زيناتي قدسية يرجع مع «أبي شنار» إلى مسرح القباني

 

تعطي المونودراما انطباعاً خاصاً عند الجمهور ويكون لها تألقها الخاص مع المتقنين لها، عشاق الخشبة القادرون على السيطرة عليها وإدارة كلِّ زواياها، وملء فراغها وهنا مكمن الخطورةِ الأساسي في فن المونودراما، قدرة الشد عند الممثل الوحيد على الخشبة لأن يلعب دور الحكواتي السارد للأحداث والمؤدي لها، ثم لينفصل عن ذاته ويتلاعب في طبقات صوته ليذهب إلى شخصياتٍ أخرى عايشها سابقاً أو يبتكرها الآن من بناتِ خياله، ليكون قادراً على الإيحاء للجمهور المتابع له بكلِّ انطباعات الحدث سارحاً به في تفاصيل الحكاية أو موغلاً في عوالمه النفسية ورؤيته للشخصيات المستحضرة ممتلكاً الإمكانية على شدّه وأخذه إلى عوالمه النفسية وشخصياته المتخيلة المحكيّ عنها وغير المعروضة، والتي يساعده على أدائها تقنيات الإضاءة والصوت والإسقاط الضوئي الذي بات يستخدم في المسرح حديثاً، كلها عوامل يجب أن يقف على إدارتها مخرج يجيد شد مفاصل العمل ويمنع الوقوع في التكرار والملل والارتخاء وإلا صار العرض المونودرامي منفراً والأسهل عند الجمهور وقتها أن يغادر الصالة.
يعتبر الفنان «زيناتي قدسية» من نجوم خشبة المسرح ولا يحتاج شهادةً من جيلنا في هذا الأمر فهذا الرجل الذي عايش الخشبة زمناً طويلاً، تعرفه ويعرفها لأجيال متعاقبة، تميز مخرجاً وممثلاً، واعتنى بتفاصيل عروضه، التي انتقلت من خشبةٍ إلى خشبة في سورية والبلدان العربية وبلدان العالم. رحلةٌ طويلةٌ من العطاء المسرحي نال فيها «زيناتي قدسية» الإجماع عند الجمهور في أنه وصوتَه الجهور قيمةٌ كبرى لأي عرضٍ يكون فيه، وهو من الذين أتقنوا فن المونودراما واتخذ لنفسهِ ركناً حياً في فن المونودراما لا يكاد ينافسه فيه أحد، صقرٌ وفراشةٌ في آن وهو يجول على الخشبة مالئاً بصوته أركان المسرح، جاعلاً كل مقعد من مقاعد الصالة شريكاً له في روح العرض وحيويته.
يعرف الجمهور المتابع للمسرح ولزيناتي قدسية أن عرض «أبي شنار» ليس جديداً، وكان الممثل والمخرج له قد جال به على خشبات كثيرة في العالم، وهو يسعى لأن يجول به في رحلةٍ جديدةٍ قادمة بدأها من مسرح القباني في دمشق، عرض يفتتحه أبو شنار الشخصية الفلسطينية، مستلقياً يهذي بحلم، ويختتمه مستلقياً، طالباً نوم الراحة الهانئ، ومع استيقاظه من حلمه يبدأ السرد، يجعل الجمهور كأنه في حضرة جده، أو لنقل في حضرةِ رجلٍ كبيرٍ في السن، وأغلبنا يحب جلسات الشيوخ وهم يتحدثون عن ماضيهم، ربما يهذرون ويقولون كلاماً غير منطقي وغير صحيح، ويبالغون، ولكننا نعشق هذه المبالغة والهذر واللامنطق، و«أبو شنار» في جلسةٍ يحضرها عددٌ من الصحفيين بينهم واحدٌّ أجنبي، يعرفهم ويسميهم، وهنا يقول الممثل زيناتي أسماء من الحضور الذين يعرفهم، يمازحهم ويطلب منهم التفاعل، جاعلاً من المونودراما المغلقة غالباً، مسرحاً مفتوحاً مع الجمهور، وهذه إضافة يندر أن تجدها في مسرح المونودراما.
أبو شنار الرجل الفلسطيني اللاجئ في مخيّم جباليا، يحكي معاناته سارداً في حلمه حزن خلعه من أرضه وبيته في قرية «إجزم» التي يشبّهها «بزغلول حمام تحت جنح الكرمل» ذاكراً بفيض من الحنين تفاصيلها وبيوتها ومعركة خسارتها، منفعلاً مع الخيبات التي لقيها في حياته وفقدانه لابنه «شنار» وهو طفل في الخامسة من عمره بعد أن استشهدت زوجته محاولاً البحث عنه في رحلةٍ بين الحقيقة والخيال يبدؤها من المغرب من طنجة هادفاً الوصول إلى عُمان، لأنه عرف من الحلم أن ابنه شنار كبر وصار مهندساً للبترول في ذاك البلد. في هذا الحلم يدخل «أبو شنار» في رحلة الحلم القومي العربي من الوحدة وكسر الحدود واحتفالات النصر والديمقراطية، وصولاً لتحرير فلسطين المحتلة، مستبشراً بخياله وحاملاً معه أفكاراً قومية تربى عليها جيله وحملتها أجيالٌ بعده؛ ربما لا يكون اليوم كل الجمهور مؤمناً فيها بنفس التفاعل وخاصة أفكار القومية والعروبة، إلا أنه يتقبلها لأنها ليست متناقضةً مع الفكر الإنساني والمشروع الحضاري الذي يهدف إليه أي إنسان في الحياة الكريمة، بدءاً بمن هم أكبر من «أبي شنار» في العمر وصولاً للأجيال الحالية مستمراً مع الأجيال القادمة حتى تحقيق حلم هذا الفلسطيني الجميل، الذي سيعود إلى «إجزم» قريته حتى ولو في الحلم.
يظهر الممثل جالساً على فراشٍ قديم، وقربه جرة ماء ومعه «صرة ملابس» وتحت مخدته رغيف خبز، ويبقى الممثل زيناتي قدسية جالساً طوال العرض، تظنه في بداية العرض سينهض، حتى تنسى أمر النهوض حين يخوض في غمار الحكاية، ويستعيض عن نهوضه برحلة مع الرياح من بلد إلى بلد، يقضيها بين الأرض والجو، حتى يجيء المبرر بعدم نهوضه واقعاً مؤرخاً وموجعاً، فأبو شنار لم يصب بالشلل في معركة، ولكنه أصيب بالشلل حين تم توقيع اتفاقيات الإذعان في أوسلو سنة 1993، وهنا تبرز جمالية العرض حين يظهر الاشتغال على النص من خلال تفاصيل يعرفها العقل الجمعي للجمهور؛ ولكن الممثل لا يسعى إلى تذكير المشاهدين بها بشكل دائم، حتى لا يدخل في مغبة التاريخ وتفاصيل الأحداث إنما يحدث حوار كتيم بين ما يقوله «أبو شنار» صراحةً، وبين المعلومات التاريخية التي يعرفها هو والجمهور وتشغل حيزاً من ذاكرته، بهذه الأجواء التي يقضيها زيناتي قدسية جلوساً تتبدّى المغامرة في المونودراما، فالممثلون يلجؤون إلى الحركة وربما المبالغة فيها للاستعاضة عن غياب ممثلين آخرين على الخشبة، وربما يلجأ المخرجون إلى ملء الخشبة بديكور ضخم، وأحياناً لا فائدة منه حتى لا تبدو الخشبة فارغة أمام عين الحضور، لكن زيناتي يذهب بالمغامرة إلى أقصاها ليقدم عرضه جالساً، وبخشبة خالية إلا من فراشه، متكئاً فقط على قدرته التمثيلية وحيوية الفكرة التي يسعى إلى أن تكون فناً ملتزماً يقف مع أبناء فلسطين في مظاهرات العودة التي تتكرر كل جمعة في فلسطين المحتلة في هذه الأيام.

 

 أحمد محمد السّح

الرئيسية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *