زينة دكاش هرّبت «شهرزاد» من سجن بعبدا

 

 

 

بدءاً من اليوم، تعرض الصالات اللبنانية وثائقي «يوميات شهرزاد» (2013) بعد تجواله بين المهرجانات العالمية والعربية ونيله العديد من التتويجات. سنسمع حكايا النساء الموجعة الخارجة من غياهب السجون: وجيهة، خديجة، فاطمة وغيرهن كثيرات هنّ ضحية قبل أن يصرن جلاداً. حوصرن بمنظومة ذكورية لم توفّر القوانين والتشريعات

يشعر المرء بالحيرة حين يشاهد الفيلم. يبلغ قمة انفعالاته. وثائقي مبني على عرض مسرحي مبني بدوره على حكايا ويوميات سجينات بعبدا. منهنّ من ارتكب جرائم قتل، ومنهن من اتهم بتعاطي المخدرات، ومنهن من ظلم زوراً وقبع لأشهر وسنوات وراء القضبان… لكن المشهد يختلف حين نتابع مسيرة هؤلاء السجينات في وثائقي «يوميات شهرزاد» الذي طرح اليوم في الصالات اللبنانية.

في الواقع، المخرجة والممثلة الكوميدية زينة دكاش تجعل السجن بؤرة لـ»نكش الذات» وبقعة ضوء ولو صغيرة تعيد اعتبار هؤلاء النساء لأنفسهن: رسمت لهن زينة خيطاً يلجأن إليه يمتد خلف ستار العرض ويتخطى حدود السجن. لم يكن ذلك نتاج عمل دؤوب امتد لبضعة أشهر فقط. دكاش التي سئمت ما وصفته بحلقة سفاح القربى حيث «زملاؤك يشاهدون عروضك والعكس»، أرادت للمسرح أن يحيا في أماكن منسية تماماً كما يعيش معظمنا يومياته.
قادها البحث عام 2000 إلى لندن، حيث درست مع فيليب غولييه الذي يعتبر المسرح أداة تحررية في متناول أيّ كان: ضمّت ورشات العمل محامين، ومحاسبين، وأمناء مكتبات، خصصوا سنة تفرّغ ليمارسوا المسرح. بعد سنتين، عملت مساعدة للمخرج المسرحي الإيطالي أرماندو بونزو في عمله في سجن فولتيرا في إيطاليا. واكتشفت مع الوقت أن معظم عملها كان يتمحور حول العلاج بالدراما، فتابعت دراسات عليا في هذا المجال وعادت الى لبنان لتبدأ تجربتها الأولى في العمل مع السجون بعد تأسيسها «المركز اللبناني للعلاج بالدراما ـ كثارسيس» الذي يهدف إلى جلب المسرح والعلاج بالدراما إلى المجتمع… المجتمع الحقيقي. حافزها الأول كان العمل مع الناس الذين يعيشون خلف الجدران في السجون اللبنانية. كان عرضها الأول «12 لبناني غاضب» (11/2/2009) داخل أسوار «سجن رومية». اختلف هذا العرض عن نصه الأصلي الذي كتبه ريجينالد روز عام ١٩٥٤ ونقل يوميات السجناء، خلافاتهم، ولحظات عنفهم التي تمتزج بهشاشة وتوق إلى حب وحنان مفقودين. لن ينسى أحد ممن شاهدوا أحد العروض الثمانية داخل «سجن رومية»، المشهد ما قبل الأخير حيث يتحدث أحد السجناء عن اغتصابه لإحدى الفتيات. هنا لحظة الاعتراف القصوى. يتربع الندم دموعاً على خدّي السجين الذي يبكي كطفل. كم هو مريح هذا البكاء لهذا السجين: ثمانية عروض يكرّر فيها المشهد ذاته. في كل مرة يتوجه فيها إلى جمهور مختلف. في كل مرة يصل الى حافة البكاء. ربما هذا جزء مهم من أجزاء العلاج بالدراما. أن تخبر قصتك لفرد لا تعرفه. أن تقف بكل ما أوتيت من ضعف لتستمد قوةً من كل تلك الآذان الصاغية. أن تكرر المشهد ذاته مراراً حتى تعطي جزءاً من جروحك للآخرين، فتتخفف من الألم. وهنا دلالة عنوان العرض الثاني «شهرزاد ببعبدا»… شهرزاد التي تخلصت من الموت عبر السرد وإغراءات الكلام. هذه المرة، ذهبت دكاش إلى «سجن النسوان» في بعبدا، وعملت مع وجيهة وخديجة وفاطمة وغيرهن من النساء لسنة قبل الوصول الى مرحلة العرض. من يشاهد فيلم «يوميات شهرزاد» الذي يوثق للعرض المسرحي، يلحظ تمارين جسدية وصوتية وتمارين على الرقص. على مدى عشرة أشهر، أجرت دكاش جلسات علاجية بالدراما مع هؤلاء النساء، ووثّقت كل شيء، ثم سألت كلاً منهن ما هو المشهد الذي تفضل كل واحدة عرضه أمام الجمهور.
في الفيلم نسمع ونرى وجيهة التي تعطي دكاش حرية الاختيار: «لا مشكلة لديها في بوح أي شيء»، فالظلم الذي تعرضت له منذ طفولتها يجعل هذا العمل نقطة الوجود الوحيدة الإيجابية التي تستحق الذكر وتخطي كل الحدود والمحرمات. امرأة محجبة تعبر عن حبها وشغفها بالرقص الشرقي. امرأة تعترف بارتكابها «الزنا». ليس الموضوع فقط في هذا العرض المسرحي/ الفيلم الوثائقي هو تأطير السجينات في صورة «الضحية التي تحولت إلى جلاد»، فهناك أيضاً تحمّل لمسؤولية الخطأ الذي ارتكب. هذا ما يفسّر دلالة استخدام رقص الفلامنكو خلال العرض: هذا النوع من الرقص يحمل في طياته قسوة الخطوات وليونة الخصر وقوة النظر الى الآخر. المرأة في هذا العرض ليست «مجرمة، بل ضحية ولأجل ذلك هي مجرمة». المرأة في هذا العرض تحولت الى إنسان استعاد ملكة البوح واسترد كيانه وقوة وجوده وبات قابلاً للتعبير عن الحب.
هذا العرض الذي ركز مع سجينات بعبدا على: السلطة الأبوية، العنف الأسروي، ظلم العادات والتقاليد، تداعيات الجهل والتجهيل والتفاصيل الصغيرة للأنوثة المهشمة ليس عرضاً تنتهي حدوده عن انتهاء الفرجة، بل له أثره العلاجي على المجتمع ككل. تبدلت حيوات سجينات كثيرات بعده. تبدلت العلاقة بين السجينات وأهلهن، بين السجينات والسجانات. وفي إطار أبعد، يسعى هذا العرض إلى تغيير رؤية المجتمع إلى هؤلاء السجينات، حيث تمكن بعض ممن خرجن من السجن من الحصول على وظائف بسبب تجربة «يوميات شهرزاد». هناك قضايا تشريعية، لوجستية، فردية كثيرة تعانيها السجون في لبنان: هذا عرض يجب أن يشاهده وزراء الداخلية، والثقافة، والتربية والتعليم العالي كونه يساعد في تخفيف وطأة العنف داخل السجون ويسهم في بناء بيئة صحية أفضل للسجين داخل السجن وخارجه. قبل كل شيء، هو جسر يكسر كل الأسوار الاجتماعية الكفيلة بعزل أي سجين أو أي فرد ارتكب خطأً ما. نموذج وجب تكراره في كل الفضاءات الحرجة.

العلاج بالدراما

العلاج بالدراما هو استخدام أساليب الدراما و/أو المسرح لتحقيق أهداف علاجية. يجمع بين الأهداف والتقنيات التي تقوم عليها الدراما/ المسرح من جهة، والعلاج النفسي من جهة أخرى، ما يعطي المستفيد من العلاج دوراً فاعلاً خلال علاجه في مناخ سليم وآمن. يتميّز العلاج بالدراما بالأنشطة والتمارين التجريبية والعملية التي تُمكِّن الفرد أو المجموعة المشاركة فيها من البوح بقصصها الشخصية وتحديد أهدافها وحلّ مشاكلها والتعبير عن مشاعرها أو تحقيق «الكثارسيس». يستخدم العلاج بالدراما اللعب والرواية ولعب الأدوار والعرض المسرحي وغيرها من الفنون الإبداعية لخلق سلوكيات ومعانٍ وخيارات جديدة للمشاركين.

 

منى مرعي

http://www.al-akhbar.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *