يوميات ملتقى الشارقة للمسرح (3)

 

حث المرء، لكثرة العمارات وعلوّها، ولانتشار الزجاج في كل الفضاءات، عن مكان أقلَ “حضارة”، أقلَ “حركة” و«حياة”، الكتَاب والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والحكماء لا يتأقلمون كثيرا مع الإسمنت، ولو كان أبَهة لا مثيل لها، ربما كانت عجمان مناسبة لهؤلاء الشواذ الرائعين الذين يفضلون الوحدة والطبيعة بحكم محافظتها على جزء من هذا وذاك..

تخيلت إمارة عجمان أبعد من ذلك بنصف ساعة أو أزيد، لم أتأكد إذا من خارطة الإمارات، وذلك تقصير مني وتقاعس في حق الجغرافية.

وصلنا إليها رفقة محمد حسين طلبي، مدير الصيانة بكلوريوس هندسة، والمسرحي لخضر منصوري بعد قرابة عشرين دقيقة من الشارقة، عجمان أقل اتساعا من دبي والشارقة وأبو ظبي، وأقل ثراء، كما شرح لي مرافقي، بيد أنها جميلة وغاية في النظافة، شوارعها واسعة وعمرانها يوزع معزوفة من التوت في براري الخالق.

حاولت أن أرسمها في البال لأسترجعها بسهولة عند شروعي في الكتابة، أو عندما أكون بحاجة إلى العلامات الدالة، لم أسجل سوى ملاحظات، بيد أني التقطت صورا تؤثث الذاكرة بما لا تستطيع أن تعبر عنه الكلمات وجمهوريات الحبر والمعاجم، تعيش هذه الإمارة بمالها وعائداتها النفطية، وبمساعدة الحكومة المركزية في أبو ظبي، هناك دائما موارد إضافية تمكنها من اللحاق بالإمارات الكبرى التي رسمت طريقا نحو الأفق الأكيد.

طبعا، قد يبحث المرء، لكثرة العمارات وعلوّها، ولانتشار الزجاج في كل الفضاءات، عن مكان أقلَ “حضارة”، أقلَ “حركة” و«حياة”، الكتَاب والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والحكماء لا يتأقلمون كثيرا مع الإسمنت، ولو كان أبَهة لا مثيل لها، ربما كانت عجمان مناسبة لهؤلاء الشواذ الرائعين الذين يفضلون الوحدة والطبيعة بحكم محافظتها على جزء من هذا وذاك، إنها أقل نؤى من دبي، أقل زجاجا، بيد أن الألوان والورود تتبوأ كما البسملة، وتلك إمارات مستقبلها المضيء الذي يرفرف أيامه في شرفات الربيع القادم من الرمل والقيظ.

لم نمكث هناك كثيرا بحكم البرنامج، عصير مشكل ذكرني بجولاتي الدمشقية الكثيرة عندما كانت هذه العاصمة إحدى محطاتي المفضلة، غاصت دمشق في وحل أهلها وفي الأطماع المكيفة، صور للتأمل والتذكار، ثم جولة قصيرة راجلين. لقد أذن لصلاة المغرب قبل دقائق، أمَا الفندق فأذن للعودة بطريقته، سنقضي لحظات أخرى مع المسرحيين في المقهى أو في الصالون، حسب الظرف.

أجل، هناك أمور لا يمكن أن يتحكم فيها المنطق والحسابات لأنها كذلك، أو لأنها يجب أن تكون عفوية، كما هي، لا أقل ولا أكثر، ليس قبل، وليس بعد، إنما في ذلك التوقيت الذي لا أحد يحدده، ما عدا الصدفة التي تتجاوز المنطق والرياضيات.

كنَّا محاطين جيدا بالمنظمين وبأنفسنا في ذلك التناغم العظيم الذي يتعذر نسيانه لأنه قلَ ما يتوفر، وكنا نتناقش كثيرا ونضحك قدر الإمكان لئلا تصدأ أعماقنا أو تصاب بالجدَ غير المناسب الذي يقضي على جزء كبير من الحياة، لم تكن هناك فراغات البتة، المسرح والأدب والخطاب والدنيا.

قضيت الليلة في المستشفى الكويتي: فحص عام، مغص وغثيان وبقية آثار إلتهاب غشاء القلب، الوحيد الذي لم يكن يعنيه الأمر هو أنا، رافقني السيد محمد حمدان إلى مستوصف خاص، ثم إلى المستشفى الكويتي، مصل خلفه مصل: حالة من الوهن، ربما بسبب التوابل، أو بسبب المتغيرات الجوية، المهم أني كنت مرتاحا في مكان أنيق وبين أيادي آمنة، وبرفقة شخص استثنائي أصرَ على البقاء في انتظاري بانتظار نتائج التحاليل المختلفة، ربما تمنيت أن أبقى مدة أطول من تلك التي قضيتها مطمئنا، كنت غارقا في الضحك، وضحك معي مرافقي لأنه لم يفهم في بداية الأمر، ماذا حدث تحديدا؟

كان يجب علي أن أضحك كثيرا، لأني لم أشعر بإهمال الأطباء، كما في مملكة الكلام والسلام والطعام والعوام، هناك حيث ترمى في زاوية مثل كيس من الملابس المستعملة وتنتظر حظك، كما حصل لي عشرات المرات مع الصراصير والوسخ، وكما يحصل للذين لا يعالجون في مستشفيات فرنسا وسويسرا وبلجيكا، لأنهم مجرد مواطنين من الدرجة ما بعد الأخيرة، لأنهم ليسوا من الحاشية وبطانة السوء والشخصيات المهمة جدا التي تعيش حياتها وحياة التعساء والفائضين عن الحاجة، مثلي ومثلك.

الساعة الثالثة صباحا، عندما خرجت من المستشفى البهيَ، كدت أموت قليلا، كان ذلك إحساسي في لحظة ما، رغم أن أحاسيسي منتهية الصلاحية منذ فقدت القدرة على العيش كما الناس، قانعا ومقتنعا بالقمامات المكدسة في حقول الرؤية، تلك التي تعدَ بمثابة إنجازات مذهلة للسياسات التعيسة التي شربت كل النفط، ربما مرضت من شدة الورد والنظافة. يقول الأجداد: ومن الحب ما قتل، الأمر كذلك إذا، الظاهر أني لم أتأقلم مع النظام العام بعد أن ألفت منطق النفايات، حكاية للنسيان.في ضيافة مؤسسة سلطان بن علي العويس: في اليوم التالي قمت بزيارة لمؤسسة العويس الثقافية برفقة المهندس، بناية فاخرة في دبي، شكلا ومضمونا، مكاتب وكتب..كتب.. كتب وعناوين… إستقبلني سعادة المدير عبد الإله عبد القادر بأريحية فاخرة وتحدثنا في الثقافة والمسرح وما ينجزه هذا الصرح، كنت قد زرت هذه المؤسسة قبل ثلاثة أعوام وأقمت عشرين يوما في الورقاء، قريبا جدا من التنين الصيني الذي لم يكن يفصلني عنه سوى الطريق، هناك وسط الصحراء، كان العمران وقتها يتقدم بتؤدة، لكن الرمل كان حاضرا بكثافة، قضيت آنذاك أياما سعيدة ما بين دبي والبادية.كان الدكتور عبد الإله عبد القادر، قد خرج بصعوبة من وعكة صحية مدمَرة، لم نتطرق إلى ذلك، لاحظت أنه يتعافى، ولم يكن يريد أن يتذكر ذلك حسبما فهمت، جلسة أنيقة وقهوة تركية كتقليد في سائر المؤسسات الأخرى: الشاي أو القهوة، ميزة المشارقة والخليجيين والأتراك والمغاربيين، أما الأوربيون والأمريكيون فيقدمون لك ريحا بالنعناع، أو في فنجانا من الهواء، هناك تقاليد راقية لا توجد إلاَ عند العرب والمسلمين وبعض الأمم الضاربة جذورها في الحضارة والدفء الإنساني، راقية وناعمة على الدوام.

لم أستطع حمل كل الكتب التي قدمت لي كهدايا، كان ذلك أمرا مستحيلا بفعل الوزن وإجراءات المطار، لذا اكتفيت بالقليل، في حدود عشرة كتب متنوعة، إضافة إلى كتابي صورة المرأة في الكتابات الإماراتية، والمسرح في الإمارات ـ ستون عاما من العطاء ـ اللذين كتبهما المدير وأهداهما لي بتواضع عابر للروح. هذه المؤسسة، هي التي منحت الطاهر وطار، جائزة استفادت منها جمعية الجاحظية، وقد حضرت آنذاك الكلمة التي سيلقيها حسين طلبي لتعذر حضور الروائي لأسباب صحية، كما منحت عدة جوائز معروفة لكتَاب ومفكرين وباحثين على المستوى العربي، قد نعود إلى هذه المؤسسة متى توفَرت الظروف.ليس من باب الحكمة عدم زيارة ما تيسر من الهيئات المهتمة بالتراث والشعر والرواية والرسم وما له علاقة بالإبداع، كنت أسابق الوقت كي آخذ فكرة، ولو موجزة، عمَا يتم إنجازه في هذه الدولة، أحيَن معلوماتي وأكتشف ما غاب عني، هناك حركية كبيرة، وهناك اهتمام مدهش وإنجازات يتعذر عدم الإشادة بها لقيمتها المثلى.

الإماراتيون، من هذه الناحية، ينتقمون لأجدادهم من قحط الصحراء القديمة وبؤسها بإنشاء مواقع مستقبلية تفي بالغرض، ستأتي الأجيال القادمة مرتاحة، وستجد أن الآباء قاموا بدورهم وأزيد، ومع عدد السكان قليل ـ قيل لي إن تعداد الإماراتيين يمثل ما بين ثمانية وعشرة بالمائة من مجموع السكان، إلاَ أن الدولة تستثمر على المدى البعيد.

باتجاه خورفكان: المسافة بين الشارقة وهذه المدينة ليست بعيدة، قرابة ساعتين ونصف بالحافلة، غادر الفريق الذي حضر ملتقى المسرح فندق هوليداي في حدود الثامنة ليلا، سنبقى هناك ثلاثة أيام لحضور الكرنفال، مائة وخمسون كلم من الضوء في الطريق السيار المليء بالبهجة والسعادات الملونة، يجب أن أغسل عينيَ من مناظر القمامات التي تركتها هناك، تلك الكائنات التي أصبحت ببطاقات ثبوتية وهوية.

كنت أشاهد من خلال النافذة اللوحات المرورية الكثيرة والأضواء التي تثب من بعيد في القرى النائية التي حلمت بزيارتها ذات يوم، وكنت أسأل السائق عن بعض التفاصيل، كان في نيتي أن أمشي، أن أرى الخيمة والبعير والمعزة وأجلس على الرمل كما القدامى، أبو ظبي يمينا، ابن راشد، الرفيعة، البطائح والنوق، جبل علي، البربر الجنوبي، طواي السمان، المصافي، الفرفار، حيث تتلألأ أجمل مياه الإمارات العربية، كلباء، قدفع.. مدن وقرى بقيت متناثرة في الذاكرة ولم أستطع القبض عليها سوى بآلة التصوير.

مرورا بالفجيرة: لم تكن إمارة الفجيرة نائمة في ذلك الوقت المتأخر، العاشرة ونصف ليلا، طقس ربيعي معتدل ومحال تجارية وأسواق مفتوحة عن آخرها، إستنتجت بالمقارنة بأن الصحراء في النفس وفي الرأي التعيس، وفي الحكام البهاليل والعصابات، أمَا البيئة فيمكن تطويعها وفق الحاجة ما دامت هناك أموال كافية لزرع الشعير والفلفل في المريخ وزحل.

الخضر والفواكه محتفلة بشكل أسطوري يتعذر إدراكه، ما يشبه أعراس الجنَ في حكايات الجدات القديمات اللائي سافرن إلى القبر جائعات وبائسات، هناك تنوَع في الخضر والفواكه يشبه بطاقات بريدية لفنانين ماهرين، وتوقفنا قليلا لأخذ صوَر تذكارية من قلب الصحراء، أو لاقتناء تلك الأشياء البديعة التي وجب النظر إليها بدهشة، ثم وضعها جانبا بحنوَ، دون أكلها. هناك أفواه لا تستحق هذه النعمة ذات الألوان الزاهية، المستوية في المعرض مثل فراشات الربَ.

على اليمين واليسار، بدأت الجبال الصخرية تمد أعناقها إلى الأعالي، بدت في الظلام مثل ظلال لعمالقة خرافيين جابوا أصقاع الصحراء ثم اندثروا بعد حرب طويلة، كما هذه الجبال العالية التي بدأت تنسحب تدريجيا من الوجود لتترك مكانها للعمران والطريق السيار الذي قسمها إلى قسمين، لا بدَ أن هناك جهدا عظيما تطلب أموالا وذكاء وخبرة وحنكة، من الصعب القيام بإنجاز مماثل في سلسلة جبلية بهذه الصلابة، وبهذا العلو المربك، ثم الكثبان الباهتة التي طمسها الليل، هل مرَ الأجداد من هنا في عصر ما؟

المحلات التي تزين الطريق فاخرة واحتفالية كالطريق السيار، كما معرض الزهور الذي يرفرف في وسط البادية، دولة الإمارات تعتمد على نظام السقي القائم على التقطير، في حين نجد قارات أخرى رزقها الخالق بكل الفصول، وثلجا ومطرا، إلاَ أنها تنتظر قدوم فصل الصيف لتقيم صلاة الإستسقاء وتقول لله أغثنا الآن، بسرعة، قبل أن ننتهي من الصلاة. فهمت؟

من الصعب تصوَر كل هذا الورد والإخضرار في الإمارات المعروفة بالجفاف، في المدن وفي المناطق الصحراوية النائية، ربما تعلق ذلك بالثقافة ذاتها، أو بصناعة الذائقة وترقيتها، لنقل بصناعة ميول الحاضر والمستقبل، هناك بلدان بدائية تغرس قاذورات وتعمل على ترقيتها لأنها تنظر إلى المحيط بالبطن، أو أنها لا تنظر سوى إلى البطن والأمعاء بافتخار، وهناك بلدان أخرى تتعامل مع البيئة تعاملا من القطن لأنها تنظر إليها بالروح، وبتواضع الحكماء، ذلك هو الفرق إذا.

هناك قرابة خمسين كيلو مترا من إمارة الفجيرة إلى خورفكان التابعة إداريا للشارقة، رغم المسافة التي تفصلهما، لم أسأل عن السبب، قد يكون هذا التقسيم ذا علاقة بالإمارة، شاحنات، شاحنات كثيرة، العمل ليلا ونهارا كما تدل عليه الآلات وحركة السير، كان المسرحيون يؤلفون في الحافلة عملا مسرحيا جماعيا استمد حكايته من الطريق، ومن وحي أسماء المدن والقرى التي مررنا بها مازحين أو متفرجين على المشاهد الطبيعية، وكان ذلك أمرا ممتعا حقَا وتزجية للوقت.

وصولا إلى خورفكان: الحادية عشرة ليلا.. توقعت أن تكون خورفكان قرية فقيرة في مجاهل الصحراء القاسية، لم يكن الأمر كذلك البتة، في الطريق إلى الفندق لاحظت أنها لؤلؤة وسط الجبال الرمادية العالية التي تحيط بها من كل جانب. كانت مدينة زاهية في ذلك التوقيت الذي تكون فيه مدن المنتفخين تغط في الرطوبة والكذب والنوم والموت، بئس تلك المدن التي لا أفق لها سوى الرماد أو جهنم خالدة فيها، ومرحبا بي في هذه المدينة التي تبتسم كالبرعم.

أقمنا في فندق أوشينك الجميل، كان بأربع نجوم حقيقية، أقصد النجوم السياحية المتعارف عليها عالميا، وليس من نوع تلك الفنادق ذات الأربعة صراصير والخدمات التعيسة التي تجعلك تكفر بالمسؤولين وبالسياحة التي لا تختلف عن الأشغال الشاقة، كانت شرفة غرفتي تطل على المسبح وخليج العرب الذي طالما تجولت قربه برفقة الباحث سعيد كريمي والمخرج لخضر منصوري، كما كانت مشرفة على جبل شامخ كان ذاهبا إلى السماء لأمر ما يخص وضعه ككائن له انشغالاته الخاصة به، كل شيء على ما يرام، إنني محظوظ جدا إذ أتيح لي أن أسافر في مهمة علمية بعد أن شعرت بالصدأ يقرض كياني، لم أعد أحتمل البقاء في مكاني كمُقعد أو كمقعَد، أو كشخص فاته الوقت والقطار والحياة والقيامة والسلاحف، لو حدث أن بقيت سنة كاملة في الجزائر، لا قدَر الله، دون أن أقوم بجولة ما، لأصبحت فحما، أو لأصبت بكل الإنهيارات العصبية، التقليدية منها والحديثة، العمودية منها والحرة والنثرية، المستديرة والمستطيلة، وليكن.

كان كرنفال المسرح الذي برمجته حكومة الشارقة في إطار الملتقى الحادي عشر في مستوى الحدث، من حيث التنظيم والنقل والإستقبال والإيواء والعروض الإحتفالية، مع بعض الملاحظات التي قدمناها للمعنيين فيما يتعلق بطبيعة الكرنفال. بيد أنه ثري في مجمله، ومفيد، إذ تمَ نقله إلى هذه المنطقة النائية في إطار خلق تقاليد تتمثل في تعميم المسرح على البلد برمته، كانت الوجبات تقدم للناس مجانا، شأنها شأن الماء والمشروبات، الدولة تدعم الفرجة بالخسارة، لكن المستقبل كفيل بتعويضها لأنها بصدد بناء أمَة منسجمة، ومؤثثة معرفيا وفنيا، وذلك أكبر إنجاز يمكن القيام به عندما نريد وضع المال في المكان المناسب له، المال الذي لا يحصن الأمة، مال يشبه العلف والقصدير والحروب والفتن، لا غير.

«حماية البيئة واجب ديني ووطني”… ذلك ما قرأته في جهة ما، من الصعب الوصول إلى هذا التفكير عندما تكون انشغالاتنا مبنية على الريع والتفكير في السطو على كل شيء، على أموال اليتامى والفقراء، وعلى حياة المواطنين وعافيتهم، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، قد لا تصلح هذه الحكمة في سياقات تستدعي الحزم والصراخ والعويل والبكاء والحرب، أو تستدعي الشكر أو الذم، الأمور ليست سوية، ستبقى عبارة حماية البيئة واجب ديني ووطني راسخة في الخلايا، وسأفكر في جمالها وأبَهتها ما حييت.

إستمر كرنفال المسرح إلى ساعة متأخرة من الليل، في الساحة وفي القاعات القريبة منها على خليج العرب الساحر، وقريبا من الفندق البهيَ حيث تقيم مختلف الأجناس التي جاءت من أجل السياحة، أو من أجل التجارة والأعمال، جنسيات مختلفة من كافة القارات، أمَا العنصر الغالب فمن البلدان الآسيوية التي وجدت لها مكانا في كل الإمارات، سواء كسياح أو كعمال وإطارات تسهم في ترقية الإقتصاد الوطني، وكان منظر الملامح والألوان المتنوعة أمرا غاية في الجمال، كل الدنيا في الإمارات العربية المتحدة، دون استثناء.

سيبقى لنا متسع قليل من الوقت للتجوال والكسل والتسوق بعد العروض المسرحية وبعد الملتقى، إكتشاف المدينة وأسرارها، الحديث إلى التجار الباكستانيين والهنود والفلبيين والأندونيسيين، بالإنجليزية أو بالعربية، لقد تعلموا هذه اللغة التي تساعدهم في أداء مهامهم، أمَا الأغلبية فلا تتحدثها، أو أنها تنطقها بتلعثم واضح فيه مسحة من السحر، إن حدث وأن ذهبت إلى الإمارات فعليك أن تتعلم الإنجليزية لتتدبر أمورك في الشارع وفي المحلات والأسواق، أمَا الفرنسية فلا حاجة لك بها هناك، لا أحد يتكلمها، ما عدا أنت ومن يأتي معك، ومن يعتقد أن اللغة الفرنسية هي المجرى والمرسى والمبتدأ والخبر ولسان الدنيا.

حمية وأصدقاء: اتَبعت حمية صارمة منذ اليوم الثالث من وصولي إلى البلد، كان علي تناول الدواء والإكتفاء بالسلطة وحساء البصل والضحك مع الجماعة التي غالبا ما كانت تشبه تمثيليات وشخصيات مسرحية معتوهة إلى حدَ بعيد، لكنها كانت تملك مرجعيات مسرحية مركبة ومؤثثة كفاية، كان الجلوس قريبا من الحوض إلى الثانية صباحا واختلاق تمثيليات قصيرة جماعيا، نكهة نادرة تخرجك من صرامة المناهج اللسانية ومن الثقافة المتخصصة، يلزم الإنسان بعض العفوية والكسل المنهجي لتفادي الضغط، يلزمه أجواء لا علاقة لها بالعلم والمعرفة، عليه أن يكون بدائيا وجاهلا أحيانا كي يستمر في الحياة.

كان الصديق المغربي سعيد كريمي، كما الأساتذة الآخرين، إكتشافات من النوع الجيَد، لقد ظلوا، خلال الفترة كلها، منسجمين إلى غاية التوحد، ولم يفهم أي منهم هذا الجمال الرباني الذي ميز جلساتنا ونقاشاتنا التي تتخللها نكت ونوادر وأبيات شعرية وطرائف وما تيسر من السفاسف، لقد بدأوا يغادرون الإمارات الواحد تلو الآخر، لم يبق هناك وقت طويل. سنعود ظهر الغد إلى الشارقة، نقضي ليلة واحدة هناك في فندق اللوردز ثم نرجع من حيث جئنا، لم أذهب إلى أبو ظبي لزيارة الشاعر عياش يحياوي، كما وعدته، وذلك بسبب البرمجة المكثفة، وبسبب الإرهاق الشديد الناتج عن الظروف الصحية، انتهى وقت الإستراحة إذا، يجب أن نحزم الحقائب إستعدادا للسفر صباح الغد في حدود الخامسة بتوقيت البلد، قبل ذلك زارني الأستاذ محمد حسين طلبي مساءً قصد توديعي، تحدثنا كثيرا عن الفن المعماري، عن الشكل والمرجع والدلالة والإنزياح والأسباب والوظائف، سأحتفظ دائما بذكرى طيبة عن هذا الشخص الإستثنائي.

بعد ثماني ساعات من الطيران، سنلتحق بمطار الجزائر العاصمة، هل تريدون مني أيها الساسة أن أقول لكم لقد كنت سعيدا جدا بالعودة إلى درجة القفز؟ ليس لي متسع من الوطنية الزائفة التي تملكونها لإظهارها كبطاقة هوية، بمناسبة وبدون مناسبة، إنني حزين جدا… جدا، ومن يريد معرفة السبب فليحدث نفسه بصدق البشر العقلاء، ليس كمسؤول مهمَ، بل كمواطن يفتح عينيه على قمامة ويغلقهما على أخرى أكثر حجما، وذلك مكسب من مكاسبنا العظيمة بعد اثنتين وخمسين سنة من الحصول على الإستقلال.

مع ذلك، فقد اشتقت إلى القمامات والجرذان، النظافة مضرة بصحتي وبصحة الناس الأسوياء الذين يعرفون قيمة الوسخ والحفر والممهلات والكذب المتوارث، كم ستصبح الجزائر جميلة من دون كثير منا.

السعيد بوطاجين

http://www.djazairnews.info/

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *