«على الطريق»… مسرحية تختبر بقايا مدنيات دمشق

 

أحدثت الهزة المجتمعية في سورية اليوم صدمةً كان الشباب أول من تلقاها، ما دفعهم للبحث في بنية المجتمع السوري ومكوناته، والتحقق من مدى أصالة «المدنية» في هذا المجتمع الذي يكاد أن يتفسخ. وعلى اعتبار أنه فعل مديني، يبرز المسرح كأداة ثقافية تساهم في هذا البحث عبر أشكال مسرحية مختلفة ومتنوعة اختار منها المخرج الشاب وسيم الشرقي شكل القراءات المسرحية ليعرض فيها رؤيته المسرحية عبر القراءات المسرحية «على الطريق» (خشبة مسرح فواز الساجر – دمشق، إخراج وسيم الشرقي وأداء كامل نجمة ومجد فضة ونغم ناعسة، وتصميم إضاءة جاهان قطيش).

انطلاقاً من نصَي «خارج السيطرة» لوائل قدور، و«عتبة الألم لدى السيدة غادة» لعبد الله الكفري، قدم الشرقي توليفة يتلاقى فيها النصان عند مدينة دمشق، مصوراً مجموعة علاقات متشابكة يختبر من خلالها أصالة الشكل المديني الذي تكتسيه العاصمة، متخذاً من المشهد الأول من «خارج السيطرة» مُنطلَقاً يتجه منه نحو استثارة تساؤل مفاده «أما زالت مدينة دمشق على الطريق نحو المدنية أم أنها وصلت؟».

فـ «عزيز» الشاب القادم من القرية ليأخذ الثأر من أخته «عليا» التي تزوجت من غير دينها يواجه فور وصوله إلى العاصمة بمونولوغ طويل لسائق التاكسي يؤكد فيه على «فلتان بنات هالأيام». إن كلام السائق عن أولئك الفتيات بنظرته الدونية لهن، يشكل اللوحة الأولى التي يصطدم فيها عزيز مع دمشق، ما يكرس فعل الثأر عنده، إذ أصبح مدعماً برأي عام يَخرج من إطار قريته ليصل إلى العاصمة التي يخال المرء أنها أكثر انفتاحاً.

في المشهد الثاني وهو من «عتبة الألم» نجد أنفسنا أمام صورة لمدينة دمشق على المقلب الآخر، فيظهر من حوار «غادة» مع طبيب الأسنان «أنس» الذي يقيم عيادته في المبنى التي تقطنه، أن هناك خصوصية ما فرضتها حالة مدنية يمثلها عدم معرفة «أنس» أن مريضته تعلوه بثلاثة طوابق فقط، أنثى عزباء تسكن وحيدة ولا سلطة اجتماعية عليها. من هنا تتضح صورتان متناقضتان للمدينة، الأولى أهلية وأخرى مدنية، فما هي الصورة الأصيلة بينهما للعاصمة؟ هذا ما يجيب عنه العمل لاحقاً، إذ نجد في ما بعد، أن «عليا» التي هربت من أهلها وتزوجت من تحب وقطنت معه منطقة «مساكن برزة» تحمل الصورتين المتناقضتين للمدينة. فهي في الوقت ذاته تقطن مكاناً يظهر أن لا طابع أهلياً يجمع ناسه، بينما في الواقع يتستر خلف هذا الظاهر أصلٌ أهلي يتهددها بين الفينة والأخرى مخافة أن يشي إلى «أخيها عزيز» بمكان إقامتها، فتبقى عليا على امتداد العمل قلقة، كمن هو «على الطريق» ليس بمستقر ومطمئن لوضعه (الأهلي) ولا هو حاسم لوضعه الجديد (المدني)، ما يخلق عندها حالة توتر دائم لانكشاف أمرها.

في الجهة الأخرى لا يحقق الاستقرار (الشكلي) الذي تمنحه مدينة دمشق لغادة الحرية الكاملة، إذ لم يطاول هذا الشكل المديني المفاهيم السائدة حول «العنوسة» والشكل الخارجي للأنثى، ما جعل منه حالة مدنية مزيفة دفعت بغادة إلى أطباء التجميل بحثاً عن معنى مفقود في حياتها. فهي كسابقتها «على الطريق» متأرجحة بين شكل مديني ومفهوم أهلي بحت، وبذلك كانت دمشق برمتها تقف «على الطريق» بين «أهلية» متأصلة في الوعي، وبين «مدنية» هشة سرعان ما اختفت عند أول مفترق حقيقي تمر به المدينة، وهذا ما يختبره مَن سكن دمشق قبل 2011 وبقي فيها إلى يومنا هذا.

لم يعتد جمهور المسرح السوري على القراءات الممسرحة كنوع من أنواع الأداء في المسرح، ما جعل من هذه التجربة الشبابية – كل القائمين عليها شباب نصاً وإخراجاً وأداء – محاولة مندرجة في إطار التجديد الشاب الذي تشهده سورية، بالإضافة إلى المستوى المتقدم، بحيث يخرج الشرقي حادثة مكرورة «قتل امرأة تزوجت من غير دينها» من سياقها إلى سياق آخر يختبر فيه مع المشاهد، صورة دمشق الاجتماعية، ضابطاً التوليفة المسرحية التي كادت أن تفلت في منتصف العمل. ومدعاة ذلك اللغة التقريرية الفصحى التي كُتبت بها النصوص، هذه اللغة التي أجاد كامل نجمة ومجد فضة ونغم ناعسة تطويعها وتبييضها لتصبح متسقة مع موضوع المسرحة. وهذا ما أكده أداؤهم اللافت على رغم عري الفضاء المسرحي واكتفائهم بفعل القراءة وهو ما أشكل على المشاهد غير المعتاد على هذا النوع من الأداء المسرحي.

 

دمشق - علاء الدين العالم

http://alhayat.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *