دراسة الكتابة المسرحية وشاعرية العرض

 

 

 

إن مصطلح (الدراماتورجي) في العمل، سواء كان في المجال النظري أو في الممارسة المسرحية، يشير أحيانا اليوم إلى المعنى التقليدي لنشاط المفهوم وبناء العمل الدراماتيكي، وأحيانا إلى المعنى المعاصر لأحد العاملين المقربين من المخرج، الذي تكون وظيفته بشكل عام ارساء اسس عمل الخشبة.
وبقدر ما يبدو هذا الشرح والتفسير بسيطا، بقدر ما تبدو وظيفة ‘الدراماتورج’ معقدة، وتكاد أن تكون غير معروفة نسبيا. فهي تشير إلى عملية التفكير والتوثيق لإبداع مسرحي، سواء كان راقصا أو أي نوع آخر. مثلما يعتبر ‘الدراماتورج’ في غالب الأحيان بمثابة ‘المستشار الفني والأدبي’، أو ‘الباحث العلمي القادر على الإجابة عن جميع الأسئلة’، مثلما يمكن اعتباره ‘خبيرا راقيا’، وبطلا خارق التفكير، والسيد الذي يعرف ويرى ويفهم كل شيء. ويمكن ان يكون أيضا، مجرد محاور فني، كما يسميه البعض، (ويكتب برامج العروض، والوثائق المصاحبة لها، بشكل أكثر عمقا، وينظم الاجتماعات التحضيرية للمجموعات، وينشط المناقشات التي تجري بعد العروض، بمصاحبة الفنانين والجمهور) (وهذا تعريف ويكيبيديا). إن هذا الكم من التعريفات والإشارات يؤكد استحالة حصر وظيفة ‘الدراماتورج’ في مجال محدد وتعريف معناه، لأنه في نفس الوقت يشتمل على جملة عناصر جمالية، واجتماعية، وسياسية، وفلسفية، وأخلاقية، وإنسانية، تبحث في علم النص، وتطبيقاته، وتقديمه، وتجسيده، وتزينه، وتعتني بطرق تلقيه، وتفسيره، وإلخ، مثلما يشتمل أيضا، على علم الإنسان وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته ثم أنه، على الرغم من كل ما كتب عنه وفيه وحوله حتى الآن- وهو كثير وفي لغات عدة- وعلى الرغم من كل ما يبدو عليه من بساطة في المفهوم، نكاد لا نعثر له عن تعريف دقيق يمكن الاعتماد عليه، بل لم يوجد تعريف واحد لا في المعاجم ولا في الكتب يمكن الاتفاق عليه اليوم، وذلك بسبب تشظي هذه الوظيفة،واتخاذها اشكالا وأبعادا أخرى كثيرة متنوعة: دراماتورجيا المخرج، دراماتورجيا المؤلف، دراماتورجيا التوثيق، دراماتورجيا المشاهد، السينوغرافيا، والإضاءة، والتلقي، والخ … . وان أكثر الأعمال الموسوعية المتخصصة في مجال المسرح خاضت في مسألة تعريفه وتحديد معناه، ولكنها أكتفت في النهاية، بذكر تأريخه ومكان ولادته، وتطوره، واتجاهاته، وأشكاله، وعناصره، مستعينة بتجارب هذا وذاك من المخرجين والمنظرين في مجالاته المتعددة والمختلفة. وكلما كثرت الآراء والتعريفات كلما ازداد الأمر غموضا والتباسا وأتساعا في ذات الوقت، إلى درجة ان صار لكل مخرج ومجموعة، تعريف خاص لهذه الوظيفة النادرة في مجال العرض الحي، بحيث أخذت هذه التعريفات في اغلب الأحيان، شكل ‘الشكر والامتنان’ من قبل الفنانين إلى دراماتورجهم، وبالعكس( من الدراماتورج إلى فنانيه)، وصارت تعطي الفنانين الكلمة للحديث عن عملهم !. لدرجة أن الفنانين صاروا يتبنون، في بعض الأحيان، وبشكل حرفي، مصطلحات مقالات الدراماتورج، التي تعلمهم أشياء كثيرةً عن العمل وتساعدهم على فهم أنفسهم! وتناقش، على سبيل المثال، المصطلحات الجديدة التي تحرك عوالمهم، مثل: استخدام مصطلح ‘الإنشاء أو التركيب linstallation’ بدلا من كلمة ديكور.

 

الطفولة الأولى وتطور المفهوم

إن الدراماتورجية لم تبتكر وإنما هي استمرار لمفاهيم قديمة تطورت بتطور المسرح وعناصره. ولهذا بإمكاننا القول بأن مفهوم الدراماتورجي، قد عرف منذ أرسطو وحتى الآن، تطورا دلاليا ملحوظا، في المجال المزدوج للفكرة والنشاط المسرحي: (إن المصطلح لا يشير إلا للتكوين الأسلوبي، والبنيوي، والشكلي، للنص الدرامي، وبعبارة أخرى، إلى بناء النص المسرحي). ولقد تم اليوم تجاوز هذا السياق الأدبي الصارم، وصار يشير إلى أبعاد أخرى من العمل المسرحي، تكرس نفسها جميعها إلى (دراسة الكتابة المسرحية وشاعرية العرض). وهكذا، استطاع المفهوم أن يأخذ بعين الاعتبار، تحول الاعمال الدرامية إلى ‘نصوص مسرحية’، ويُعرف مثل (الُمبلغ عن جميع الأنظمة الدلالية المستخدمة في العرض، وعن الترتيب والتفاعل الذي يتشكل منها الإخراج) . ولقد صار يضع (جسرا بين الكتابة النصية والكتابة المسرحية (…)، ويمتلك اللغة الخاصة التي تقوم بتحويل الواحد إلى الآخر). إن الدراماتورج في الأصل، وفقا للمركز الوطني الفرنسي للمسرح، هو منتج العمل الدراماتيكي، وفي كلمة واحدة، هو الكاتب المسرحي. ولقد اخذت هذه الكلمة اليوم معاني آخرى مختلفة، بحيث لم تعد تشير إلى وظيفة الكاتب المسرحي، وإنما تنطبق، في الكثير من الأحيان، على شخص ليس هو بمؤلف النص، ويسمى ‘مستشارا أدبيا أو مسرحيا’، ويكون مرتبطا بمسرح وطني، أو مركز درامي وطني، أو فرقة معروفة عالميا. ويكون ضمن فريق العمل، واقرب المعاونين للمدير او المخرج. عمله كدراماتورج ينبع ويصب في العرض: ويمثل نوعا من ‘الباحث والمفكر’، ويتقاسم الدراماتورج والمخرج عملية إنجاز العمل المسرحي. الأول يأخذ على عاتقه مسؤولية العمل النظري في حين ان الثاني يُؤمن عملية التحضير المسرحي مباشرة مع الممثلين. إن وظائف الدراماتورج مختلفة ومتنوعة تبعا للمكانة التي تمنح له في المسرح: قراءة المخطوط، ونصوص البرنامج المسرحي، والقيام بالبحوث على وحول العمل، وشرح وتفسير مبادئ بنائه، وتحديد أيديولوجيته، وإعداد لغة مسرحية أو ترجمة المصنف إذا تطلب الأمر ذلك، وإعداد وترجمة البرنامج، والمشاركة في البروفات بصفته ناقدا داخليا. وبلا شك، يجب أن يكون هذا المفكر أديبا. ولا يمكننا الوصول إلى هذا المنصب إلا عن طريق الدراسة الأكاديمية الطويلة والشاقة. ويفترض أن يكون أيضا صاحب معرفة كبيرة تتوزع بين معرفته بالتاريخ وعلم جماليات المسرح والكتابة المسرحية.
مع ذلك، يبقى هذا المفهوم بعيد المنال، وتبدو أهدافه غامضة. يقول أوليفيا أور نولاني، في هذا الصدد: (لقد خضع هذا المفهوم للكثير من التفسيرات، والاختلافات، والأسئلة ‘أو التحدي، والرفض’ الموجود في الممارسات المسرحية والرؤى النظرية)، . ويشاركه دانيال بيزن هارد الرأي، عندما يذكر: (إنها وظيفة غامضة (…) لا سيما أن التجارب كثيرة، وكذلك الكتابات المسرحية) . وفي نفس الوقت، يعتقد ميشال باتون، أن الدراماتورجية (تأتي من القراءة، أو العمل المواظب أو الإلهام)، الذي يأخذ هيئته على الخشبة (…) وهو في نهاية المطاف، عمل مادي، وحسي). ويشكل الدراماتورجي، بالنسبة لبرنار شارترو، (مرحلة تفكير، وتأمل وتصميم للعرض)، وإنه ليس فقط (مرحلة) انعكاسية فكرية بحتة: وإنما هو زمن لخلق العرض أيضا). إن جان ماري بيم، يوسع نطاق الرؤيا، مشيرا إلى أن (إذا كانت الدراماتورجية هي هذا الترتيب الذي يعني كل شيء، نفهم من ذلك، بأن المسرح، يشمل النص، وهذا مؤكد، ولكنه أيضا يشمل العرض، وبنايته، وعلاقته بالجمهور، وإخراجه، وتمثيله، وأضاءته، وإلخ (…) ولهذا السبب بإمكاننا الحديث عن دراماتورجي النص، وعن دراماتوجيا العرض المحدد (…) وعن دراماتورجيا الخشبة في ترتيب العلبة الإيطالية أو حتى في ترتيب دراماتورجي المسرح في الفضاء المعماري للمدينة) . إن أوجينيو باربا، يركز في تفكيره على طاقة الممثل، معتقدا بأن الدراماتورجي هو في الأساس (دراما- وأرغونة، وعمل، وتطبيق للأفعال)، ولذلك يجب أن تشمل كل مجالات (الافعال في العمل)، بما في ذلك تلك التي يكون لها تأثير على (اهتمام المشاهد، وعلى فهمه، وعلى مشاعره، وعلى حسه المشترك). لقد ظهر(الدراماتورج) ولفترة طويلة في شكل واحد: (مؤلفا للقصائد الدرامية)، والنشاط الدراماتيكي الذي يركز حصرا، وبشكل كبير على تكوين النص وفقا لاتفاقيات الكتابة الخاصة والمحددة في وقت معين. وقد وضع أرسطو أسس هذا المفهوم في كتابه (فن الشعر)، من خلال بحثه عن (الكيفية التي ينبغي أن ترتب القصص، إذا كنا نرغب بأن يكون تكوينها ناجحا)، ورفضه لفكرة العرض، (الغريبة تماما عن الفن و’إنه’ لا يشترك في شيء مع الشعرية، طالما أن المأساة تحقق تأثيرها حتى من دون منافسة، ومن دون ممثلين)، إنه يعتقد أن التكوين ينبغي أن يكون ‘جميلا’ قبل كل شيء، أي يميل إلى المحاكاة وفقا للقوانين والطبيعة: وينبغي على الابداع الشعري في مثل هذه الحالة الامتثال لرموز المرجعية التي تعتمد على المبادئ الفلسفية والجمالية التي تعتبر ذات أهمية وصلة بالأعمال التي لا تشوبها أية شائبة (مثل تلك التي كتبها كل من سوفوكلس وأريستوفان). ولقد اعتمد هذا المبدأ على نطاق واسع في الفترة الكلاسيكية، في كتاب (الممارسة المسرحية) لإوبنياك عام 1657، الذي يذكر فيه: (إن الشعراء التراجيديين يأخذون من التاريخ ما يقترحه عليهم، ومن ثم يغيرون الباقي لأجل كتابة قصائدهم، وإن الذهاب إلى المسرح من أجل معرفة التاريخ، ما هي إلا فكرة سخيفة). ويناقش هذه النظرة ويرى من خلالها فيما إذا كان ذلك ينطبق على مسرح كورناي؛ وكذلك في الخطب الثلاثة له عام (1660)، وفي كتاب (الشاعرية الفرنسية)، عام (1763)، لمارمونتيل. إن الحجة لتي وضعت من قبل (أبنياك) قريبة من تلك التي لخصها (راسين) في مقدمة مسرحية (بريتانيكوس) عام 1669: (حادثة بسيطة ذات موضوع بسيط، كتلك التي تحدث في نهار واحد والتي، بتدرجها نحو نهايتها، لا تكون معززة إلا بمصالح الأبطال، ومشاعرهم، وأهوائهم). ولقد بادر (راسين) في هذه المقدمة إلى الاعتذار عن تجاوزه الواقع التاريخي لبعض شخصياته المسرحية، وردا، في ذات الوقت، على تشدد المتزمتين من النقاد الذين ينزعون دائما إلى لوم بعض الشعراء حين يستسلمون إلى الخيال فيخلقون مواقف وشخصيات بعيدة عن الواقع أو انها لم تراعِ التاريخ. وهكذا نرى راسين يدافع عن حقوق الشاعر وحريته في خلق شخصيات وحوادث من بنات أفكاره تقارب الواقع وإن لم تنبع منه. ويُعرف جاك شيرر، هذا النوع من الدراماتورجية الكلاسيكية مثل: (جميع العناصر […] التي تُكون قاعدة المسرحية وخلفيتها […] وهذا الذي هو موضوع المؤلف […] قبل أن تتدخل الاعتبارات المتعلقة في تنفيذ العمل) . في مثل هذا التنظيم الداخلي، يعارض شيرر الهيكل الخارجي، الذي يتشكل أكثر فأكثر بفعل الأشكال […] التي تصنع شروط الكتابة وعرض المسرحية)(باتريس بافيس، ص 106)، ويظهر قريبا من الموضوع الحالي للدراماتورج. ويشير المصطلح في الوقت الحاضر إلى مجموعة من الاجراءات المشابهة للعمل التحليلي المحتمل في الممارسة المسرحية. وإن ما يطلق عليه الممارسون تسمية (العمل على الطاولة)، يمثل المرحلة التمهيدية لأي التزام دراماتورجي.

العمل على الطاولة

بمجرد ما يتحدد البرنامج المسرحي ويقوم ‘المخرج’ أو ‘مدير الإنتاج’ بتحديد جدوله الزمني الذي يتلاءم مع عمل كل فرد من أفراد فريق عمله: مصممي الديكور، الازياء، الموسيقى، والموسيقى التصويرية، والفضاء، والمكياج، والممثلين، والمغنين، والموسيقيين ‘إن وجدوا’، وليس هؤلاء وحدهم الذي يجب تحديد جدولهم الزمني، وإنما أيضا مدير الإنتاج، مساعد المخرج، المسئولين عن اشتراكات الجمهور السنوية، والمسئول الإداري للمسرح، وهكذا يتم جدولة عمل الجميع وفقا للتواريخ التي يمليها عليهم الجدول الزمني للموسم المسرحي. وتعتبر القراءة الأولى حدثا مهما بامتياز في إنتاج العرض. حيث يجتمع جميع الفنانون من أجل الاستماع إلى قراءة النص لأول مرة بصوت عال. ثم يقوم المخرج بتقديم تصوره الإخراجي الأول. وهكذا تتم إجراءات الاتصالات الأولى بين الممثلين، والنص، ومختلف المصممين، وتبدا الأفكار بالظهور. وتعتبر هذه الخطوة بمثابة المعادل الموضوعي لولادة الانتاج المسرحي. لاسيما أن هذه الفترة أو المرحلة من العمل، ستسمح للممثلين بالتفكير طويلا بشخصياتهم، ويمكن أن تنقضي بين القراءة وبدء البروفات. يبدأ الممثلون في صالة التمرين، بالقيام بأولى مراحل ‘العمل على الطاولة’، حيث يناقش المخرج، ويشرح التحديات التي يطرحها النص الذي سوف يقوم بإخراجه. وفي هذه الفترة أيضا، يبدأ الممثلون بترويض أدوارهم، بعد أن يقوم المخرج بشرح رؤيته للشخصيات، والمسرحية بأكملها. ويمكن ‘للمستشار الدراماتورج’ أن يحضر ويشارك في هذه المرحلة المهمة من العمل ‘على الطاولة’، التي تنبع منها المشاكل المتأصلة بعملية الخلق المسرحي. وهنا يبذل الدراماتورج كل ما بوسعه من أجل توفير المعلومات التي يحتاجها فريق العمل دون أن يشغلهم بكل التفاصيل والملاحظات. ويقوم بالعديد من التحقيقات الصادرة عن النظام التوثيقي، المتعلق، في سياق النص وفهمه وتحليل ما يحتاجه الجمهور من معلومات أو رسائل؛ وبكتابة سيرة ذاتية مفصلة عن المؤلف، على سبيل المثال، أو الكشف عن التناص الممكن بين نصه ونصوص الآخرين، وعمل قائمة من المفردات والعبارات والإشارات التي يتضمنها نصه، وتوضيح الغامض منها، وألخ. وهكذا يُفهم البحث الدراماتورج مثل شبكة فضفاضة ‘مشعة’ وضيقة في تأملاتها، على حد سواء، (يقودها الغرض الرئيسي) لتغذية عمل الخشبة التمهيدي: إن البحث الدراماتورجي يصوغ بشكل تدريجي مجموعة من القوانين المفتوحة، التي سوف تلعب دور الواصل ‘ والمحرك’ في اللحظة المناسبة في ترتيب، وموضعة القسم الدراماتيكي.
باريس

 

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *