“التكامل الفني في العرض المسرحي”..المفاهيم الجمالية في المسرح الروسي(2-2)

 

يشير المسرحي الروسي الشهير (بوبوف)  إلى أهمية (الجو المسرحي) الذي يصفه قائلاً ” فالجو إذن مفهوم حركي وليس ساكناً ،إنه يتغير دائما تبعاً لتغيرات الظروف المقترحة والأحداث “(12)،  مؤكداً على أن  (الجو المسرحي) ارتبط على نحو أساس مع تجارب (مسرح موسكو الفني) الذي ” هو خالق مفهوم الجو المسرحي دون منازع ،فالإخلاص للواقعية وحقيقة الحياة من جهة ، والسعي نحو أدب مسرحي حيوي من جهة ثانية ، هما اللذان دفعا مسرح موسكو الفني إلى تعميق وإغناء وسائل التعبير في المسرح”(13).
ويختلف (بوبوف) مع الطروحات التي كانت تتعارض مع مفهوم الجو المسرحي وخصوصيته في مسرح موسكو الفني  ، مشيراً إلى ان ” نقاد المسرح القدامى استقبلوا مفهوم الجو المسرحي – هذا الفتح الجديد للمسرح الفني – على أنه مجرد (مزاج) .والواقع ان هذا الكشف الجديد في مجال الوسائل التعبيرية المسرحية لم يتولد أبدا عند ستانسلافسكي و دانشنكو تبعاً لمتطلبات( الموضة) بل كان نتيجة دراسة معمقة لحقيقة الحياة ومحاولة إغناء لغة المسرح التعبيرية من خلال الأدب الواقعي وفن التصوير المعاصرين، كما ان اعتبار الجو المسرحي مفهوماً يعود فضل اكتشافه إلى أدب تشيخوف الدرامي فقط ، ليس أمراً شرعياً أبداً “.

بمعنى آخر فإن (بوبوف) يعمل على ربط جميع الاشتغالات التي تخلق تكاملية العرض المسرحي بتجارب (مسرح موسكو الفني) فحسب ، على الرغم من انه في مواضع أخرى يتقاطع مع طروحاته تلك ، ” فالجو المسرحي إذن لم يكن ثمرة جهود واعية، وإنما نشأ بصورة عفوية نتيجة فعل درامي حيوي متبادل” .
وتختلف وسائل تحقيق الجو المسرحي بحسب (بوبوف) الذي يؤكد خصوصية كل عرض في خلق جو مسرحي مغاير عن سابقه من العروض ، مفترضاً ان  ” لخلق الجو المسرحي لا تكفي معرفة عناصره التعبيرية فقط ، بل علينا أيضاً أن نبحث في كل عرض عن وسائل مختلفة لتجسيد الجو المسرحي من حيث ارتباطه بالعصر، وشخصية الكاتب، وأخيرا من حيث ارتباطه بالمبادئ الفنية لهذا العرض”(16) ، وبذلك يكون للمؤلف دور فاعل في تشكيل الجو المسرحي ، ولكننا نعتقد ان المسألة لا تتعلق بشخصية الكاتب ، بقدر تعلقها ببنية النص ، فما هي علاقة شخصية الكاتب الذاتية بالنص ؟ 
يختلف (بوبوف) مع الدراسات النقدية التي تدعو إلى التجريد في المنظر ، ويعتقد ان المنظر ينبغي ان يكون معبراً عن فكرة المسرحية على نحو خاص ولا يترك عائماً على بحر من الأفكار   ” كثيراً مايسود التجريد المسرحي عندنا مكان الواقع التاريخي الملموس للعرض ، فكل شيء مجرد ابتداء من الملابس والديكور وانتهاء بالأداء التمثيلي، وهذه الظاهرة  المعادية للتاريخ في الفن، كثيراً مايمجدها النقاد بنظريات جاهلة ويعتبرونها ظاهرة مسرحية شيقة “.
ويبدو أنه يشير بذلك إلى توجهات (مايرخولد ) التي أراد بها مغادرة  (مسرح موسكو الفني)، ولم يدخر (بوبوف) جهداً في تبني أفكار (ستانسلافسكي) دون سواه من مخرجي المسرح الروسي ، كما هو الحال في تحديده للوسائل التي تسهم في صناعة المنظور ا في العرض المسرحي ، و هي ” السرعة الإيقاعية ، والميزانسين ، والإضاءة ، والموسيقى، وتستخدم هذه الوسائل في توزيع المشاهد والأحداث الرئيسية والثانوية، وهذا ما يخلق المنظور في تطوير الفعل الدرامي، والتآلف الهارموني الصحيح بين أجزاء العرض المسرحي “.
إن الوسائل التي أحالنا إليها (بوبوف) تكاد تنسجم مع المفهوم الحديث للسينوغرافيا ، على الرغم من أن المنظور ارتبط ابتداء بفن الرسم ، إلا أنه في المسرح ارتبط بالعديد من الوسائل التي تتشكل على نحو تركيبي في بناء العرض المسرحي ، كما يؤكد  (ستانسلافسكي) ” أن المنظور من وجهة نظر التكوين في الإخراج هو منظور الفعل المتطور ، أي الرؤية ليس من نقطة جامدة بل من نافذة أمامية لقطار سريع حيث تنفتح أمام العين كل المواضيع والأبعاد الجديدة”.
يقدم (بوبوف ) واحداً من أهم الأقسام في هذا الكتاب ألا وهو القسم الذي جاء تحت عنوان (المشهد الشعبي) الذي يختلف مفهومه تماما عن مفهوم المسرح الشعبي ، ذلك أنه يرتبط بشكل خاص بآلية الاشتغال والتعامل مع الأدوار الثانوية (المجاميع ) حيث يشير المؤلف إلى بدايات هذا الفن بقوله “فن المشهد الشعبي حديث العهد في الإخراج ، ويرتبط كلياً بمبادئ المشهد الجماعي ، (…) وليس صدفة أن شاع في المسرح القديم مصطلح (ستاتيست) أي الممثل الثانوي دون كلام ، فالستاتيستيون هم الناس الذين كانوا يقومون بـ(الضجة) على خشبة المسرح ماقبل الثورة”(20) ، ومؤكدا على أن هذا الشكل المسرحي قد تطور مع فرقة مسرح موسكو الفني على الرغم من انه يذكر في موقع آخر ان المشهد الشعبي مقتبس من تجارب مسرح (الميننغن ) نسبة إلى الدوق (ساكس مايننغن) ، إلا انه يعتمد مرة أخرى على مقولات (ستانسلافسكي) الذي يقول” غالباً ما اتهم باقتباس إعداد المشاهد الجماعية من الميننغيين ، وهذا خطأ ، فالميننغيون كانوا أقوياء في تنظيم المشاهد الجماعية من حيث الأسلوب الخارجي، والنظام الصارم الشكلي ، إن كل مافعلوه هو انهم طلبوا من مؤلفي السيناريو كتابة أدوار صغيرة لكل جندي وأرغموا ممثلي (الستايست) على حفظ هذا النص عن ظهر قلب لإعادته بصورة آلية في المشاهد الجماعية(…) إن ما أسعى إليه هو شيء آخر ، فأنا أريد أن يبدع الممثل حياته المسرحية بنفسه بصرف النظر عن الدور ومكانته في المسرحية وذلك على أساس الدراسة الكاملة والعميقة للحياة المسرحية”.
وبذلك فإن المؤلف يكشف لنا عن نوعين من أنواع الاشتغال على تأسيس المشاهد الجماعية ، احدهما مرتبط بطريقة المايننغن والآخر يرتبط بأسلوب ستانسلافسكي في الواقعية النفسية .
ومن جهة أخرى فإنه يؤكد على أن ” صلاحيات المخرج في المشهد الشعبي غالباً ماتسبق صلاحيات الكاتب ، ذلك ان المخرج في أكثر الأحيان هو مؤلف المشهد وخالق نظام الأفعال الدرامية المعقدة فيه “(22).
ولا تعتمد فكرة بناء المشهد الشعبي على رغبات المخرج وطموحاته الإخراجية بل على العكس فإنها ترتبط بآليات ضرورية لتحقيق هذا النوع من المشاهد التي يفترض بها ان تكون مترابطة مع باقي مشاهد العرض الأساسية ،فضلا عن ذلك فإنها ترتبط بمراحل تدريب الممثلين عن طريق “خلق قصة حياة شخصيات المشهد الشعبي من قبل الممثلين أنفسهم ، والتعرف على عملية الحصاد وتكنيكه ، إجراء الدراسات (التجريبية) لإيجاد وتحقيق خط الفعل وحالة الإحساس الجسماني عملياً ، وكذلك استيعاب النص القليل الذي كان لدى البعض منهم “.
وقد ارتبط المشهد الشعبي على نحو خاص بمفهوم (الميزانسين ) أو كما هو معروف بالتشكيل الحركي ، الذي يتكون بالتفاعل بين عناصر العرض على خشبة المسرح ، فضلا عن وجود الممثل الذي يلعب دورا بارزا في تشكيل (الميزانسين)، إلا ان ذلك لا يمكن ان يتم ” بوجود ممثلين سلبيين إذ لابد من وجود الممثل المتحفز الذي يستطيع القيام بالفعل الدرامي بصورة هادفة وموجهة “(24) ، ويشير (بوبوف) إلى وجود فهم خاطئ لمفهوم الميزانسين الذي يتم التعبير عنه  “باصطلاح الوصل الذي يولد انطباعا بأن وضع الميزانسين هو فرع خاص من عمل المخرج لا يرتبط كثيراً بمجمل نشاطه “(25) وهذا بالتأكيد تعبير قاصر عن الميزانسين الذي يعد الوحدة الكلية التي تجمع عناصر العرض المسرحي  خالقاً نوعاً من الهارموني بين تلك العناصر التي يحركها الممثل من خلال التفاعل معها .
ويثير المؤلف موضوعا حيوياً طالما كنا نعتقد انه مرتبط بالمخرج (مايرهولد ) إلا ان (بوبوف) يهشم ذلك الاعتقاد من خلال ربطه بتجربة ستانسلافسكي ، الذي “يطلق على السرعة الإيقاعية الجاهزة والمشابهة بالنسبة للجميع اسم الشرطية، أي عندما يعيش كثرة من الناس ويقومون بالفعل الدرامي على خشبة المسرح في إيقاع واحد كصف من الجنود أو مثل راقصات (…) عند ذلك تكون سرعة إيقاعية شرطية، قوتها في حياة القطيع وفي التعود الميكانيكي العام “. 
إلا أننا نعتقد ان مفهوم ستانسلافسكي مغاير لما جاء به (مايرخولد) عن الشرطية ، على الرغم من ارتباط احدهما بالآخر عن طريق الميكانيكيا ، إلا أن مايرخولد عمل على المزاوجة بينها وبين مفهوم آخر هو (الأسبلة ) التي تعد من خصائص أسلوبه الإخراجي .
وتجدر الإشارة إلى أن المكتبة المسرحية لم تزل بها حاجة إلى دراسات حديثة للظاهرة المسرحية  وما يحدث فيها من متغيرات ، على مستويات متنوعة ، ذلك المسرح في العراق بات يدور في حلقة مفرغة من الدراسات التي لم  تعد تلقي بظلالها على خشبات المسارح العالمية.

 

 

صميم حسب الله

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *