“طقوس الأبيض” . . . رعب الموت بلمسة صوفية

 

 

 

لا يترك المخرج محمد العامري عادته في الاشتغال على المتعة البصرية، وتحويل النص المكتوب إلى صورة مشهدية تأخذ المشاهد إلى أعماق الحدث وتفتح له أبواب التأويل على مصاريعها، وحين يكون النص الذي يتناوله شاعريا مثل ذلك الذي كتبه محمود أبو العباس تغدو اللعبة البصرية ضرورية، لأنها تنزله من خيال الشعر إلى الواقع، وإذا صادف ذلك وجود ممثلين محترفين أمثال أحمد الجسمي ومحمود أبو العباس وحميد سمبيج ومحمد جمعة وملاك الخالدي ومحمد بن يعروف، وأبناء “درجلك” تكتمل العناصر الضرورية للفرجة، وهذا ما حصل مساء أمس الأول في عرض “طقوس الأبيض” لفرقة مسرح الشارقة الوطني الذي جمع تلك العناصر ضمن عروض مهرجان أيام الشارقة المسرحية .
تستهل المسرحية بمشهد صامت تخرج فيه أجساد من غشاء أبيض شفاف يرمز للميلاد، ثم يتبع ذلك بلقطتين متوازيتين على جانبي الخشبة، إحداهما لميلاد طفل، والأخرى لدفن ميت، ثم تبدأ المشاهد الحوارية، حيث تدور المسرحية حول واقع حياة أسرة مؤلفة من زوج حفار وزوجة قابلة، ابتلوا بموت الأبناء، وعبر حوار شاعري يتكشف لنا أن الزوجة أصبحت يائسة من الحياة عازفة عن السعي في إنجاب أولاد جدد لأنهم سيموتون، وأن الزوج لا يزال يتمتع بالأمل ويحلم بغد مشرق، يملأ فيه الأطفال حياتهما، وتتخلل نقاش المرأة وزوجها لوحات مشهدية تعرض كل منها حالة من حالات الحياة والموت .
في اللوحة الأولى تأتي إلى القابلة امرأة حامل في شهرها السابع وتريد أن تسقط الجنين حياً، لأن هناك من يتربصون به، ولا تضمن أنهم سيتركونه يعيش في بطنها إلى أن يكمل أشهره التسعة، وهي تريده أن يحيا وأن تراه، ويبدو زوجها غير مكترث بشأن الجنين، وفي اللوحة الثانية يدخل رجل يجر زوجته ويرمي بها عند قدمي القابلة ويطلب منها أن تفحصها، مدعياً أنها حامل وهو يظنها خانته لأنه عقيم، ويظهر الفحص أنها غير حامل، فيفرح الرجل بذلك، وتتبدد شكوكه .
في اللوحة الثالثة نشاهد الزوج الأول وهو يضع أمامه جثة لطفل ميت ويصر على ألا تدفن وأن يجعلها طعاماً للغربان انتقاماً من ذلك الجنين لأن زوجته توفيت أثناء وضعه، ويهجم عليه الناس يريدون أن يدفنوا الطفل، فيتصدى لهم، ويموت الزوج في أثناء ذلك، وعندما يأتي الحفار ليدفنه هو والجنين يكتشف أن المدينة كلها تحوّلت إلى جثث ولم يبق فيها أحياء، فيصاب بالرعب، ويهرع إلى زوجته التي تكون على وشك الخروج لتلبية نداء امرأة في الطلق، فيحاول منعها من ذلك معتبراً أن مزيداً من المواليد ليس سوى مزيد من الجثث في مدينة يتحوّل كل شيء فيها إلى موت، لكنها تصر على الخروج، لتأتي اللوحة الرابعة بزوجة تعيش فرحة عارمة لأنها على وشك التخلص من جنينها الذي أعاق سفرها إلى الخارج، وهي تريد أن تتحرر منه ومن زوجها وأهلها ومن الوطن الذي لا يجلب سوى الحزن والألم، وتموت الزوجة أثناء ذلك ويهرب زوجها تاركاً الجنين بين يدي القابلة وزوجها الحفار، وتعمد القابلة إلى طرح الجنين على قارعة الطريق لكن الحفار يأخذه فرحاً به، حيث إنه سوف يملأ عليهما حياتهما، ويقنع زوجته بذلك، فتعود إلى حمله وتبدأ في مداعبته .
وتنتهي المسرحية بمشهد صامت يتضمن أجنة يريدون الخروج، لكنّ شبحاً يعذبهم وينكل بهم، ويرميهم جثثاً ميتة، ويغلق المشهد بصرخة القابلة وهي تستيقظ من كابوس أفزعها فتصرخ “ولدي” .
استعان العامري بالقماش الأبيض لتمثيل لحظتي الحياة والموت، لأنه يمثل قماط الجنين، وكفن الميت، كما استغل الأداء المتناغم لفرقة أبناء “درجلك” والعناصر الأخرى لتمثيل مشاهد الموت والميلاد واحتجاج الأجنة في القبور، وتخللت العرض مقاطع غنائية ذات طابع تصوفي تناغمت مع حالات الموت القاهر التي لا يستطيع الإنسان دفعها، وليس له إلا أن يسلم أمامها، وكذلك استعان بمواويل شعبية لهدهدة الأطفال، وكان أداء الممثلين متقناً وتنقلاتهم بين حالة الجد والهزل رشيقة، وليس فيها افتعال .
من ناحية الرؤية الدرامية لم تقدم المسرحية حكاية متنامية، لكنها صورت مشاهد متعددة لصور الميلاد والممات، وقد ولد ذلك تكراراً كاد يصيب العرض بالرتابة والبرودة لولا مشاهد الكوميديا التي نجحت في التغطية على الرتابة، وإيقاظ القاعة كلما جنحت للبرودة، ومع ذلك لم تتدرج المسرحية في تصوير الشخصيات وهي تعيش معاناة الموت لتجعلنا نشعر بالصراع ونحس بألم الشخصيات، ونتقبل التطور بشكل منطقي كأنه في سياق حياة واقعية، ولو لم تعان المسرحية من هذا الخلل في الطرح لكانت عرضاً متكاملاً بكل معاني الكلمة . – See

 

الشارقة – محمد ولد محمد سالم:

 

http://www.alkhaleej.ae/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *