بعد 19 عاماً من رحيله.. نهاد قلعي مايزال الأب الروحي للكوميديا

 

يجمع الكتاب والمهتمون بتاريخ الكوميديا التلفزيونية في سورية على أن الفنان الراحل نهاد قلعي هو الأب الروحي المؤسس لهذا الفن وأن الشخصيات التي أبدعها بقيت لأجيال الأسماء الأكثر شعبية لدى المشاهد العربي عموماً دون أن يستطيع أبطالها منها فكاكاً.

ولكن بعض النقاد من الشباب بحسب وكالة الأنباء السورية سانا يقدمون رأياً مخالفاً مفاده أن فن الراحل قلعي لا يزيد على كونه نقل لتجربة القاص الشعبي حكمت محسن من موجات الأثير إلى شاشات التلفزة وأن الشخصيات والحبكات التي أتى بها استقاها من الأدب والفن الغربيين ويتناسى هؤلاء النقاد جوهر الكوميديا منذ ظهورها بشكلها الحالي على يد الفرنسي موليير مروراً بالمدارس الأوروبية والأمريكية وصولاً إلى منطقتنا العربية والتجربة المصرية بقديمها وجديدها واعتمادها على إبداعات السابقين مع إلباسها ثوباً جديداً يتناسب مع ثوب العصر. 

حياته..

ولد الفنان والكاتب الراحل نهاد قلعي الخربوطلي في الأول من كانون الثاني من عام 1928 في حارة قولي بحي ساروجة وهو أحد الأحياء الدمشقية العريقة في عائلة أولعت بالفن والأدب ويكفي أن نقول أن خاله كان الفنان توفيق العطري أحد الفنانين والسينمائيين السوريين الرواد وعمه الأديب والقاص المعروف أديب حقي.

وكان للفنان الفلسطيني عبد الوهاب أبو السعود الفضل الأكبر في اكتشاف موهبة نهاد الفنية وصقلها حيث كان يعد ويخرج مسرحيات خاصة بالطلاب في عدد من ثانويات دمشق ومن بينها ثانوية التجهيز الأولى التي كان نهاد قلعي يواظب على دراسته فيها وخلال تلك الفترة لمعت في رأسه فكرة السفر إلى القاهرة ودراسة الفن في معهد التمثيل بالقاهرة والذي كان أول وأعرق معهد لإعداد الممثلين في الوطن العربي .

وشاءت الأقدار أن يتعرض فناننا الراحل لأول مقلب في حياته عندما سرقت منه نقود السفر فهجر فكرة دراسة التمثيل في الخارج وبدأ يتنقل في الوظائف الحكومية من معمل المعكرونة إلى الضرب على الآلة الكاتبة إلى وزارة الدفاع ثم الجمارك ما يعكس تبرمه من العمل الرسمي وزهده بالوظيفة ونفسيته التي تحب التجديد وتأبى الروتين.

ولأنه لم يأخذ العمل الحكومي يوما فنانا من عشقه للفن فقد انتسب إلى استديو البرق وهو فرقة مسرحية رائدة في العام 1946 كما شارك في تأسيس النادي الشرقي وهو تجمع مسرحي شاب ضم فنانين سوريين رائدين مثل خلدون المالح وعادل خياطة وسامي جانو عام 1954 والذي تمكن من عرض بعض أعماله على مسارح القاهرة نفسها ما رفع شهرة نهاد قلعي.

وإزاء نجاح فناننا الراحل على خشبات المسرح سوريا وعربياً عهدت إليه وزارة الثقافة والإرشاد القومي إبان فترة الوحدة مع مصر تأسيس المسرح القومي في سورية واستطاع خلال فترة بسيطة وخاصة بعد بناء مسرح أبو خليل القباني إنتاج خمس مسرحيات في موسم 1962-1963 وبعضها كانت من إخراجه وبطولته مثل “المزيفون وثمن الحرية والبرجوازي النبيل ومدرسة الفضائح”.

وكان نهاد أحد أهم الأسماء التي استدعاها الدكتور صباح قباني أول مدير للتلفزيون السوري للعمل على انطلاقة البث التلفزيوني في سورية في 23 تموز من عام 1960 لتقديم برامج ولوحات فنية وهنالك تعرف على شريكه وتوءمه الروحي الفنان الكبير دريد لحام.

توطدت العلاقة سريعاً بين الفنانين العملاقين وكانت أولى ثمار هذه العلاقة برنامج الإجازة السعيدة الذي ظهرت أولى حلقاته لدى افتتاح بث التلفزيون ولكن الثنائي دريد ونهاد لاحظا أن شخصية كارلوس التي قدمها دريد لحام لم ترق للجمهور السوري لتبدأ رحلة البحث عن شخصيات واقعية من صميم الإنسان السوري والحارة الدمشقية ولتكون شخصيتا حسني البورظان وغوار الطوشة اللتان بنيت على أساسهما شخصيات أخرى مثل أبو صياح وعبدو وأبو شاكر تلاها أبو عنتر وأبو رياح وياسينو المدماك الذي رفع اسم الكوميديا السورية في الأعالي ولتهز عرش الكوميديا المصرية نفسها.

انتقل نهاد ودريد سريعاً إلى الفن السابع وكان فيلمهما الأول عقد اللولو عن مسرحية كتبها نهاد وقدمت على مسرح نادي الضباط في دمشق عام 1961 ليرسم نجاح هذا الفيلم انطلاقة الثنائي السوري السينمائية والتي ضمت مسيرتها 28 فيلما تولى نهاد قلعي كتابة 15 فيلما منها.

لم ينسي انغماس دريد ونهاد في التجربة السينمائية الشاشة الصغيرة فقدماً بدءاً من العام 1966 أربعة مسلسلات كوميدية هي مقالب غوار ثم حمام الهنا تلاه صح النوم بجزأين وأخيراً ملح وسكر والتي كرست بشكل نهائي زعامة نهاد قلعي على عرش الكتابة الكوميدية للتلفزيون عربياً وباتت أعماله مدارس قائمة بحد ذاتها وتحظى بالشعبية الطاغية لدى الجمهور العربي لدرجة أن شوارع المدن العربية كانت تفرغ من المارة لدى عرضها على حد تعبير المخرج خلدون المالح.

ولدى نكسة حزيران 1967 انضم دريد ونهاد إلى تجربة الفنان المبدع عمر حجو المسماة مسرح الشوك وقدموا سلسلة لوحات ناقدة وساخرة ويمكن اعتبارها إلى حد بعيد الأب المباشر لأعمال مرايا ياسر العظمة ومسلسل بقعة ضوء .

ورغبة من نهاد في الابتعاد عن الأسلوب الكوميدي الشعبي والبسيط الذي نحاه في أعماله مع دريد والتوجه لمخاطبة الجمهور المثقف تعاون الفنانان الكبيران مع المسرحي الراحل محمد الماغوط وأطلقوا ما يمكن اعتباره بالمسرح السياسي والذي كانت فاتحته مسرحية ضيعة تشرين التي عرضت لأول مرة عام 1973 وفي غمرة النجاح الهائل الذي عاشه فناننا الكبير وخلال عرض ثاني أعمالهما المسرحية “غربة” في دمشق عام 1976 تعرض نهاد قلعي لاعتداء أقل ما يمكن وصفه بالجريمة على يد شخص أهوج في أحد المطاعم بحضور الفنان شاكر بريخان والصحفي اللبناني جورج ابراهيم خوري تم فيه ضربه بكرسي على رأسه ليتسبب ذلك بإصابته بشلل نصفي دائم.

ورغم فداحة المصاب تحامل نهاد على آلامه وقام بتصوير دوره الرائع أبو ريشة في مسرحية غربة للتلفزيون والتي كانت آخر أعماله على خشبة المسرح وآخر أعماله مع توءمه الفني دريد لحام.

ومن مشيئة الأقدار أن الراحل قلعي كان منكباً على كتابة مسلسل جديد قبل تعرضه للاعتداء بعنوان الأغرار لكنه لم يستطع إكماله وأنجزه بعد ذلك الماغوط وظهر بعنوان وادي المسك.

وعانى نهاد في السنوات الأخيرة من حياته وحدة قاتلة إذ هجرته الأضواء وأهمله رفاق المسيرة ولكنه سعى جاهداً رغم مرضه لكسر هذه الوحدة فكتب حلقات قصص مصورة للأطفال في مجلة سامر للأطفال وكتب مسلسلين أحدهما لم ير طريقه للنور وحمل اسم يسعد مساكم وثانيهما عريس الهنا بث عام 1984 والذي كان آخر أعمال فناننا الكبير.

ومع مطلع شهر تشرين الأول عام 1993 تدهورت صحة نهاد بصورة كبيرة ونقل إلى مشفى الهلال الأحمر ورغم كل الجهود التي بذلت فإن إصابته المزمنة ومعاناته القديمة من مرض السكر لم تمهله حيث تعرض لأزمة قلبية فلفظ أنفاسه الأخيرة في 17 تشرين الأول على فراشه دون أن يتحقق ما تمناه في الموت على خشبة المسرح أو أمام عدسات التصوير.

وكان على محبي نهاد قلعي أن ينتظروا خمسة عشر عاماً ليحصل على بعض من حقه عندما تم منحه التكريم الذي يستحق بمنحه وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة في عام 2008.

ويكشف تحليل واستعراض فن الكتابة عند نهاد عن مقدرة مدهشة في نقل الواقع الاجتماعي عبر إبداع شخصيات شعبية وحيوية وقريبة من أذهان الناس ومغرقة في دراميتها وفي الوقت نفسه فإن نهاد تمكن دائماً من استعارة قوالب وحبكات درامية غربية من دون أن يقع في الاستلاب الفكري.

وما تميز به فن الكتابة عند نهاد عمن عاصروه أو لحقوه قدرته على كتابة النص الكوميدي ذي الحلقات المتصلة وهو ما يكشف عن نفس أدبي طويل وخيال خلاق وهو ما نأت عنه التجارب الكوميدية اللاحقة ليبقى اسم نهاد قلعي لا كمؤسس للكوميديا التلفزيونية في سورية فحسب بل كأهم كتابها وأبطالها على مر العصور.

http://www.dp-news.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *