الجريمة تحدث في فضاء مسرح عار إلا من كرسيين وسقالة ومطوية ورقية كبيرة ، تاركة كل فسح هذا الفضاء للذاكرة ، وقد كان استخدام الكرسيين للشهادة على ما حدث ، ولتوظيفه كمخدع مفضوح لحالات الاغتصاب ، الذي تستر عورته مطوية ورقية مزقت الحسرة والفجيعة أوراقها ليبدو كل شيء شاهدا بفضحه على الجريمة .

إنه مسرح القضية الذي أتقنت المخرجة ( hwa ) تشكيل أركان مقومات شكله وهويته في هذا العرض ، وهو مسرح نسوي بامتياز من حيث تناول القضية ، ومن خلال من تصدى لها من النسوة في هذا العرض ، فتحية لفراشات عرض ( تذكر ) ، فقد تعلمنا منها كيف نتعامل مع الذاكرة بوصفها قضية ، ومع البساطة بوصفها فنا ..

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *