شامان.. ألق التجريب الروحى لسعيد سليمان – محمد ناصف #مصر

حين أشاهد إعلانا لمسرحية للمخرج المسرحى المصرى سعيد سليمان ، أتحسس أدوات التجريب النقدي لدى و تأخذنى نفسى مباشرة لتجربة له،بها من الروح و الصوفية قدر معقول من التعاطى،لم أذهب لكى أشاهد عرضا له و خيب ظنى أبدا، لابد أن أجد احد النقطتين أو أجدهما معا ،انطلقت بعد افتتاح العرض بيومين مشحونا بمعرفة جديدة و خبرة إنسانية يسعى لها و يجتهد فيها الرجل،ذهبت لمشاهده العرض المسرحى ” شامان shaman ” من تأليف و إخراج سعيد سليمان بقاعة الفنان الكبير عبد الغفار عودة المؤسس لفرقة و قاعة الغد للعروض التراثية، التابعة للبيت الفنى للمسرح برئاسة المخرج و الفنان المحترم إسماعيل مختار،حين دخلت القاعة،وجدت أن المخرج قد تعامل معها كقاعة بشروطها الإخراجية و التنفيذية كعرض من عروض القاعة،على عكس عدد من المخرجين يحولها إلى خشبة و كراسى و علبة إيطالية ، فقد أعد سليمان عرضه داخل إطار مستطيل من المقاعد الخاصة بالمتفرجين ، يتوسطها برتكبل دائري سيستخدم كبقعة ضوء يتحلق حولها الممثلين فى عدد من المشاهد،كأنها الكرة الأرضية التى تحوى البشر جميعا بأفرخهم و أطراحهم، و كأن البشر داخل القاعة محبوسين بين مستطيل و دائرة ، وكأن الممثلين و المتفرجين شيء واحد .

الشامان كما يقرر المخرج سعيد سليمان هو أحد المعالجين الروحين فى أحد القبائل الأفريقية،و مهمته طرد الأرواح السلبية من القبيلة،وتلك هى الفكرة الأساسية التى أعتمد عليها المخرج/المؤلف فى طرح رؤيته التى يود أن يوصلها للمشاهد النوعي الذى يتعاطى تلك النوعية من العروض المسرحية، و ذلك عبر أقوال كتبها المخرج/المؤلف تتسم بفردية المصدر إلى حد كبير و تتمحور حول ذاتها، ثم تتوحد فى النهاية لتعبر عن فكرة يريد أم يوصلها العرض فى النهاية ، ويؤكد على روح التفاؤل من خلال العمل الجماعى الذى يجب أن يسود المجتمع.

عرض ” شامان ” من عروض القاعة التى تتفاعل مباشرة مع الجمهور، سواء كسرت معه الحائط الرابع من خلال حوار أو اشتباك بينها و بين الجمهور أم لم تكسره ، فيشعر فيها الممثل بأنفاس المتفرج صعودا مع حركته الدرامية مع إيقاعه الذى ربما يجعل المتفرج معه متيقظا أو يدفعه إلى النوم و لم لا؟ و جسد الممثل لا يزيد سنتمترات عن جسد المتفرج ،الذى يتفاعل مع سكنات و حركات الممثل.

يبدأ عرض ” شامان shaman ” بضجيج غير منتظم من كل الشخصيات و خلف كراسي المتفرجين الذين ييشتتون سمعيا بالطرق على أشياء مختلفة يمسكونها فى أيديهم ؛أشياء بلاستيكية و حديدية و خشبية و سلالم و براميل،كما نجد أصوات آلات موسيقية غير منتظمة، و نشاز ، كل ذلك يشعرك أنك فى مشهد فوضوى من حيث الشكل و المضمون ، و بالطبع لن يؤدي ذلك إلا إلى نفوس متوترة وشاردة و غاضبة و قلقة ومصابة بأشكال الأمراض النفسية و الجسدية كافة، و تحتاج لعلاج بالطبع ولحالة من التوحد مع الكل لعلهم يجدون حلولا تجمعهم و تأخذهم نحو رؤية موحدة و هدف مشترك.

تبدأ كل شخصية من شخصيات العرض العشرين فى الحديث والتعبير عن همها وغمها و كربها و مرضها وأوجاعها من خلال حوارات قصيرة جدا ومعبرة عن حالتها التى تمر بها نفسيا و جسديا و اجتماعيا، و تم ذلك من خلال إيقاع سريع لاهث، صعب التأمل أحيانا و يعبر عن الحالة التى تمر بها كل شخصية ، ولكى يعبر المخرج سعيد سليمان عن حالة التوحد فى الأزمة ، ارتدت كل الشخصيات اللون الأسود وكأنه لون الحداد على الموت المعنوي لتلك الشخصيات ، أو سيطرة الشيطان جميعا عليهم، وتبدأ حالة النشاز تتلاشى شيا فشيئا من خلال بعض المقطوعات الموسيقية الحزينة التى بدأت تجمع الكل، و ذلك من خلال عزف منفرد للناي أو الكمنجة و الدف و الطبول، و كان عبارة عن مجرد ضربات متفرقة و غبر منتظمة ،حتى صار إيقاعات منتظمة ومؤثرة فى النهاية، كانت تلك الموسيقي التى وحدت الجميع تعبر عن الإحباط و الحزن والقلق والاكتئاب والفقر والتشرد والتوتر، كانت أقرب إلي استخدام الاكابيلا (مجموعة الأصوات الموحدة ) بدون موسيقى.

وظل ذلك هو الشائع طوال العرض و كأنه يؤكد أن يؤكد على وحدة الألم و الوجع الذى يعاني منه الجميع ، ثم تبدأ مجموعة العشرين ممثلة فى التحول التدريجى مع إنتظام الإيقاع و كأن ذلك كان رسالة لانتظام الحياة إلى حد ما، رغم قليل من الحزن الذى ربما يعانى منه جميع الشخصيات، و بعد فترة تبدأ الانفراجة التى تأخذ الكل إلى اللون الأبيض الملائكي ، و يبدأ الجميع فى التخلص من اللون الأسود، و من الأقنعة للكائنات المشوهة التى كان يرتديها الجميع و تثير الحنق و عدم الارتياح،و كأن الكل تخلص من الروح الشريرة بداخلة بتوحدهم موسيقيا و على الإيقاعات و بفلسفة الشامان التى أطلقها المخرج سعيد سليمان، و حلت مكانها روح خيرة ، قادرة على الغناء الايجابي و الرقص المبهج ؛ الجماعى و الفردي من كل الشخصيات ، لتحل فى النهاية روح طيبة على الجميع بما فيها المتفرجين الذين يتواجدون على شكل مستطيل فى قاعة العرض.

أعتقد أن المخرج حاول أن يستفيد من تلك الحالة التى تسمى شامان وعبر عنها الشاعر الألماني شيللر، و أعد الموسيقى لها بيتهوفن من خلال أغنية شهيرة تقول :

أيّها الأصدقاء
ليست تلك النغمات
لنرفع أصواتنا ونبتهج
ونغنّي بفرح
الفرح شرارة الآلهة الجميلة
ابنة إليسيوم
سحركِ يجمع ما فرّقته العادات القاسية
ويصبح الجميع إخوة
تحت جناحك الحنون
تحابّوا يا ملايين البشر
هذه القبلة للعالم كلّه

(يتواجد فيديو لها على اليوتيوب).. عبارة عن شخص ما يبدأ فى العزف لتلك الأغنية و يبدأ عدد من الموسيقيين و المحبين للغناء الانضمام واحدا واحدا ، و تبدأ تلك الحالة الموسيقية فى تغيير تلك الحالة المزاجية لكل من ينضم لتك المجموعة التى تلتقي فى البراح؛ كبارا و صغارا ، رجالا و نساء ، و فى النهاية تسيطر الحالة الايجابية على الجميع و تكون العلاج للشخصيات الموجودة فى القاعة كافة.

وسيطر المخرج سعيد سليمان على مجموع العشرين ممثلا الذين كانون يتحركون فى القاعة و داخل مستطيل محاط بالمتفرجين براشقة و مهارة عالية ، رغم أنهم كان يحملون معهم أدوات موسيقية و موتيفات و أشياء ثقيلة من سلالم و براميل و أخشاب، وأقنعة لم تكن خفيفة فى الحقيقة، لكنها كانت أقنعة ورداء فوقي في الوقت نفسه ، و رغم أن الممثلين كانوا عبارة -فى تصوري – عن فرقة موسيقية استطاع المخرج أن يطوعها لعمله و لفكرته،و أراد أن يحقق بها ما كتبه على البنفلت أن ما يقدم هو “أوبرا طقسية ” عبرت عن طقس قبلي بموسيقى أقرب إلي الموسيقى الإفريقية والشرقية،وساهمت الرقصات التى قدمت أيضا فى تأصيل قليل من هذا المفهوم الذى يريد أن يسوقه سعيد سليمان ليكون مصطلحا خاص به ، أعتقد أنه اجتهد إلى حد كبير و أري أنه أصاب بدرجة معقولة أن يوصل ما يريد أن يوصله للمتفرج،فما قدم ليس ببعيد عن حالة الأوبرا ، ماعدا اللغة الآوبرالية التي تميز العرض الأوبرالي ، و أظن أنه سيعود مرة أخرى لهذه الحالة و هذا المصطلح ليؤسس له فى عروض أخرى،و قد استخدم للتعبير عن الحالة الموسيقية المصرية و العربية بقصيدة لأبى القاسم الشابي و تلحين دكتور هاني عبد الناصر .

يعتبر الأداء الجماعى هو ما يميز العرض ، فتقريبا تتساوى مساحة الأدوار بين كل الشخصيات، فانقسمت المسرحية في تصوري إلي مشهدين طولين؛المشهد الأول كان باللون الأسود و الأقنعة للكائنات الغريبة و يعبر هذا المشهد عن حالة القلق و الإحباط والحزن، والمشهد الثانى كان باللون الأبيض و الموتيفات التي تعبر عن الخير و الأمل و الرجاء . و مابين المشهدين قد نجد تميزا لبعض الأصوات ، و بعض الأداء من بعضهم ، و أرى أن الملابس التى صممتها الفنانة نهاد السيد قد لعبت دورا مهما فى وصول الرسالة التى يريدها المخرج ، إضافة للديكور الذي تمكن د صبحي عبد الجواد من تكوينه فى القاعة ، فاستطاع تشكيلها حسب رؤية المخرج و حسب طبيعة القاعة التي تعتبر من أفضل قاعات البيت الفنى للمسرح .

رغم وصول رسالة ” ” شامان shaman “فى النهاية كحالة إلا أن الدراما فى العرض لم تكن دراما تصاعدية و لكنها كانت درامية أفقية ، تعتمد على الفقرات الحوارية المبتورة و القاطعة و السريعة و اللاهثة أحيانا و التى لا تشكل تناميا دراميا معروفا أو حكاية تناسب مفهوم الأوبرا و لكنها تناسب مفهوم الطقس المختلف و المتنوع ، لذا يستطيع المتفرج أن يسقط بعضا منها لو أراد نظرا لكثرتها و تنوعها و عزفها أحيانا على وتر واحد ، و أعتقد أن اعتماد المخرج على المدرسة الواقعية السلوكية كان الأغلب فى الإخراج، فكل ممثل تشعر بأنه كان يفهم و يهضم دور كل شخصية رغم محدودية حجمها و إن كان العرض ككل يشير للرمزية ، رغم النماذج البشرية المباشرة للمحبط و الحاقد و الكاره و القلق و غيرهم.

ختاما، استطاع المخرج/المؤلف سعيد سليمان أن يقدم عرضا جديرا بالمشاهدة ، عرضا يمتلك رؤية جديدة مغايرة مستمدة من بعض طقوس القبائل،معتمدا على آليات إخراجية متنوعة مابين الطبيعية و الرمزية و الواقعية السيكلولوجية ليصل لهدفه إلى نبذ الأرواح الشريرة و السلبية لتستقر مكانها الروح الايجابية المستمدة من ” الشامان shaman” في نفوس كل شخصياته المشتتة و المحبطة و المقهورة والمريضة، مما يعطى أملا ورجاء للحياة .

محمد ناصف – مصر

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش