ألفريد فرج‏..‏ وذكريات وراء القضبان

أمضيت أسبوعا كاملا في صحبة كلماته‏..‏ ورفقة مشاعره‏ كنت أعاود قراءة الجملة المرة بعد الأخري‏,‏ وأعيد تأمل عباراته التي تعكس معها تجربته الأليمة الموجعة‏,‏ ثم أستحضر المشهد بأسره في ذهني فإذا بالدموع تنهمر من عيني‏.‏

 

عن ذكريات الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج وراء القضبان أتحدث.

>>>
هذا مشهد مؤثر جدا..
تخيل أن يضم معتقل واحد أقطاب الفكر والثقافة والأدب والفن المصري..
معتقل يجمع بين ألفريد فرج.. وحسن فؤاد.. وصلاح حافظ.. وسعد كامل.. وفيليب جلاب.. وعدلي برسوم.. وزهدي.. وفؤاد حداد.. ومحمود أمين العالم.. والفنان علي الشريف.. وإبراهيم عامر وغيرهم وغيرهم ممن عايشوا أياما عصيبة موحشة بين جدران المعتقلات الصماء: معتقل القلعة, ومعتقل العزب بالفيوم.. وأوردي ليمان أبو زعبل.. وأخيرا معتقل الواحات الخارجية بالصحراء الغربية.
قضي ألفريد فرج أربع سنوات كاملة معتقلا.. من مارس1959 إلي فبراير.1963
لزم الرجل الصمت لأكثر من ثلاثين عاما.. رافضا التحدث عن هذه التجربة الأليمة.
فقط بضع مقالات نشرها في إحدي المجلات العربية المحدودة التوزيع في مصر.
آثر أن يحتفظ بهذا الجرح الأليم في قلبه, فلا يبوح به حتي لا يلحق بثورة يوليو الأذي وهي تمضي في خطواتها نحو التحرر الوطني والقومي.
وبعد أن غادر ألفريد فرج عالمنا, جمع شقيقه الكاتب نبيل فرج شهادته الأليمة هذه ووضعها في هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم صادر عن دار رؤية.
فشهادة ألفريد صارت ملك التاريخ.. وهي ليست فقط شهادة عن الحياة في المعتقلات إبان العهد الناصري, لكنها أيضا شهادة لميلاد مسرحيته الرائعة حلاق بغداد التي جاءها المخاض بين ربوع زنازين مصر المختلفة, فكانت لها مكانة أثيرة في قلب كاتبها.
>>>
ماذا يفعل المرء حينما يجد نفسه فجأة معتقلا داخل صندوق ضيق مغلق؟
الصمت يحيط به..
الوحدة تنهشه..
ماذا يفعل مبدع في قلب زنزانة صغيرة موحشة؟
كان جو المعتقل كئيبا ورهيبا حقا.. فكر ألفريد في البداية أن يكتب مسرحية مأساوية أو ميلودرامية صارخة يبث عبرها أحزانه, وآلام زملائه المعتقلين من غير محاكمة.
لكنه اكتشف أن الأحزان في المعتقل مشاعر دارجة, وعملة متداولة, أما الضحك المرح فهو مثل العملة الصعبة, والقطع النادرة.
هكذا استقر رأيه علي أن تكون المسرحية التي يكتبها وهو في المعتقل مسرحية كوميدية..
وجاء ميلاد حلاق بغداد.
كتب ألفريد فرج مسرحيته في البداية علي الأوراق الصغيرة لدفاتر( البافرة), وهي ورق لف السجائر يدويا, وبالقلم الكوبيا, وهو قلم بحجم الأصبع الصغير لليد, حتي يسهل إخفاؤه, ويسهل كذلك إخفاء الورق عند أي مداهمة يقوم بها حراس المعتقل للتفتيش.
في تلك الليالي الظلماء, كان يلوح له طيف المحتال الظريف المظلوم الذكي الطيب الصغير, حلاق بغداد المعدم الذي تروي حكايته شهرزاد للملك شهريار..
كنت في الليل إذا خلوت بنفسي أستحضر أبو الفضول الحلاق وأتصوره بالتفصيل وأتصور الشخصيات التي قد يصادفها وقد تصادفه, وأمعن في أوهامي وأحلامي, فأحاول اختيار الممثلين ممن أعرفهم الذين تناسبهم ويناسبونها.. وأضبط نفسي مؤلفا حكاية الحلاق الفضولي الذكي, ومخرجا المسرحية, وربما أردد بعض العبارات التمثيلية كأني أتدرب علي تمثيل ما أختاره من أدوارها.
كنت أجد طيف حريتي في رحلتي مع أبي الفضول حلاق بغداد.
في سجن أبي زعبل.. وسط كثبان الرمال الصفراء.. ووجوه تسرب منها ماء الحياة, كتب ألفريد فرج مسرحيته التي استلهمها من التراث والحكايات الشعبية, ولكن عبر طرح مصري حديث وجديد.
هناك.. داخل هذا الصندوق الضيق الصغير تم عرض حلاق بغداد.
أخرج المسرحية المعتقل الكاتب الكبير صلاح حافظ رئيس تحرير روز اليوسف فيما بعد, وكان دور أبوالفضول حلاق بغداد من نصيب فخري مكاوي مدرس الفلسفة, أما دور الخليفة فكان من نصيب الفنان المبدع حسن فؤاد رئيس تحرير مجلة صباح الخير لاحقا, ودور الوزير قام به الكاتب الكبير محمود أمين العالم, ودور القاضي وقع علي الكاتب الصحفي الكبير إبراهيم عامر.
وقام حسن فؤاد بتصميم وتنفيذ الملابس والديكور من أفرخ أوراق الكريشة الملونة, فكان لهذه الألوان سحر خاص وسط تلك الأجواء الصفراء الباهتة والقاتمة.
أما خشبة المسرح فكانت عبارة عن ممر بين غرف السجن سعته لا تتجاوز الأمتار الثلاثة.. أما الإضاءة فكانت( بروجكتر) من الصفيح المغلف بالأوراق المفضضة لعلب السجائر. يا إلهي.. أي مسرحية فريدة هذه!!
>>>
مرت سنوات المعتقل..
وبقيت الجراح والذكريات.
في عام1963, وعلي خشبة مسرح الأزبكية, تم عرض حلاق بغداد, قام بدور البطولة عبدالمنعم إبراهيم وملك الجمل, ووضع لها الألحان بليغ حمدي, وأخرجها فاروق الدمرداش.
في لياليها المبكرة الأولي كان ألفريد فرج يقف خلف الكواليس مختبئا يرقب الموقف ودقات قلبه تتلاحق خوفا وانفعالا.
وجاءه مؤشر النجاح الذي تهفو إليه نفسه: دوي التصفيق والقهقهات العالية.
ونالت مسرحية حلاق بغداد التي شهدت ميلادها الأول داخل السجون والمعتقلات الاستحسان والتقدير من جانب النقاد والجمهور علي السواء, بل وصارت الأكثر نجاحا في ذلك الموسم المسرحي.
>>>
تحية إلي ألفريد فرج..
تحية إلي زمن الفن الجميل الذي نشتاق إليه ونفتقده بشدة في أيامنا هذه.

 

ليلــي الراعـي

http://www.ahram.org.eg/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *