آرثر ميللر وقيم الإنسانية والعدالة في المسرح…تزوّج مارلين مونرو فتراقصت بين حروف مسرحه

 

«وما العالم إلا مسرح كبير» هكذا يقول شكسبير، ويقول أيضاً « أعطني مسرحاً أعطيك شعباً عظيماً»، إذا هي فلسفة الحياة التي تقول إن الفن هو بوابة الحضارة وما المسرح إلا أوسع هذه البوابات، وإذا ألقينا نظرة على كل ما يجري حولنا من أحداث سنجد أن كل ما قد تم تجسيده على الخشبة انتقل إلى الحياة، التي كانت دائماً وأبداً منبعاً ومصدراً لجميع المؤلفات المسرحية وشاهداً حياً على الصلة التي تربط تفاصيلنا اليومية بالخشبة التي كانت دوماً طوق النجاة لجميع المتعبين والباحثين عن حلول لمشاكل المجتمع، وكما أن المسرح أبو الفنون فإن المسرح السوري الذي تأسس على يد أبو خليل القباني قد أبدع في الماضي كثيراً وكان بحق أبا رؤوماً ومعطاء، بذل فيه المسرحيون القدامى الكثير من الجهود للنهوض به وتعزيز وجوده وتكريس شعبيته، فمن سعد اللـه ونوس، نهاد قلعي، ناجي ومحمود جبر، دريد لحام، عمر حجو، عبد اللطيف فتحي، سعد الدين بقدونس وغيرهم الكثير ممن أغنوا المسرح العربي والسوري بإبداعاتهم اللامتناهية التي أسست بحق لمسرح ناضج كان له أكبر الأثر في رسم ملامح المسرح السوري المعاصر بخطوات واثقة. وهنا يتبادر إلى ذهننا سؤال أين مسرحنا الآن من إنجازات مؤسسيه؟ وما الذي حل بعصره الذهبي؟ ولماذا أضحى دوره ثانوياً بعد أن كان ملكاً على العرش؟.
نشأ المسرح في اليونان على يد أسخيلوس، أرسطو، سوفوكليس، وهوميروس، وكانت المسرحيات آنذاك تتخذ من الآلهة شخوصاً لأحداثها، لتتطور بعدها على يد يوربيدس الذي آمن بالعقل دون التقيد بالعقائد فحرر أفكاره منها رغم التحفظات العديدة التي أخذت عليه، هذا وقد ازدهر المسرح في اليونان تبعاً للازدهار الاقتصادي والنهضة العمرانية التي أنتجت مسارح عملاقة لإحياء الاحتفالات الدينية والاجتماعية ما جعل تلك المسارح مرتعاً خصيباً للشعراء الغنائيين والمسرحيين، أما المسرح العالمي فقد تألق في عصر النهضة على يد الإنكليزي وليام شكسبير، ومن فرنسا نذكر بيير كوروني وجان راسين، ومن إسبانيا برز بيدرو كالديرون دي لا باركا وفيليكس لوبي دي فيغا أي كاربيو، ومن ألمانيا غوته وشيلر، أما حديثاً فقد تطور المسرح العالمي على يد العديد من المبدعين الذين وهبوا المسرح حياتهم وسكبوا أرواحهم لأجل بعثه من جديد، ومن هؤلاء نذكر الألماني بيرتولد بريشت وكارل تسوكماير، والنرويجي مؤسس الاتجاه الواقعي في المسرح هنريك أبسن، ومن السويد أوجست سترندبرج، إلى أن نصل إلى الأميركي آرثر ميللر الذي لا يمكننا أن نذكر اسمه دون أن تراود ذهننا صورة النجمة مارلين مونرو، فهو الزوج الثالث لها، وصانع شهرتها، ولكن ذلك لا يكفي إذ إن ميللر هو واحد من أعظم مثقفي أميركا، وأكثر الداعين نحو التحرر والتطور، هو رمز من رموز هوليوود، وهو أيقونة للإبداع بكل معانيها، هو «بعد السقوط»، «المحنة»، «كلهم أبنائي»، «انبعاث البلوز»، «الرجل الذي ملك الحظ كله» و«زجاج مكسور»، هو أكثر من ذلك بكثير، وأعمق من كل ما ذكر، هو آرثر ميللر المبدع الذي قال عن نفسه «اتمنى أن يذكرني الجمهور ككاتب مسرحي» فكان له ما أراد.
ميللر المتحدر من الطبقة الوسطى في المجتمع الأميركي، ابن المهاجر اليهودي البولندي الذي كان يعمل في حياكة الملابس في ظل حقبة الكساد التي ألمّت بالولايات المتحدة، ولد عام 1915 في مدينة نيويورك، عمل في بدايات شبابه في معمل لقطع السيارات، إلى أن انتسب لجامعة ميشيغان عام 1934 ليبدأ الكتابة بهدف كسب قوت يومه، فقدم عدداً من نصوص السيناريو للإذاعة، كما قام بكتابة عدد من المسرحيات ونال جائزة «هوبود» عن الإثنتين منها قبيل تخرجه في الجامعة، انصقلت موهبة ميللر وبزغت في منتصف الأربعينيات قبل بلوغه سن الثلاثين حين دخل فعلياً إلى ميدان التأليف المسرحي، وعرفت مسرحيات ميللر باهتمامها بالظلم الذي يتعرض له الإنسان المهمش وآلامه وحرمانه وأراد منها أن تلقي الضوء على المظالم الاجتماعية ومعاناة الشعوب وأن تتطرق إلى مساوئ المجتمع بحسب القيم التي كان يتبناها، فكانت أولى أعماله المسرحية عام 1944 «الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ» التي عرضت على المسرح في برودواي بمدينة نيويورك، وتلتها مسرحية «جميع أبنائي» عام 1947 وهي مبنية على قصة حقيقية دارت في الحرب العالمية الثانية وتعالج إشكاليات الإنسان المعاصر في أميركا وقد نالت جائزة دراما كريتيكس سيركل الأميركية عام 1947، ثم قام بكتابة مسرحية «موت بائع متجول» عام 1949 التي انتقلت به إلى العالمية ليصبح من أهم كتاب المسرح وفازت بجائزة بوليتزر الأميركية، ولاحقاً بعد أن أثيرت الشبهات حوله بأنه شيوعي جاء رده بمسرحية «المحنة» عام 1953 التي تعرضت لانتهاكات الحقبة الماركسية، وتوالت بعدها أعماله التي حققت له رصيداً غنياً أذكر منها «عدو الشعب» 1950، «البوتقة» 1953، «مشهد من الجسر» 1955، «الثمن» 1968، «كلارا» 1987، ولم يقتصر إبداع آرثر ميللر على العمل المسرحي بل تخطاه إلى مجالات عديدة أخرى، ففي عام 1967 قام بتأليف مجموعة من القصص القصيرة تحت اسم «أنا لا أحتاجك بعد الآن»، وإلى جانب ذلك تنوعت أعماله وخصص بعضاً من إبداعه لإصدار الكتب والأفلام وكتابة المقالات، كما انتقل عدد من أعماله إلى شاشة التلفزيون مثل فيلم «موت بائع متجول» عام 1985 أخرجه فولكر شلوندورف، من بطولة داستن هوفمان، كما قام بتحويل مسرحية «المحنة» إلى فيلم سينمائي عام 1996 للمخرج نيكولاس هايتنر.
في عام 1956، تزوج آرثر ميللر من أسطورة السينما الأميركية مارلين مونرو، التي كان لها أثر بالغ في حياته وانعكس أثرها هذا على أعماله التي قام بتأليفها منذ دخولها في حياته، وحتى عقب انفصالهما بعد زواج استمر خمس سنوات، وزواجه الثالث من المصورة النمساوية اينغبورغ موراث عام 1962، لم تبارح مارلين مؤلفات ميللر وكأنها تتراقص بين سطور كتاباته ناثرة عطرها في الكلمات التي يخطها قلمه، حتى بعيد سنوات طويلة من رحيلها، فكان الكثير من المسرحيات التي قام ميللر بتأليفها تعكس صورة عن حياته معها كان أبرزها مسرحية «بعد السقوط» عام 1964 و«حادثة في فيتشي» في نفس العام حيث حاول من خلالهما أن يناقش أسباب إخفاق علاقته بمارلين، والشيء ذاته انطبق على فيلمه الشهير «اللامتطابق» عام 1961 الذي كتبه بعد وفاتها.
حققت أعمال ميللر المسرحية انتشاراً كبيراً في أغلب مدن العالم وتمت ترجمتها إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم، في حين أنها لم تلق التجاوب ذاته في الولايات المتحدة، ما سبب له خيبة عظيمة فقرر في سنواته الأخيرة أن ينتقل لعرض مسرحياته في بعض الدول الأوروبية وبشكل خاص في بريطانيا، فقام بعرض مسرحية «زجاج مكسور» عام 1994 في لندن التي نالت جائزة أوليفييه لأفضل عرض، وبعدها كتب مسرحية «انبعاث الحزن» عام 2002، إلى أن اختتم مشواره المسرحي الطويل بمسرحية «استكمال الصورة» التي كان عرضها في ولاية شيكاغو عام 2004 قبل أشهر قليلة من وفاة آرثر ميللر عام 2005 عن عمر ناهر 89 عاماً.
لقد تمتع ميللر بشخصية نبيلة وبالكبرياء والحس الإنساني العالي، كما سخر الأدب كوسيلة للوصول إلى الحرية الإنسانية، اشتهر بدفاعه عن الطبقة الكادحة في المجتمع ومطالبته بوقف أشكال القمع وبدفاعه عن الحرية في وجه الذين يبثون الرعب في قلوب الناس بحجة محاربة الشيوعية، إلى أن جرى تصنيفه كأحد رموز اليسار الأميركي الذي عرضه للملاحقة القضائية بتهمة قيامه بأنشطة معادية لأميركا، وامتلك آرثر ميللر قدراً كبيراً من الشجاعة ما مكنه من اتخاذ مواقف تحدى بها السياسات الأميركية كمعارضته للحرب في فييتنام وانتقاده الحاد لاحتلال العراق، فكان لآرثر ميللر الفضل الكبير بتأثيره في تحولات الوعي الاجتماعي والتغيير الإنساني لدى شعوب العالم وفي المجتمع الأميركي على وجه الخصوص، تاركاً بصمة لا تزول بتاريخ حافل بالأعمال التي رسخت قيم الحرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
ديالا غنطوس
http://www.alwatan.sy/

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *