قاسم السومري يستنطق سقم السياب ليمزجه بسقم العراق!

 

في مقاربة جمالية رائعة، استحضر المخرج المسرحي العراقي، قاسم السومري، الشاعر السياب، ومكابداته مع المرض والحب في حضرة (وفيقة) وشباكها في قصيدته الشهيرة، ليمازجه بوجع العراق وآلامه الممتدة منذ عشرات السنين.

تبدأ المسرحية التي عرضت الجمعة 28/2/2014 بمشهد استرجاعي مفترض ومعبر، يظهر فيه السياب وهو على سرير المرض، فيما تكون ممرضته (وفيقة) التي تجلس قبالة شباكها الذي يستقر الى جواره جسده المسجى في المستشفى، وقد أخذ يفيق على أصوات الحروب والموت والخراب، من حوله، بينما هي اثناء محاولتها تمريضه، واسعافه، تجلس بالانتظار وتحاول ان تنسج ثوبا للحياة وسط الخراب، وتطل بعد ذلك من شباكها على حياة اخرى، سيعيشها السياب، بحمولة رمزية تتجاوزه كشخص لتغدو محنة شعب، يقع تحت ويلات الآلام والمآسي التي شهدتها ارض العراق، لاسيما في العقود الاخيرة، لتبدأ رحلة فنية مشوقة، هيمن فيها الفضاء الصوري المعبر والمشفوع بحوار شعري، أعده المخرج عن قصائد تكاملت تعبيريا، لتنضج صورا متداخلة، وتعكس واقعا اراد له المخرج ان يختزل المشهد الحياتي في العراق، مستعينا باكثر من شاعر، تقدمهم السياب نفسه، اضافة الى الشعراء: سلمان داود محمد وصلاح حسن ونجاة عبدالله واديب كمال الدين ولوتر بامون، اضافة الى استثماره رواية الروائي والقاص العراقي مهدي عيسى الصقر (اشواق طائر الليل) التي صدرت في بغداد قبل نحو عشرين عاما، وتناولت محنة السياب في مرضه ووفاته في الكويت عام 1964 ليجعل من هذه التوليفة، متنا مسرحيا منسوجا بشكل ممتاز، ومعبرا عن مفردات العرض، بما يعطي لكل مفردة حقها في التناول، ما يعكس نباهة في الاعداد، الذي لم يتوقف عنده العرض وانما راح يجول بين ثنايا الواقع العراقي باستحضار ظروف الحروب والاحتلال وتداعياتها الانسانية، التي سيملأها العرض دراميا وسينوغرافيا بمشاهد أضفت على العرض هالة أخاذة واعطته بعدا تعبيريا جماليا، شد الحضور وخلق انسجاما في الحوار الذي جاء اغلبه شعرا، مقتطعا من قصائد منشورة سابقا للشعراء المشار اليهم، ومولّفا بما يجعله محاكيا للصورة التي اراد لها المخرج ان تكون هي المهيمنة على العرض، او مادته الاساسية ، فبدا العرض كما لو انه قصيدة واحدة استأثر بها المخرج لنفسه من خلال الاعداد الذي كان ذكيا ودقيقا في الاختيار والتوزيع ايضا.

الشيء الذي يشار اليه، هو ان المسرحية نأت عن الخطاب السياسي المباشر، على الرغم من انها تناولت موضوعة، هي بالضرورة اسقاط لفعل سياسي، حيث مر عليه العمل من الاعلى ولم يحرث فيه، وانما تناول تداعياته، تاركا المتبقي للمشاهد! وظلت تركز على مسألة اساسية هي، محنة انسان ووطن، عرف المخرج كيف يدخل اليها، اي من باب السياب وفضائه الشعري الواسع، بموازاة سيرته الحياتية التي اتسمت بالتراجيديا، على المستوى الشخصي (الانساني) المتمثل بمغامراته العاطفية الفاشلة، بما فيها حكايته مع وفيقه وموتها الفاجع، الذي يوظفه المخرج في النص المسرحي بطريقه مغايرة، وموقفه الواضح من قضايا وطنه، الذي ظل شعره ينضح به، كشاهد على عصره، ومن هذه البؤرة انطلقت المسرحية، لتحاكي موضوعتها الوطنية الراهنة، التي استنهضت قيما انسانية توزعت مدة العرض، لتطرح مقولتها برمزية عالية، وغير متمنعة على التلقي ايضا، اذ ان البطل (السياب) الذي يصحو في أول العرض ليجد نفسه مع الممرضة في المستشفى، تسأله الممرضة عن حاله، فيما هو شبه مشدوه يتلفت، وغير مصدق، فيطلق عبارة موحية (مشوش)! لنعود مع المخرج الى اسباب هذا (التشوش) الذي لم يعد يعيشه السياب وحده، بل بات سمة لحياة شعب، يبقى السياب حاضرا فيه وبينه كرمز وصوت بين اصوات غيره من الشعراء، الذين كتب بعضهم الشعر، لاسيما سلمان داود محمد ونجاة عبدالله وصلاح حسن واديب كمال الدين، في مرحلة الحرب والحصار على العراق، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وبعدها، اي محنة الاحتلال، التي قدمها العرض بمشهد من شارع عراقي بعد انفجار سيارة مفخخة، وحالة الفوضى التي تعصف به، بينما يكابد الجميع وسط الفوضى التي خلفها الانفجار بإزالة اثاره، لتبدا الحياة من جديد، بالرغم مما يعيشه الجميع من احساس يمازج بين الرغبة في الحياة والاحساس باللاجدوى، ازاء استمرار حالة الفوضى والانهيار الحياتي الذي يجعل الحياة مريضة.

لم يتردد المخرج في ان يملأ خشبة المسرح بالدخان الذي وصلنا الى المدرجات، مصاحبا لاصوات سيارات الاسعاف والاطفاء، ووسطهم شعب ينظف المكان ليعيد دورة الحياة من جديد.

وبعد ان نعيش مع ابطال المسرحية رحلتهم المضنية، تنتهي المسرحية بمشهد يحاكي المشهد (السيابي) الاول، لكن المريض الذي يتم ادخاله المستشفى هذه المرة، انسان آخر، وعلى نقالة شبيهة بنقالة السياب وقربه الممرضة، ولعلها وفيقة اخرى، تعيش معه وقربه محنة متجددة ومستمرة، يصحو عليها، وحين تسأله، كيف حاله، يتلفت ويقول بدهشة (مشوش)!! لتنتهي المسرحية!

ان توأمة الشعر والمسرح، ليست جديدة في حياة الفن العراقي، والمسرح تحديدا، اذ كثيرا ما تناول مخرجون قصائد عراقية وغير عراقية ومسرحوها، الا ان الزاوية التي تناول فيها المخرج قاسم السومري الشعر هذه المرة، تبدو جديدة، بالنسبة لي في الاقل، لانه اجهد نفسه كثيرا لينقب بين قصائد الشعراء كي يجد ما يناسب موضوعته، التي اختمرت في ذهنه كفكرة، ومن ثم كان عليه ان يجعل من هذا (الشتات) الشعري، مادة منسجمة داخل متن درامي، وهذه المرة باسم المخرج والمعد وليس باسماء الشعراء الذين زجهم في (مغامرته الجمالية) كما وصفها في (فولدر) العمل، ومن هنا فان مهمة الاعداد، كانت ثقيلة ومرهقة، لكنه خرج منها بنص سيبقى علامة مميزة في سيرته الفنية، او هكذا نعتقد، وان مسألة التوظيف التي سيتكفلها ويتحملها المخرج وحده، هي الاخرى صعبة، لان المشتري للسجادة، لا يعلم بالضرورة بمجمل الظروف التي عاشها النسّاج، وهو يجمع صوفه ويغزله بعيدا عن الانظار، ليجعل منه سلعة معروضة لبائع، قد يكون نزقا لو بطرا!

لقد نفذ كل من الفنان حاتم عودة، الاضاءة المسرحية (دراما تورج) فيما نفذ الفنان جبار جودي (السينوغرافيا) بنجاج واضح، واضفيا مسحة جمالية كبيرة، جاءت بمستوى العرض الذي كان اداء الممثلين، كل من نسرين عبدالرحمن وجاسم محمد وطه المشهداني وسلوى الخياط واحمد شوقي وعلي عماد وتيسير محمد ومحمد النقاش، رائعا فيه.

 

بقلم: عبدالامير المجر

http://www.middle-east-online.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *