«هستيريا» جهاد سعد.. العنف والميكانيكية معاً

 

 

 

تخلّى المخرج جهاد سعد، في عرضه المسرحي «هستيريا» (افتتح عروضه في 18 شباط 2014 على مسرح سعد الله ونوس) عن النص في صياغة مقترحه الفني الجديد الذي أراده هذه المرة عرضاً من بطولة الجسد؛ مراهناً على تسعة ممثلين توزعوا فضاء الخشبة كورشة مفتوحة على تمارين مادة «المختبر المسرحي» الذي برع فيها سعد على مدى سنوات طويلة؛ مُنتجاً صياغة مغايرة لمسرح قوامه ثنائيات «رجال نساء» يتراكضون من عمق المسرح نحو مقدمة الخشبة وفق صراع تتجلى فيه سمات الكارثة السورية لمجموعة من بشر تائهة في مكان وزمان المأساة، فمن خلال سينوغرافيا تكونت في «هستيريا» من متاريس رملية وبيانو وثُريا منزلية وجدران حديدية كتيمة، عاد «مسرح العنف» للظهور في الريبرتوار السوري المعاصر، وذلك عبر مشاهد جريئة للغاية قدمها ممثلو «سعد» بمهارة لافتة؛ مقتربين في كثير من الأحيان من طقسية أيروتيكية جعلت الجنس معادلاً أصلياً للقتل الدائر في الشوارع السورية، عناقات جسدية متكررة بين القاتل والقتيل، بين الضحية والجلاد؛ مساحة فعلية لإعادة تمثيل الجريمة؛ حيث فضّل مخرج العرض بطولة الحركة على الخضوع لنصٍ أدبي؛ دافعاً ممثليه نحو إنجازٍ مسرحيٍّ مفتوح على قدرات أداء متطورة؛ مزجت بعبقرية الواقع الراهن بمناخاته الفجائعية؛ والتي أرادها صاحب «أواكس» موازية لموسيقى ذات نبرة جنائزية أداها كل من الموسيقيين سيمون مريش – إيقاع وعرفان خليفة – ترومبيت وعبد الجواد حريتاني – تشيلو؛ فيما قام الفنان غيث منصور بأداء صوتي أوبرالي رافق العديد من المشاهد والذروات الدرامية في العرض؛ ليكون الجمهور أمام مستويات سيكولوجية مغايرة من التلقي لهذا النوع من الأعمال المسرحية؛ إذ اتبع صاحب «كاليغولا» مسارب مختلفة للخلاص من مسرح الشخصية، متناولاً لغة الجسد في إنجاز مشروع تخرج طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق؛ فالعرض الذي بدا إيقاعه محكماً نتيجة رسم حرفي لميزانسين خاطف؛ ترك المساحة مرةً أخرى لحواس الممثل وغرائزه وقدرته على اللعب الجماعي المفتوح مع الضوء والموسيقى؛ ليتنقل هذا الممثل بين أدوار متنوعة على الخشبة، باحثاً عن أدوات غير تقليدية لتجسيد الصراع المسرحي وتلوينه. من هنا برز أداء كل من «حسن دوبا، ورهام قصار، وريمي سرميني، وكنان حميدان وولاء العزام» جنباً إلى جنب مع كل من «مغيث صقر، ومهران نعمو، ومي السليم، وهلا بدير» لتقديم مشهدية صادمة تجلت في مماحكة جسدية التبست فيها مشاعر الكراهية والاغتصاب بالحب وشهوة القتل، عاكسةً مدينة تشهد مواجهة مفتوحة ولا نهائية بين شخصيات فقدت أملها بحياة طبيعية، شخصيات أمست نسخاً كربونية من مجازر يرتكبها القاتل على إيقاع موسيقى الراب، كأن مخرج العرض أراد فعلاً أن يصل بمقترحه إلى مزيج من مسرح غروتوفسكي وميرخولد معاً، العنف والميكانيكية في زمن واحد، معتمداً على إضاءة شاحبة جعلت ممثليه يبلغون درجة متقدمة من تراجيديا معاصرة أقرب إلى عصفورية وطنية غناء، اختلطت فيها الأدوار بشخصيات تتكلم بلهجات مصرية وحلبية وشامية في آنٍ واحد، كائنات شارع عربي متلاصق الجبهات والصفات وموحد في شاشاته ووعيه الجماعي بالمأساة، أجساد تتماهى في حركتها أمام بندقية القناص؛ حرب شوارع دائرة ولا تنتهي عكسها «هستيريا» ببراعة مقترباً من صراع الإخوة الأعداء، فلا بروفات تقليدية لإنجاز مسرحية اعتيادية تنهل من يوميات الدم وحسب، بل إصرار منقطع النظير لتقليد مناخات الحرب الدائرة من بناء لبناء ومن منزلٍ إلى منزل؛ لينهي «سعد» عرضه بجوقة من شموع يتلاشى لهيبها من خلف متاريس الرمل الرابضة في عمق الخشبة، مجترحاً نهاية أقرب إلى جناز شيع فيه بلاده الذاهبة إلى المجهول عن سبق إصرار وترصد.

سامر محمد اسماعيل

(دمشق)

 

سامر محمد اسماعيل

http://www.assafir.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *