بمناسبة ذكرى غيابه الـ 37 شوشو.. مؤسّس المسرح اللبناني الحديث

لن يستقيم تاريخ بيروت دون ذكر ظاهرة الفنان المسرحي الكبير «شوشو»، هذا الموهوب بالفطرة، وكأنه ولد على خشبة المسرح، وكأنه درس تاريخ المسرح في لبنان،

وأدرك واقعه، وثار عليه، لكنه لم يعرف كل هذا ، فبفطرته كان توجهه إلى الشعب، إلى الناس العاديين في «البورة» على أطراف الحي الذي يسكنه في منطقة كركول الدروز في بيروت، لم يدرس التمثيل في معهد ولم يقرأ عن التجارب المسرحية في العالم، وجد نفسه يقف ليخاطب الناس بما يشعر به ويشعرون، بكلمات صادقة من القلب، كان الدارسون للمسرح، أصحاب الإختصاص، يجهدون ويتخبطون ويلعنون حظهم العاثر في عدم تجاوب الجمهور مع إبداعاتهم، فبقيت حركتهم زوبعة في فنجان، تجمع حولها بعض النخب المتوهمة، حتى جاء شوشو بخطابه إلى عامة الناس، باللهجة «البيروتية» الصريحة، وبثيابه الرثة المهلهلة، وجسمه الضعيف النحيل، كانت لغته، وكان مظهره، يدل على أنه واحد من الناس يخاطبهم، بآلامهم وينطق بما يدور في أفكارهم، يعبر عن بؤسهم وحزنهم،وتهكمهم، شارباه اللذان يغطيان نصف وجهه النحيل وعيناه الواسعتان تلمعان فوق أنفه الدقيق، وشعر رأسه الذي استعاض بتطويله من الخلف عن صلعته الواسعة، وحركة عينيه الدائرتين يمينا ويسارا، يغطي بهما غشامته المصطنعة، كل ذلك جعل منه واحدا من الناس الذين يشاهدونه ويرون أنفسهم فيه.
لقد أحبوه وأحبوا أنفسهم من خلاله، في كل المواقف وجميع المشاهد، يقولون أن الفنان الكبير «محمد شامل» اكتشفه، وأقول أن شوشو قد اكتشف نفسه، منذ وقوفه على مسرح «البورة» في الحي، ثم ليلعب دور المهرج أمام الأطفال على شاشة الأبيض والأسود في تلفزيون لبنان، تلك الشخصية التي حدت بمحمد شامل أن يعطيه إسم «شوشو» الذي سوف يلازمه ويشتهر به، لكن الإسم لم يأسره كمقدم لبرنامج للأطفال الذين احبهم وأحبوه، فسرعان ما انطلق خارجه، ولم يكن قد أطال شاربيه بعد، فبرع بدور العبيط الذي تخرج الحكمة من فمه والتوجيه، فغنى، حب اللولو سنيناتي – بنضفهن بدياتي – لونن أبيض متل التلج – شوفوهن يارفقاتي، وكانت له أناشيد كثيرة بهذا السياق.
في هذا الوقت كان «محمد شامل» يبحث عن بديل لثنائيته «عبد الرحمن مرعي» الذي غيبه الموت، وقد اشتهر الثنائي بإسم «شامل ومرعي» باسكتشات كانت تقدم عبر الإذاعة اللبنانية، لم يكن محمد شامل ليغفل عن موهبة الشاب الذي بدأ يطرق باب الفن بقوة، فأسند إليه دورا في برنامجه الإذاعي «يا مدير»، وبالرغم من صرخة صاحب البرنامج في المقدمة «يا مدير» إلا أن الصوت الذي كان يعقبه «كيفك ياشخص» يطلقه «شوشو» بصدقه وحيويته، هو ما أصبح يشد الناس إلى البرنامج، وتعددت البرامج بالإشتراك مع محمد شامل الذي لم يكتب نصا مميزا يرتقي به بموهبة الشاب الطموح، فخرج من تحت خيمته، ليؤسس مع «نزار ميقاتي» المخرج القادم من طرابلس، بروح الواثق من قدراته «المسرح الوطني» وذهب الشريكان إلى صاحب صالة سينما شهرزاد في ساحة البرج، ليعرضا عليه استئجار صالته لقاء نسبة ستين في الماية من الأرباح ويبقى لهما النسبة الباقية، فقبل الرجل وكانت الصالة تعاني من ركود في العمل، حيث كانت تعرض الأفلام الفرنسية، الذي اشتهر عنها أنها خلاعية إلى حد ما، ما كان يبعد عنها ريادة العائلات، وتتالت العروض، شوشو بك في صوفر، مريض الوهم، البخيل، وقد بلغ عدد المسرحيات ما يناهز الأربعة وعشرين مسرحية، في فترة لم تتجاوز العشر سنوات.
كان الفنان يكثف فيها عطاءه ويضاعف طاقته، وكأنه يتوقع موته المبكر، شأنه شأن العظماء من أمثاله، حيث لم يتجاوز عمره الستة والثلاثين عاما، اقتبس عن موليير، البخيل ومريض الوهم وفي الإختيارات العديدة لأعمال لابيش ومسرحية توباز لمارسيل بانيول، بعد هذا النجاح المدوي، وجد كبار المخرجين أنفسهم يركضون وراءه فسعى برج فازليان للتعاون معه بإخراج مسرحية «اللعب على الحبلين» ثم كوميديا ديللارتي ومسرحية «كافيار وعدس» لوجيه رضوان، حيث كان التقدم نحو المسرح الإجتماعي السياسي الذي توج بإخراج روجيه عساف مسرحية «آخ يابلدنا» الذي وضعته في نطاق المطاردة من قبل أجهزة المخابرات، مشكل خطر، وكتب له محمد شامل «وراء البرفان» التي أخرجها محمد كريم.
لم يكن عمله في السينما بمستوى عمله في المسرح، غير أن المسلسل التلفزيوني «المشوار الطويل» كان إحدى روائعه الذي أثبت فيه شخصيته الدرامية إلى جانب قدرته الكوميدية، وبز فيه قدرات شارل بوييه الذي لعب نفس الدور في فيلم «فاني» الذي عرض في نفس الفترة، كان مسرح «شوشو» مدرسة لاكتشاف المواهب وتدريبها، فعلى خشبته وفي محرابه ،تعمد كبار العمالقة، إبراهيم مرعشلي وزياد مكوك وفريال كريم وماجد أفيوني، ومثله كانت أعمارهم قصار، حاز «شوشو» في وقت مبكر على عدة أوسمة منها وسام الإستحقاق اللبناني عام 1968، وفي 1971 جائزة سعيد عقل، و1973 شهادة شرف من منظمة اليونسيف، ونال تقريظا عاليا من كل من ميخائيل نعيمة وجورج شحادة.
كانت وفاة شوشو إيذانا بموت الزمن الجميل، فالضحكة المجلجلة التي توقفت، كانت الناقوس الذي أعلن وفاة المدينة، وما كان علينا سوى التحضير لمراسم دفنها،كان بالضحك يمنع قدر السقوط، وعندما غاب، انطفأت شعلة «المسرح الوطني»، وأظلمت ساحة البرج، وتوقف قلب بيروت عن الخفقان، غاب الذي كان يجمع، بفنه وبعطائه من روحه، أشتات الوطن، الآتون من الأشرفية ومن الطريق الجديدة ومن البسطا، ما عاد لهم محراب للقاء،فتفرقوا وتبعثروا، وتاهوا في صحراء الضغينة والأحقاد.
رفيقة العمر تتذكر
الحاجة «أم خضر» تتذكر، وهي تعيش على الذكرى وفيها، فقد ربت أولادها على ذكرى الغائب الحاضر دوما معها، ينير لها الدرب في تربية الأولاد وتوجيههم، حدثت، أنه في أيام مرضه الأخيرة، طلب مندوب من السفارة الليبية عيادته، فرحب على مضض، وكان لا يحب رجال السياسة ولا التعاطي معهم، جاء المندوب وهو يحمل شنطة فتحها، وقال مخاطبا «شوشو» لا نريد منك شيئا سوى أن تذكر الأخ العقيد بالخير في عروضك، فما كان من «شوشو» إلا أن تجهم وجهه، واستجمع قواه الواهية، وأمسك بتلابيب المندوب وهو يصرخ بلهجته البيروتية التي لم تفارقه «طلاع برة (شوشو) ما للبيع» وحاول المندوب أن يهدأه، لكنه لم يهدأ حتى غادر الرجل الغرفة، فقلت له كان هذا المبلغ ساعدنا في إيفاء الديون لو أخذته،  فأجابني، لو أخذته لما كنت «شوشو» منذ أول يوم بدأت فيه.
وفي قصة ثانية، أن «عاصي الرحباني» قد دعا «شوشو» لحضور إحدى مسرحياته في قصر «البيكادللي»، وكان نجاح مسرح «شوشو» قد أثر بدرجة كبيرة على مسرح «الرحابنة» رغم وجود فيروز ووهجها، فما كان على «شوشو» إلا أن يلبي الدعوة، في يوم عطلة مسرحه يوم الإثنين، واصطحبني معه (تقول الحاجة أم خضر)، وما أن هممنا بالدخول إلى الصالة حتى أطفأت الأنوار، فأخذنا نتلمس طريقنا إلى الصف الأمامي وأحدهم أمامنا ليرشدنا على الطريق، بالرغم من ذلك فقد لمح بعض الحضور «شوشو» وأخذوا يصرخون (هذا شوشو،هذا شوشو) وعلا الصراخ والهتاف لشوشو، رغم أن عاصي رحمه الله، قد أمر بإطفاء الأنوار لحظة دخولنا، واستمر الهتاف لبضع دقائق، جاء بعدها «عاصي» مرحبا وممازحا «شو عملت ياشوشو، ياليتني ما عزمتك»، ذلك هو شوشو حسن علاء الدين فنان الشعب إبن بيروت وحامل رايتها، في الفن والتعبير عن هموم الناس وموحد آمالهم والمتوجع لآلامهم، إنسان سوف يبقى ظله يحوم فوق رؤوسنا، حتى تجود الأرض بما أينعت.
محمد صالح أبو الحمايل

http://www.aliwaa.com

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *