يوسف العاني.. 70 شمعة تضيء أول صعود له على خشبة المسرح

 

بين 24 شباط / فبراير 1944، و24 شباط / فبراير 2014، تمتد مسافة 70 عاما، بأيامها ولياليها، وعناءاتها ومسراتها، بتأملاتها وانطلاقاتها، وشبابها وشيخوختها، هي عمر انسان بالطبع، لكن هذا التاريخ ليس عيد ميلاد لولادة على الارض او ما تسمى مسقط الرأس، ليكون مثار اهتمام او مدعاة للاحتفال، بل انه يوم اصبح علامة فارقة في حياة فنان فركزه ليكون فنارا لسفن حياته في بحر الفن ومن اصبح يوم عيد بالنسبة له.    في مثل يوم 24 شباط / فبراير من كل عام، ومنذ عشرات السنين، يقف الفنان العراقي الكبير يوسف العاني (مواليد 1927) متأملا تلك المسافات وشاعرا بالزهو، يمد يده الى ذلك اليوم ويلمسه بأطراف اصابعه فتتحرك اللقطات امام عينيه، ما اجملها، انها لحظات ولادته على خشبة المسرح، انه يفرح بتلك الذكرى مثل طفل يبتهج بقدوم العيد، لكن عيد العاني له طعم اخر ونكهو مختلفة، انه العيد الذي جعله ينمو ويترعرع فنانا نابضا بمحبة الفن، وظل طوال سنينه اللاحقة يهرع اليه كلما اطل برأسه ليتحف لبه على طريقته الخاصة بعد ان اتعبه المرض وكادت الشيخوخة ان تنال من صحته، لكنه يستمد عزيمته من تلك اللحظات، وهو ابن (17) عاما، يتذكرها جيدا فيقفز فرحا ويتقافز ليحاكيها فتمنحه عمرا جديدا، او كما قال لي ذات مرة: سر بقائي هو في يوم 24 شباط 2012، وحين سألته: (لماذا لم يحتفل بأول وقوف له امام كاميرا التلفزيون؟)، اجابني بقوله: (لان المسرح هو الاب والام للفنون جميعا)، وربما هو اول ممثل او فنان في العالم يحتفي بأول صعود له على خشبة المسرح، وينسى الاحتفال بعيد ميلاده الحقيقي.  يوسف العاني.. الان متواجدا في بغداد، عافاه الله من (الوعكة) الصحية التي الزمته سرير المرض لعدة ايام، انه يستعد للاحتفال بذكراه المقربة الى نفسه، ها هو يعيش عام الذكرى السبعين، اطال الله في عمره وعافاه. يقول العاني عن ذلك اليوم: هذا حدث لا انساه ما حييت، بل انه في ذاكرة العمر، وانا احتفل بهذه المناسبة كل عام، كنت عضوا في جمعية العلوم في الثانوية المركزية ببغداد، وحينها اقامت الجمعية حفلة في سياق النشاط الاجتماعي، في ذلك العام كنت قد كتبت تمثيلية لاحداث وقعت في (سوق حمادة) داخل مقهى (جايخانة)، كتبتها حسب قدراتي انذاك، وكنت اميل الى السخرية والفكاهة المرة والتي عرفت بعد سنوات انها تسمى (الكوميديا السوداء)، عرضت الفكرة على استاذ (العلوم) ان نقدم مسرحية، قال يسألني: حلوة؟، قلت: اعتقد، وبدأنا التمارين ووضعنا خشبة مسرح في القاعة وسلطنا الانارة على الخشبة وكنت انا المخرج ايضا حسب فهمي لمهمة الاخراج المتواضعة، وما ان بدأ العرض وتعالى التصفيق.. احسست انني احقق شيئا ذا قيمة، ضحك الطلبة والاساتذة ثم انصتوا وانا امثل مع اصدقاء لي، لكنني كنت صاحب الدور الاول في المسرحية وكنت اتمثل ممثلين احبهم فأحاول تقليدهم، وبالذات نجيب الريحاني، حتى انتهت المسرحية باعجاب كبير، لكن مدرس العلوم اشار الي ان الموضوع فيه تجاوز على سلطة الحكومة، فقد اظهرت الشرطي بحالة عنها قال المدرس: انها جريئة..، المهم ان تلك الليلة كانت من اسعد ليالي العمر، وظلت حافزا لي الى الان لافكر واطيل التفكير واقيس سعادتي تلك حين وقفت على خشبة مسرح حقيقي، والتي نقلتني بعد ذلك الى مراحل اخرى هي الجسر في ان اكون كما انا الان، وهذا يدعوني الى الاحتفال كل عام، كما يدعو بعض الاصدقاء الى الاحتفال كل بطريقته الخاصة مع الاعتزاز والتقدير ويسرد يوسف العاني تفاصيل ما جرى قائلا: كل التفاصيل ما زالت في بالي، في ذلك اليوم قدمت مسرحية بالطبع، ووقفت أول مرة على خشبة المسرح، لنص أنا كتبته، وهو نص ساذج بوقته، وأنا أخرجته، وكنت لا أعرف ما هو الإخراج، وكان عندي مجرد كلمات مثل: اقعد، قم، وحتى عندما كنت أمثل، كنت أقلد شخصية في السينما وليست موازية للشخصية التي مثلتها وهي (مجيد أبو الجايخانة / مجيد صاحب المقهى). وكانت فائدة كبيرة بالنسبة لي عندما انتهت المسرحية وصفق الناس وضحكوا، ناداني مدرس مادة (النبات)، وكان هو المشرف علينا، قال لي: يوسف.. ما الذي أردت أن تقوله بهذه التمثيلية؟ فقلت له: أستاذ.. هذه لا يسمونها تمثيلية، فالأستاذ سيد صادق الأعرجي يقول (مسرحية)، فلم يأبه لكنه قال لي: ماذا أردت أن تقول أنت؟ فقلت: كما رأيت، رجال شرطة دخلوا المقهى على أساس أنّ فيها أشخاصاً يلعبون القمار، وعندما شاهدوا الشرطة وقفوا وكأنهم يؤدون الصلاة، ولكن عندما خرج الشرطة أحد أفرادها انتبه فقال للعريف:إن الجماعة يصلّون في هذا الاتجاه بينما القبلة في الاتجاه الآخر! لكن (مجيد) الذي مثلت شخصيته أنا، سمع ما تحدثوا به، وعلى الفور استدار إلى القبلة، فدخل الشرطة ثانية فوجدوهم يصلّون باتجاه القبلة، فقلت: الله أكبر، وبما أن ورق القمار في (عبي)، فمع انحناءتي انزلقت الأوراق أمامي، فبدأ الشرطة يفاوضوننا ويريدون أن ندفع لهم ربع دينار وأنا أقول لهم: أعطيكم درهما، وبعد حديث من هنا وهناك قلت لهم: إذا أعطيكم ربع دينار، فللأكبر منك.. ماذا أعطي من فوق إلى تحت، ماذا أعطي؟! وإذا بالقاعة تصفق، وكان من ضمن الحضور الوزير الذي صفق، ولكن في اليوم التالي أرسل المدير منير القاضي في طلبي وقال لي: (بابا يوسف.. ليش هيج بابا)، نحن إذا عزمنا أحدا إلى بيتنا هل يجوز أن نشتمه؟ قلت له: لا، فقال: كيف يوم أمس قدمت المسرحية بهذا الشكل وتقول من فوق إلى تحت؟ فقلت له: نحن نقرأ في الدستور أن الملك غير مسؤول، فردّ عليّ: والا من المسؤول؟، في ذلك الوقت كان احد أفراد العائلة المالكة قد سكر بالليل وعمل انقلابا اسمه (علي الحجازي)، فاعتقلوه وألقوه في السجن، وكان هو مدير الشرطة العام، فقلت له: هذا علي الحجازي، فهل هذا يعتمد عليه؟ فهز رأسه وقال: بابا إن بعض الظن إثم، فطلعت من غرفته وكان جماعتي يعتقدون انه سيفصلني من المدرسة.

 

عبدالجبار العتابي

http://www.elaph.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *