بشير الأشقر… ماذا فعلت بـ«ماري روز»؟

 

 

 

اختار المخرج الشاب اقتباس رواية إيتل عدنان لنقلها إلى الخشبة في أولى تجاربه. إلا أنّه نزع النصّ الذي يؤرّخ للحرب الأهلية اللبنانية من خصوصيته الدينية والسياسية والزمنية، ما حوّل العرض إلى مجموعة من السرديات الرتيبة

منى مرعي

خطوة جريئة أقدم عليها بشير الأشقر حين اختار اقتباس عرضه الأول إخراجياً عن رواية «الست ماري روز» لإيتل عدنان (1925)، فنصّ الروائية والشاعرة والرسامة اللبنانية مركب ومعقّد (صدرت الرواية باللغة الفرنسية عام ١٩٧٨) وتُرجم إلى لغات عدة، مؤرخاً للحرب الأهلية اللبنانية. استوحت عدنان وقائع هذا العمل من قصة حقيقية: ماري روز بولس أسّست مدرسة للصم والبكم، وساندت الفلسطينيين في المخيمات، ما أغضب مجتمعها اليميني الكتائبي. لا تتوانى عدنان عن نقل الانقسام الحاد بين المسلمين والمسيحيين عبر هذه القصة التي تتمثّل في «مسيحية وانتقلت إلى المعسكر الإسلامي، لبنانية وانتقلت إلى المعسكر الفلسطيني. المسألة بسيطة. علينا كأي عدو آخر أن نقضي عليها. أدعى طوني ولن أدعى أبداً محمد» (مقتطف من الرواية). هذا ما حصل ولم يحصل في آن في عرض بشير الأشقر الذي تحتضنه حالياً خشبة «مسرح بابل».

نعم، لقد تم القضاء على ماري روز وأعدموها، وكلا لم يقل طوني في العرض إنّه يدعى طوني ولن يُدعى أبداً محمداً. في الواقع، كان المخرج شديد الحرص على تغييب كل الإشارات والتسميات العلنية للانقسام الديني السياسي عن عمله، إما للهروب من براثن الرقابة أو لأنّ ذلك هو خياره الذاتي. سعى الى إخراج النص من حقبته وخصوصيته، ليجعله أكثر شمولية وملاءمة لما نعيشه حالياً مع تبدّل اللاعبين. مجموعة من الممثلين، على رأسهم جويل حمصي مع مجموعة من الحبال على الخشبة، ومشاهد تتتالى فيها المونولوجات: يبدأ العرض بتسجيل صوتي لرجل مجهول (يبدو غير متعاطف مع ماري روز) يضع المشاهد أمام الحدث الرئيس في المسرحية، أي ذهابها إلى المقلب الآخر. تليها في تسلسل غير تراتبي مونولوجات للأطفال الصم والبكم، ثم لمنير (محمد خضرا) حبيب البطلة السابق، فمونولوج لها ثم مونولوج للراوي، وهكذا دواليك. قلّت الحوارات والأحداث في العرض، ولم يظهر جلياً الخط الدرامي بين تلك المشاهد، سواء كانت حوارية أو مونولوجات. كما لو أنّ العرض تحوّل بحد ذاته إلى مجموعة من السرديات تتلو قيماً وأحاسيس ودواخل للشخصيات، الى أن يأتي الحدث المتوقع والمعلن عنه منذ بداية العرض: محاكمة ماري روز وإعدامها.

غياب الخط
الدرامي بين المشاهد سواء كانت حوارية
أو مونولوجات

 

في سياق تلك المشاهد المتتالية، لعب العرض دور ناقلٍ لنصّ بدا وقعه ثقيلاً في طبيعة الحال على المشاهد، وخصوصاً أنّ المخرج جرّد المعاني الواردة فيه من أي خصوصية عبر إغفال كل الإشارات الدينية والسياسية والزمنية المرتبطة بالرواية الأصلية، وبالتالي أصبحت القيم المزمع التركيز عليها فائقة الطوباوية، ما يصعّب على المشاهد التماهي معها. وازداد هذا الشعور مع إدارة الممثلين التي تخللتها بعض الكليشيهات في الأداء (المشهد الراقص بين ماري روز وحبيبها السابق منير). تركيز المخرج الشديد والمباشر على النص وعدم تطوير الشخصيات في إدارة الممثل، وغياب أي رابط داخلي على الأقل للأحداث والمونولوجات وماهية ارتباطها بعضها ببعض، عوامل أفقدت النصّ ذاته وجعلته مصطنعاً.
رغم إيقاعه البطيء، تميّز العمل بجمالية السينوغرافيا المتقشفة التي اعتمدت على عنصر واحد: الحبال المتدلية على خشبة المسرح التي أحسن المخرج استخدامها تارة لتكون بعض الشخصيات مرايا لبعضها بعضاً، وطوراً لترسيم حدود ومتاهات في الفضاء، أو للتعبير عن حلم طفولي وتوق للحياة حيناً، ومعاناة قصوى وارتقاء للموت أحياناً. إلا أنّ تلك الحبال جمّدت تنوّع المشهدية والحركية في عرض «مونوتوني» الأصل، ولم يشفع السعي وراء الجمالية لسد الثغَر في المسرحية. وحده المشهد الأخير كان شافياً ومعبّراً، إذ لا ندري مَن منهما أُعدم: ماري روز في اللحظة الأخيرة قبل إعدامها، معلّقة بين حبلين في الهواء في أعلى نقطة من السماء. على بعد أمتار، يقف منير، حبيبها السابق. تفصل الحبال بينهما. بكاء البطلة والموسيقى يتصاحبان بهدوء واستسلام. يفكّ منير الحبال جميعها. يعلو البكاء. يمسك طرف الحبلين الأخيرين اللذين تتمسك بهما ماري روز. تلامس يداه المرتفعتان الحبلين حيث عُقدا. يتصلّب جسده. يصبح بكاؤها عالياً. يشد على طرف الحبل. ينحني. هي في الأعلى. هو في الأسفل. يصرخ. عتمة.

 

http://www.al-akhbar.com/

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *