العلاقة بين المكان والشخصية في النص المسرحي..الحداد لا يليق بكاليجولا نموذجا

 

المكان في النص المسرحي هو احد مكوناته  ومن اساسياته التي لا يقوم الا بوجودها  الى جانب عنصري الزمان والشخصيات والحبكة متصلة مع بعضها في سياق درامي فني وجمالي وفكري ودلالي لتكون بالتالي الشكل النهائي للعمل الأدبي المسرحي .ويختلف المكان في النص المسرحي عنه في العرض في ان بعض مفردات المكان في العرض تكون حاضرة بشكل او بآخر في سينوغرافيا العرض و حسب الرؤية الإخراجية ومنهج المخرج الاخراجي رمزيا او تعبيريا  اوغيره مما يتيح للمتلقي فرصه بناء المعاني وحل الشفيرات التي يبثها العرض ..اما في النص فانها اعقد بكثير، اذ ان كل عملية البناء التصوري والتخيلي للمكان /الفضاء المكاني سوف تقع على عاتق المتلقي من خلال بضع اشارات يجود بها المؤلف ليرسم خارطة الفضاء المكاني الذي سوف تلتقي به الشخصيات وهنا لا تكون للمكان إلا وظيفته الانشائيه كما يعبر هنري ميتران.
اما  العلاقه بين المكان وباقي عناصر النص فسوف يكملها المتلقي/ القارئ .وهو هنا القارئ الناقد الذي يتمكن من ربط دلالات النص وكشف الجسور والعلاقات فيما بينها وخاصة تلك العلاقة التفاعلية فيما يتعلق ما بين المكان والشخصية الرئيسية ، وهو ما سنتناوله في دراستنا .
وعلى هذا فالمكان في مسرحية الحداد لا يليق بكاليكولا للمخرج والكاتب  المسرحي الراحل كريم جثير يفتح قنوات وعلاقات ووشائج قويه مع الشخصيات  ،وخاصة الشخصية الرئيسية كاليجولا.فالمكان هنا ليس مجرد فضاء يسمح للشخصيات ان تؤدي دورها الدلالي والجمالي بمعزل عن تأثيراته ،بل هو مساهم بتحولات الشخصية وبالتالي فهو مؤثر فعال في الاحداث  ،حيث ان كل  انتقال للشخصية في المكان هو انتقال وتحول في الشخصية، ،والذي يؤدي بالضرورة الى تغيير في مجرى الأحداث والنهايات الدرامية التي تحمل خطاب النص ومغزاه. بل يكاد المكان ان يكون شبيها للشخصية فهو حينا يتمثل ذاتها السلطوية وحينا يتمثل اعمق مكنوناتها من خوف وضعف وحينا اخر يكون سببا في كشف زيف المحيط من حوله .
يكشف لنا المؤلف في أيام الحداد الأربع/التي تقابل الفصول / عن  الفضاء المكاني الذي تدور فيه الاحداث من الخارج الى الداخل بدءا من  القصر وقاعة العرش ومن الداخل الى الخارج حيث غرفة نوم كاليكولا و المخبأ  الى المكان العام الخارجي في النهر والعودة للقصر وقاعة العرش اخيرا.وفي هذا التنقل كشف للتحولات في الشخصية الرئيسة وكشف لمكنوناتها وطبيعتها.
الملازمة والتماهي
يتماهى المكان مع شخصية كاليجولا ويشابهها في الصفات بدءا من القصر وقاعة العرش ودلالاتها السلطوية وتأثيرات هذا الفضاء المؤثث بمفردات السلطة والقوة ،على الرغم من انه طمع باكثر من السلطة الدنيوية فهو قد افترض موتا لنفسه وحدادا من اجل ان يعلو فوق حتى هذه السلطة . 
في قاعة القصر كل الجبروت والشعور بالعظمة وحب الذات وتقديسها وتأليهها ووحدانيتها ولا نقيض لها (لانها اذا ما خرجت عن احاديتها سيكون هناك النقيض وهذا ما لا يريده كاليكولا)  ولا شبيه الا المكان الذي يدور فيه ويجد فيه ما يشبهه من رموز العظمة والقوة .ليمنحه القوة في نبذ كل المقدسات عدا وجوده وكينونته وذاته العظيمة. وما هذه العظمة الا شكل يضفيه عليه المكان وعلى ذاته المحبة له والمتمسكة به ،(ليخطر ببالك كل شيء، ان تفنى المملكة بأجمعها ،ان تتوقف الارض عن دورانها ،ان تنطفئ الشمس وان يختل نظام الكون بأكمله . لكن إياك ،إياك ان عنَّ على بالك ان يتزحزح كاليجولا عن مكانه ، فكاليجولا مركز الاشياء ، وعلى الاشياء ان تتحرك حوله) غير انه وعندما يستوي على العرش وينتشي بالشراب فتتراءى له صور واجساد بشر ،هم ضحاياه ، تتلوى من الألم وهي تلفظ أنفاسها الاخيرة يدرك مدى التعاسة التي يعيشها..  (فما اتعس كاليجولا الذي لم يعد أمامه من شيء يقوده الى المتعة والدهشة سوى موته) وإقامة الحداد على نفسه ليعيد تنصيب نفسه من جديد كإله أوحد .والمقدس الأوحد،
المقدس الوحيد هو من يتربع على العرش ،وليس غير كاليجولا من يستحق هذا المجد والعظمة في قصره وعرشه.
وبانتقال كاليكولا الى فضاء مكاني اكثر حميمية واكثر قربا للروح، غرفة نوم كاليجولا /سرير نومه/ فأنه يتحول الى الداخل من الشخصية ،انه ينقل لنا الطبيعة الداخلية والنفسية والعاطفية .بل يتداخل لتنكشف النوازع الخفية (فمنذ زمن طويل وكاليجولا لم ينم )وشعوره الخفي بالوحدة والملل . هنا يقارن نفسه مع الإله الذي لا يشعر بالملل كونه (يتسلى بجميع ممالك الكون ) ذلك الملل الذي يجعله اقل مرتبة من الاله.
يتجسد هنا في هذا الداخل ،داخله الروحي / المكاني. وبدل ان يكون هذا المكان فضاء سعادة ومتعه ولذة في الاختلاء بالخليلة  الا انه(يدفن رأسه في أحضانها  يجهش بالبكاء فجأة) .
ان غرفة نوم كاليجولا / السرير هي مسرح البوح كاشف فيها عن كل ما يخفيه عن الآخرين من ماضي مؤلم وسيء عاشه كاليجولا وخاصة تلك الذكريات عن زوجته (الخائنه) التي أورثته آلام شهريار وعدم ثقته بأية امرأة ثانية ،فسجنها مع كلبه إمعانا في إذلالها .غرفة نوم كاليجولا هي مكان اعتراف عن الضعف وان لم تكن أمام الملأ.
المشهد الوحيد خارج حدود القصر والمملكة/السلطة هو مشهد الزورق حيث كاليجولا متنكرا راكبا الزورق مع صاحب الزورق غير المنتمي لحاشية ولا تابع لاحد .هنا بعيدا عن اجواء التبعيه والخضوع لأمر كاليجولا، تكشف طبيعة المكان عن خفايا القصر والخيانات والمؤامرت الحاصلة فيه وخاصة بما يتعلق بأمر رئيس الشرطة وزيف أسطورة الاله كاليكولا.وبعيدا عن الضفتين وحيث لا يخشى ان يسمع الكلام احد يكتشف انه هو الوحيد في هذه المملكة الذي صدق حكاية صعوده الى السماء .
في النهر وفي رحلته القصيرة واذ تحمله الامواج بعيدا معها انكشفت كل الأصوات التي سخرت منه والتي كانت ضحية له .ثم ان اشارات المؤلف وتوصيفاته للحالة منحت المشهد بعدا دلاليا يربط كل من المكان والشخصية في صفة واحدة هي صفة الجريان نحو المجهول (تحمله امواج النهر بعيدا معها).
في المخبأ/ عودة الى المكان الداخلي مع الخليلة والذي يبدأ بالضيق ليدفع بالشخصية نحو نهايتها ..انه يزداد امتلاء باصوات القتلى والاصوات  المنادية برحيله التي ملأت أرجاء المكان /الروح وهو لا يملك عندها وقد كشف له النهرزيفه والمخبأ عن ضعفه فانه لا يملك الا ان ينصت لها و(يغادر المسرح).
وفي المشهد الاخير /يوم الحداد الأخير المكان /القصر، العرش ، خال من كاليجولا واذ يظهر انما نازلا من اعلى (يأخذ بالنزول ومن ثم يواصل خطواته باتجاه العرش ) كما في اول مرة في يوم  ما قبل الحداد (يظهر كاليجولا في الطابق العلوي متأملا قاعة العرش ،فتنحني النساء له .كاليجولا  يبدأ بالنزول ) وهو نزول للمكان مؤثرا ومتأثرا به .ولكن في مشهد يوم الحداد الاخير هو نزول الى مكان لم يعد له .بل حضر بطريقة يحاول فيها ان يثبت الوهيته  في المكان، لكن لم يعد يرى فيه القوة والسلطة والألوهية سوى نفر قليل من حاشيته .وا ذ يصل العرش المرصع باللآلئ يستل سيفه ليقتل نفسه(فلا احد يستطيع قتل الاله كاليجولا سوى الاله كاليجولا نفسه) ويطعن تمثاله  النصفي في موضع القلب، ذلك التمثال الذي استقر بمكانه طيلة السياق الدرامي ليخر أمامه  ميتا .إحساسا منه بفقدانه الارتباط بالمكان ،قاضيا على نفسه من خلال احدى مفردات المكان الثابتة ،المكان الذي اعلن ، في النهاية ،براءته من الشخصية واوصلها الى حتفها ،اختاركاليجولا  الوجود الآخر .اختار الموت قرب العرش.المكان الذي اراد ان يبقى صنوا له ومتماهيا مع صفاته .
وفي تتبعنا السابق لعلاقة الشخصية بالمكان نجد ان  الأثر الذي أحدثه المكان بالشخصية  نوعان الأول تمثل في فعل التعري والكشف لذات الشخصية بما كان يربط بينهما من تشابه  والثاني تعرية وكشف الماحول الذي يحيط بها كاسرا ذلك الرباط وتلك العلاقة المرضية في التمسك به.
من هنا تكمن تراجيديا العلاقة بين المكان والشخصية /الرئيسة  في تعرية للنقائض بين امتلاك السلطة والقوة وبين الخواء الروحي والضعف الذي تعيشه شخصية  كاليجولا .ومن هنا نكتشف الصفة التبادلية بين صفات المكان وصفات الشخصية والتي يكون المؤثر فيها وصاحب الامتياز هو المكان بكل مفرداته التي رسمها لنا المؤلف مثل العرش والسرير والقارب والتمثال النصفي لكاليجولا، تلك المفردات التي هي جزء من فعل التأثير الذي مارسه المكان عليها .المكان هو المحرك لكل نوازع الشخصية الدفينة
بينما تمنح الشخصية احدى صفاتها التي لم يعد يشعر بها وهي الحياة ليأخذ البطولة من بطل السلطة /النص بينما سيسيرها نحو الجمود والتصلب في صورة التمثال النصفي ،فكاليجولا  يشهر سيفه على نفسه  ليطعن التمثال النصفي /ليظهر لنا مدى التحجر والجمود الذي وصلت اليه روحه، والذي أراده صفة للالتصاق بالمكان السلطوي كنوع من الثبات فيه.


أطياف رشيد

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *