مسرحية العذاب وهواك..وخطاب العقد الثاني لمسرح التغيير

ينفتح الخطاب المسرحي في الخطاطة النصية (انا والعذاب وهواك) للمؤلفة المخرجة (عواطف نعيم) على مغايرة محسوسة عن التجارب المسرحية لما بعد 2003 في مسرح

 

 

 

(اليوم الآن) الذي تناول محنة الشارع العراقي في مقابل المرحلة التي تمر بها ثقافتنا المعاصرة في خضم الحراك السياسي والاجتماعي الذي صار يرسم أفقاً ضبابيا وغائما على ملامح التجربة الجمالية والفكرية للمسرح أحيان ويؤقلمها معه أحيانا أخرى، مما افرز قلقاً متفاوت المستويات وهذا أمر طبيعي عندما ندرك أن المسرح هو أن الحياة وان المنجز الإبداعي مرتبط بميدانه الاجتماعي.
ومن خلال ذلك نجد التجربة المسرحية ما بعد 2003 قد شهدت منجزا مسرحياً حاول التناغم مع متناقضات الشارع ونقلها في أكثر العروض نقلا حرفيا كما هو في ميدان الظاهرة – فظهر المسرح ناقلا لازمات الشارع محاكيا تقليديا لها دون أن يقدم حلولاً أو موقفاً ثقافياً منها ينسجم وتطلعات البناء والتغيير الإنساني.
في (أنا والعذاب وهواك) اكتسبت (عواطف نعيم) جولة السبق في (براعة انتخاب العنوان) واشتغاله على المغايرة مع الاتفاق الجمعي لما تشيء به العبارة من شحنة عاطفية تغزو أفق توقع المتلقي وما يمكن أن يرشح عنها في الذاكرة الجمعية، الا ان المخرجة المؤلفة النابهة قد اجتزأت المغيب من العنوان وصاغت من خلال بنية العرض، الذي عانت فيه شخوصها من وحدانية الالم الذي يتصل من طرف اخر بالمجموع – انها جدلية (الانا – الاخر الاجتماعي) عبر شخصيتين اختارهما العرض (صعلوك -متانق) وكلاهما لديه ما يبرر وجوده في ساحة المكان- في الحضور والغياب، وربما كان اختيارهما دون غيرهما من المبنى الاجتماعي، يكمن في مرونة المكون لهذه الشخصيات وفي قابليتها على إمكانية تمرير الأفكار من خلالها والتي أراد العرض أن يبثها حصرياً.
وبالتالي فهو ينم عن قراءة لعروض المرحلة المشار اليها اذ عمدت الى ضرورة ان يتم العرض بوحدة فنية بسيطة المبنى متماسكة الموضوع. لذا فقد انتظم العرض في تراتبية منطقية تفضي الى متغير هو (الحل)، على غير ما شهدناه في بعض العروض التي تكاد تكون عبارة عن (سبوتات) مجتزأة او مقاطع غير متعالقة استلت من حياة الشارع كما هي في كينونتها الحياتية لتقدم على المسرح في بنية دورانية المشاهد تفتقر لبنية الترابط وبناء التحولات الاقناعية التي ينبغي ان تتصل بوحدة الفكر المنشودة للعرض، كما هذا النوع من تلك العروض لا يضير فيه التقديم او التأخير اذ لا تراتبية تحولات ولا اشتراطية حدثية تلتزمها نصية الخطاب. إنها مجرد (مونتاج) لحالات هاجسها الحماس في التصدي لازمة الشارع يخونها في الكثير من الأحيان الوعي بادراك متطلبات المرحلة فتسقط في هوة المباشرة واللهاث وراء الإبهار والجراءة الناجمة عن نقص تراكمي وحاجة تجاوزتها المرحلة في مجابهة الظاهرة بشكل مباشر ومكشوف ودون تقديم أي حلول، إنها الحاجة التي تركتها مواضعات المرحلة السابقة ولعل هذه دعوة من خلال عرض (انا والعذاب وهواك) وما يماثله الى ضرورة إعادة النظر في بنية الخطاب المسرحي ما يعد القصد الأول في التغيير عام 2003، وكيفية تعاطيه مع الواقع وإقصاء أشكال التمظهر بحرية الرأي باستحضار الأهمية بناءه الرأي نفسه.
من هنا جاء خطاب (عواطف نعيم) المسرحي سلساً بسيطاً ومتوازناً وبالروحية المحلية الملتزمة بقصدية المسرحة الأكاديمية الجمالية للحدث وليس نقله بما يشوبه من إسفاف وترهل اجتماعي يمكن أن تتسم به عينتها القصدية المنتخبة من الشارع والتي أداها بتمكن ممثلان عرفا بالتزامهما. واحترامهما لقيم المسرح الأصيل هما الرائد (عزيز خيون) واللامع (محمد هاشم) وهذا واحد من أهم مظاهر المغايرة عما اتسمت به العروض آنفة الذكر حيث هناك خصوصية في أسلوب تناول إشكالية الراهن مسرحياً كشفت لنا عن انتمائها لمسرح عراقي ذي نكهة افتقدناها هي نكهة المسرح العراقي الشعبي في أزمنته الذهبية.
عمد العرض الى تطاير التصور الجمالي الواقعي المدرك لخطورة الفكرة في المرحلة التاريخية وصياغتها ابداعياً خارج إطار المألوف المنفلت إذ ابتعد عن معطيات التشكل الفكري التي يمكن ان تمنحها سيولة العرض نحو بنية (متماسة) بالقصدية التي يكون فيها شياً محسوباً بحسابات ابداعية جعلت منه عرضاَ نظيفاً في انتمائه للإبداع والناس في آن معاً.
فقد حافظ العرض على نمط الاقتصاد الأدائي المناسب للفكرة في بنية منطقية للفعل الدرامي وتحولاته عبر حبكة حدثية وبلغة تصويرية شفافة اتسمت بالشعرية في بناء الصورة الرفيعة للحوار وبمعادل ترتقي فيه الشخصيات المسرحية عن شخصيات الشارع في عينته المنتخبة.
أما التمثيل فقد كان امتحاناً مهماً لـ(عزيز خيون) أكثر منه لـ(محمد هاشم) اذ ليس غريباً ان يتمتع ممثل شاب مثل (محمد هاشم) بقدرات ادائية ولياقة وقدرات جعلته واحدا من المميزين المهمين من ابناء جيله اذ وظف قراءته للشخصية لقدراته التعبيرية وللحس الادائي في التعامل مع ممثل خبير مثل (عزيز خيون) الذي لم يكن في هذا الامتحان الادائي اقل قدرة وحيوية بل فاق المتوقع عبر مطاولته الادائية التي اشتغل فيها على المزاوجة الجمالية بين انتمائه وتقمصه للشخصية وبين البنية الايقاعية للعرض وتداخل تشكلات إيقاعه الادائي فيها وقد نجحت (عواطف نعيم) مرة اخرى في ان تمنحنا فرصاً متعددة لمشاهدة ادق تفاصيل الاداء من خلال التوظيف الموفق لاستخدام تكنلوجيا (الشاشات) والعرض المجاور ضمن سعيها لاتخاذ خطاب التأليف منطلقا جمالياً للخلق المسرحي بالبحث عن المعادلات البصرية وتشكيلاتها بمؤازرة السينوغرافيا ثم استبدال خطاب النص بالإزاحة الدلالية صوب خطاب العرض لتتصدى فيه الجمالية البصرية مع مالوفية الهم الجمعي ومشكلاته الفكرية التي صارت تزداد تعقيدا كلما تقادم عليها الزمن.
لذا فقد كان العرض اجتهاداً مثل سائر التجارب المسرحية التي تحتمل الصواب والخطأ ويبدو أن هذا الاجتهاد قد عمدته الخبرة وتراكماتها والقرائية والميدانية لواقع التجربة.

أ.د. يوسف رشيد

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *