تجربة في مسرح القنوط: 1 – كما لو لم يكن التمثيل حياة..

كان ذلك هو يقين الأنبياء الجدد للإسلام الراديكالي.. وكان هؤلاء الأنبياء الجدد وهم يسعون إلى التعبير الصارخ عن ألم الجموع وكآبتهم اليومية وعن يأسهم الكبير، الحارق يعدون بالفردوس الذي طالما حلم به الجزائريون يوم انخرط أبائهم في حرب مسلحة وجذرية ضد النظام

الكولونيالي.. كنت يومها في مفترق الطرق، أعيش في بواكير اللحظة الجديدة.. الغامضة، بين الرغبة في الاستمرار في حياة الصحافة وفي حياة المسرح.. لكن أين هو الركح؟!

 

توقفت عن التمثيل في بداية التسعينيات، وجدت نفسي وحيدا، وكل أعضاء فرقة كمال المسرحية التي أسستها في بداية الثمانينيات تفرقوا، أختار كل واحد طريقه، طريقا مختلفا، بعيدا عن حياة المسرح، وراحت وجوههم تزداد ابتعادا واختفاء مع ذلك الصخب الذي أعقب دخول الجزائر التعددية السياسية التي لازمتها شعبوية صاخبة وانقلاب جذري في المفاهيم والنظر وأساليب العيش والحياة.. أخذت الجزائر نبرة جديدة وألوانا أخرى غير ألوان السنوات التي تراجعت مع انهيار نظام الحزب الواحد في لحظة صادمة اتصفت بالعنف الجزئي وبموت اللغة القديمة في المجال السياسي وميلاد لحظة تكاد تكون أحادية ومصقولة بالثوب الديني السياسي الرنان في شعبويته والطاغي في انتشاره السريع، غير المتوقع من حيث عملية الهدم التي مارسها بجذرية وعفوية عتيدة لكل دلالات ذلك النظام العتيق المتحكم في البنية الثقافية والسلوكية التي طالت مدة سيادتها وهيمنتها.. “ما الذي يحدث لنا، ولبلادنا ولشعبنا؟”.. وراح أصحاب النوايا الطيبة والساذجة، يومها يتساءلون.. لم يكن ثمة من جواب واضح ودقيق.. لم يكن أحد يمتلك الجواب الجاهز، الرنان والمرضي للكثير من التائهين والضائعين وسط صخب تلك الأمواج المتلاطمة في بحر الجزائر الهائج. سوى الأنبياء الجدد للراديكيالية الإسلامية وكان جوابهم العودة إلى الإسلام بعد الضلالة الطويلة التي قادتنا على طريقها السلطة، ودولة الأفلان،  أي استبدال المرجعية الوطنية، الثورية القائمة على خلفية البيان التاريخي لنوفمبر بمرجعية جديدة، مطلقة، متسامية، هي مرجعية الدين، باعتبار كل الحق وكل الحقيقة التي لا يعلى عليهما.. كان ذلك يبدو وكأنه مسرحية جديدة يلتقي فيها التراجيدي بالكوميدي، التاريخي واللاتاريخي بالعبثي، البطولي العجائبي والغرائبي اللابطولي.. اتخذت حالات القلق كل أشكالها وألوانها.. بدأ الشارع أو الشوارع تدخل ركحا جديدا مليئا بالجنون والغضب والفوضى.. جزائر على أبواب الاختفاء من ساحة المسرح وبصدد تحولها إلى أطلال وجزائر أخرى تخرج من تحت السراديب فجأة حاملة لكل الصدمات والرنات الجديدة والجذرية للخطاب المتوحش… أقول الخطاب المتوحش؟! أجل متوحش في شبهه لذلك المخلوق البدائي القادم من عمق الأدغال إلى قلب المدينة المهزوزة، المضمحلة، المتآكلة والتي تعاني من وحشية التمزق الصارخ بينها وبين ذاتها وبين روحها وجسدها، وبين زمنها الحقيقي وزمنها الخيالي، وبين حقيقتها الراهنة وحقيقتها الغارقة في غابة الوهم الذي صنعته لنفسها طوال سنوات انتصار نشوة الاستقلال، وثمالة الإطاحة بزمن الرجل الكولونيالي والنيو كولونيالي والزمن الرجعي.. أجل المتوحش لتهديده الفاحش والضاج لنظام تلك الألفة التي توغلت في ثقافة الناس في عقولهم وأرواحهم وسلوكاتهم إلى درجة تحول هذه الألفة إلى غرابة عقيمة، قلقة، مضنية وعامرة بكافة الكآبات المفجرة لحالات من الغضب الهائج، الكافر بالقيم وبالتاريخ وبكل تلك الأساطير التي تلبست الوعي الجماعي وابتذلت الوعي الفردي.. كان الخطاب المتوحش يريد الإنهاء المطلق للفصل الطويل من قصة الاستقلال وحمولاته الإيديويولوجية والسياسية أساسا.. فصل مليء بالأكاذيب والجمل والشعارات التي فقدت ليس فقط فاعليتها ونجاعتها بل حياتها، وكل نبضات الحياة.. فصل أصبح مثل الفيلم المحترق.. مثل الجسد المتآكل الذي نخره الدود.. فصل لم يعد صالحا للقراءة.. فصل لابد أن يطوى.. لا يهم كيف يطوى.. المهم أن يطوى.. ويطوى بسرعة، حتى وإن كان الفصل لا يعرف أحدا، كيف سيكتب،.. لكنه سيكتب لأن يكون فصلا نقيضا.. فصل الخير المطلق ضد فعل الشر المطلق… ومن ذا الذي لا تغويه خيرية الفصل الجديد ضد شرية الفصل المهترىء؟!

كان ذلك هو يقين الأنبياء الجدد للإسلام الراديكالي.. وكان هؤلاء الأنبياء الجدد وهم يسعون إلى التعبير الصارخ عن ألم الجموع وكآبتهم اليومية وعن يأسهم الكبير، الحارق يعدون بالفردوس الذي طالما حلم به الجزائريون يوم انخرط أبائهم في حرب مسلحة وجذرية ضد النظام الكولونيالي.. كنت يومها في مفترق الطرق، أعيش في بواكير اللحظة الجديدة.. الغامضة، بين الرغبة في الاستمرار في حياة الصحافة وفي حياة المسرح.. لكن أين هو الركح؟!.، أين هو ذلك الفضاء الذي يوفر لي مستقبلي اليومي، الذي يوفر لي لقمة الحياة، والوفاق بين الراهن والحلم.. بين الحقيقية اليومية للعيش والحقيقة الجمالية والروحية.. لقد تفرق أعضاء الفرقة، وكل واحد عاد إلى مسقط رأسه، أو انغمس في الوظيفة وبالتالي في الحياة التي يصنع في ظلها مستقبله الفردي.. الشقة، الزواج، إنجاب الأولاد، وصناعة حياة جديدة لا تستطيع المغامرة في حياة المسرح أن توفرها.. كنا هواة، نمارس المسرح للتعبير عن أفكارنا، وعن تلك الرغبة الجديدة في التواصل جماليا مع الآخرين.. كانت فرقة “كمال أمزال”، ذات نشأة مؤقتة، ومرتبطة بظروف خاصة، أنشأناها صدفة، ثم تحولت هذه الصدفة إلى حقيقة مفتوحة الأبواب على مغامرة لم نكن ندري إلى أين متجهة بنا…

أحاول الآن، لملمة شذرات ميلاد مثل هذه الصدفة التي أعادتني إلى المغامرة المسرحية، كان ذلك في شهر نوفمبر من العام 1982… انتقلت من مدينتي سيدي بلعباس، ومن حي ڤومبيطا إلى الجزائر العاصمة بعد حصولي على شهادة البكالوريا لأواصل دراستي الجامعية بمعهد العلوم السياسية والإعلامية.. وحتى هذا الخيار كان صدفة.. صدفة تولد صدفة، ربما هي الحياة هكذا في جوهرها.. قد نخطط لشيء ويشاء لنا القدر شيئا آخر.. عندما كنت طالبا في ثانوية سيدي الحواس بسيدي بلعباس، كنت أحلم أن أكون أديبا أو فيلسوفا.. ربما لأنني كنت أكتب القصة القصيرة التي اهتديت إليها بفضل تشجيعات أستاذ اللغة العربية “القاضي الأحمر”، وهو رجل عميق النظر، شاكس الحياة وشاكسته، ابتلاها وابتلته، وعرف كل التجارب القاسية المليئة بالمجازفات والمخاطر التي صقلته وجعلت منه يمتلك فلسفة في الحياة تقوم على مواجهة المخاطر والذهاب إلى أقصاها بدل تجنبها وتحاشي تهديداتها.. كان لا يتجاوز سن الأربعين في المنتصف الثاني من السبعينيات.. كان متوسط القامة ذا وجه قمحي ونظرات حادة، وابتسامة مليئة بالسخرية المرة والمتعالية.. ولد في نفس مسقط رأس الراي الشيخة الريمتي ببلدة تسالة ذات التسمية الرومانية المحرفة “أسطاسليس” انتقل في الخمسينيات من بلدة تسالة وهي ضاحية تبعد عن مركز سيدي بلعباس بثلاثين كيلومترا إلى المغرب الأقصى حيث تجول ما بين مكناس وفاس وواصل تعليمه في جامع القرويين.. انتقل في نهاية حرب التحرير إلى جيش الحدود الغربية برتبة جندي وعشية الاستقلال اننتسب بحكم شهادته ومستواه العلمي إلى سلك التعليم، وتزوج بمعلمة من فاس.. كان “القاضي الأحمر” مولعا بارتداء الزي الكلاسيكي البسيط الذي كان يضفي عليه طابع التواضع المثير والمقلق مما كان يجعله في نظر زملائه من المدرسين وطلبته شبيها بشخصية سقراط.. كان معربا ولا يجيد اللغة الفرنسية إلا أنه كان يشجعنا على الإلمام باللغة الأجنبية الحية، كانت هذه اللغة الفرنسية أو الإسبانية أو الانجليزية أو الألمانية، وفي الوقت ذاته كان كثير الاطلاع على التراث العربي وعلى القصة العربية المعاصرة وعلى الآداب، الأجنبية خاصة الأدب الروائى الفرنسي الكلاسيكي والأدب الروسي.. كان مرة كل أسبوع يتلو أمامنا مقالات نقدية وأدبية من ملحق الشعب الثقافي.. وكان يثير أمامنا تساؤلات مزلزلة ومثيرة للقلق والشكوك.

أتذكر مرة، أنه أثار معنا قضية مشاركة الفتاة في حملة التطوع في الريف إلى جانب زميلها الطالب الجامعي بعيدا عن أهلها ورقابة المجتمع وما يمكن أن يحدث من حوادث أليمة، كأن تحمل من زميلها.. نظرنا إليه مشدوهين وعلامات الحيرة والارتباك والضحك المكبوت في وجوهنا، خاصة وأننا كنا في القسم مختلطين.. كان يريد أن يحفر في عقولنا، ويجلعنا نواجه كل تلك الأحكام والأفكار التي أخذناها واستقيناها بشكل تقليدي من محيطنا العائلي ومن جيراننا ودوائر حينا..فتعددت الإجابات والأفكار وردود الأفعال لينتهي بنا إلى أنه من الممكن أن ننظر إلى مثل تلك المسائل بعقولنا لا بقلوبنا وعواطفنا وبنظرتنا المنبثقة عن التقاليد البالية.. كان الأستاذ “القاضي الأحمر” رجلا حديثا، عرف كيف يفتح عيوننا على حداثة أصيلة، خلاقة، حيوية، دون طبول وقعقعة شعارات تتمسح بالإيديولوجيا، وهو إلى جانب كل هذا كان رجل فعل لا رجل كلام، رجل نهضة لا رجل تقليد، رجل عقل لا رجل خرافة، رجل علم وخيال لا رجل أوهام.. كان يعلمنا في حصة القراءة أن نقرأ بطريقة مستحدثة، تمثيلية تعتمد على الأداء الكلي من حيث تعابير الجسد والصوت.. وأذكر أني خضت أول تجربتي في القراءة التي فتحت أمامي باب عالم الأداء المسرحي بمقاطع من رواية مولود فرعون، المترجمة إلى العربية على يد المترجم الجزائري الكبير حنفي بن عيسى، كان القاضي الأحمر منفتحا على المسرح الإغريقي وعلى مسرح شكسبير ولطالما كان يحرضنا على مطالعة مسرحيات هذا الأخير مثل “هاملت” و«عطيل” ذات الطبعات الشعبية المصرية واللبنانية.. ولم يغير القاضي الأحمر من نظرته المتفائلة للحياة، وللجزائر التي كان يؤمن إيمانا عميقا أنها على عتبة وثبة حقيقية نحو الحداثة الإنسانية حتى عندما ابتلي بلحظة عصيبة وشديدة الإيلام في حياته العائلية.. لقد قررت زوجته التي أصبحت على رأس مؤسسة تعليمية أن تأخذ أبناءهما في غيابه إلى المغرب بعد تلك التداعيات التي انجرت عن التشنج الكبير بين مغرب الحسن الثاني وجزائر بومدين وقيام هواري بومدين بترحيل المغاربة المقيمين بالجزائر إلى المغرب، وكانت اللحظة في غاية التراجيديا عندما سفر جزائريون من أصول مغاربية لم يكونوا تحصلوا على الجنسية الجزائرية، بحيث تشت أفراد العائلة الواحدة.. عاد القاضي الأحمر فلم يجد سوى رسالة وداع.. وهكذ وجد القاضي الأحمر نفسه يعيش من جديد حياة العزوبية والوحدة القاسية.. وبعد سنوات طويلة التقيت بالأستاذ القاضي الأحمر، كان ذلك بعد أحداث أكتوبر 1988 في مقهى الاتحاد بسيدي بلعباس، أخبرني أنه غادر الجزائر والتحق بعائلته الصغيرة، ليقضي باقي حياته إلى جانب زوجته التي كان يحبها بعمق وقداسة بعد أن غادرها هي الأخرى أولادها إلى أوروبا ليشقوا حياتهم الجديدة، بعيدا عن سيدي بلعباس، ولكن أيضا بعيدا عن كازابلانكا..

إن الشخصية التي تكون قد جرتني إلى مغادرة سيدي بلعباس إلى العاصمة، هي شخصية قلبت جزءا من حياتي وأنا في مقتبل العمر رأسا على عقب.. هو الأستاذ كاظم العراقي. كان أستاذي في مادة الرياضيات.. يقطن بالشقة نفسها التي قضى بها بعض سنوات حياته بسيدي بلعباس، الشاعر العراقي الشيوعي سعدي يوسف.. درسني كاظم العراقي من العام 1976 إلى غاية العام 1979، أي طيلة الفترة الثانوية، كان لا يتجاوز الثلاثين، فارع القامة، ذا عينين عسليتين، وشعر حريري كثيف، يميل نحو الصفرة وشارب كثيف، وإيقاع موسيقي رنان في مخارج الكلمات التي كانت تنساب من فمه بشكل متدفق وفياض… كان أنيقا في لباسه ولم يكن يستغني عن ربطة العنق ذات الألوان الغامقة.. وكان كذلك لا يستغني عن المالبورو الأحمر واقتناء الخواتم الذهبية والساعة الفخمة والسلسلة الصفراء المتدلية حول العنق.. لم أكن لامعا في مادة الرياضيات، ولم أكن أدري أنه عاشق للشعر وملم بالثقافة والأدب الأجنبي المترجم إلى اللغة العربية.. وحدث ذات يوم أن قدمت محاولة في الشعر لأستاذي العراقي المنفي في سيدي بلعباس والهارب من بطش نظام صدام حسين لأنه كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي، فأعجب بها وشجعني على مواصلة كتابة الشعر.. وأذكر أنه عزمني على غذاء في يوم عطلة بمنزله المجاور لشقة كاظم العراقي بإقامة الباردو، وسط سيدي بلعباس.. ويومها أطرى كاظم على محاولتي الشعرية المتواضعة ونصحني بإرسالها إلى مجلة آمال المهتمة بأدب الشباب.. وبالفعل أخذت بنصيحة أستاذي في مادة الرياضيات، وما هي إلا أسابيع حتى قامت آمال بنشر القصيدة، والتي كان عنوانها “أغنية الإنسان” وهي في الحقيقة كانت متأثرة بلغتها ومسحتها الكئيبة بقصيدة من قصائد الشاعر الحداثي المبكر، والعملاق بدر شاكر السياب صاحب رائعة “أنشودة المطر”.

ومن يومها أغرقني كاظم العراقي بالمجلات العراقية مثل “الأقلام” و«ألف باء” و«الطليعة الأدبية” و«آفاق” لكن أيضا بالعشرات من القصص والروايات العربية والأجنبية والدواوين الشعرية والنصوص المسرحية لمحمد قاسم، أذكر منها “مخطوط بغداد الأزل بين الجد والهزل” إلى جانب ذلك عدد من الكتب ذات الطابع الفلسفي والإيديولوجي، سواء تعلق ذلك بإيديولوجيا القومية العربية وفلسفة البعث مثل “معركة المصير الواحد” و«في ذكرى النبي محمد” لميشيل عفلق و«الثورة العربية” لفؤاد الركابي و«الإيديولوجيا العربية” و«اليسار الجديد” و«الفاشية الجديدة” لإلياس فرح وكتابات فكرية أخرى لنديم البيطار وناجي علوش، والياس مرقص، ومنير شفيق، وعصمت سيف الدولة، وروجي غارودي، وهنري لوفيفر وانجلز وماركس.. علمني كاظم العراقي أن أقرأ بشراهة وبدون حدود، كنت أنتقل من المتنبي والمعري إلى بودلير ورامبو ومن البحتري وأبي تمام إلى بوالو وفيكتور هوغو ومن السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي إلى نيرودا وبيرس ومن فاضل العزاوي وحنامينا إلى عزرا باوند وبرنارد شو وناظم حكمت.. ثلاثة كانت زاخرة بالقراءات والاكتشاف والنقاشات والأسئلة الفضولية والتساؤلات المليئة بالحيرة الوجودية لكن كذلك ضاجة بالحياة، حياة اتسمت بالجدة والزلزال الداخلي العميق.. يومها انتقلت من حياتي المثالية الهادئة إلى حياة أخرى.. قادني كاظم العراقي إلى التعرف على جسد المرأة بعد تجربتي المثالية الأولى والمجنونة مع تجربة الحب الطوباوي والبريء وعلى تناول ولو باحتشام وخوف “العرق” المشروب الروحي الرهيب الذي يعرف آثاره المشارقة عموما، والعراقيون بوجه خاص.. وأيضا عرفني على عالم الموسيقى العراقية التراث الزاخر بالنفحة التراجيدية وعلى الإدمان على الشاي الأحمر.

كنت كل نهاية أسبوع أتمتع بتلك النقاشات الصاخبة بين العراقيين وكذلك الفلسطينيين في شقة كاظم العراقي، معظمعم كان من المنتسبين إلى حزب البعث العراقي.. كانوا أساتذة ومهندسين وأطباء..

تعرفت من خلال كاظم العراقي على حياة الحزب الشيوعي العراقي وعلى تجربة المنشقين، وكان كاظم وهو يقودني إلى عالم زاخر بالألوان ينوي أن يعرض علي الانضمام إلى حزب البعث وهو الذي لم يفاتحني بالأمر طيلة السنوات الثلاث إلا عندما حصلت على شهادة البكالوريا، فنصحني بالذهاب لمواصلة دراستي بألمانيا ضمن هيئة طلابية عربية تنتمي إلى حزب البعث.. لكن وقتها، كان الوقت قد فات.. صرت أكثر ميلا نحو اليسار والماركسية، وعندما صارحته أنني أريد الذهاب إلى الجزائر العاصمة لأواصل دراستي وأني أصبحت قريبا من الفكر الماركسي، نظر إلي بصمت عميق، وابتسم دون أن يقول شيئا.. شعرت وقتها أن لحظة جميلة هي على عتبة الانتهاء.. كنت مرتبكا، قلقا وحزينا ربما لأنني كنت أحب كاظم العراقي بعمق وصدق، وربما كنت غير قادر على التنكر لكل تلك الجهود التي بذلها اتجاهي ومن أجل أن أكون مثقفا، مؤمنا بالمثل العليا وبالقدرة على مواجهة النضال الثقافي في سبيل ميلاد إنسان ومجتمع جديدين في عالمنا العربي.. غادرت سيدي بلعباس، وأنا أشعر بالمرارة تملأ كياني.. شيء كالتأنيب كان يتردد صداه بداخلي.. لكنني كنت قد اخترت طريقا آخر بفضل كرم كاظم العراقي وهو طريق ويا للمفارقة متناقض مع الطريق الذي تمنى كاظم أن أسير عليه، وهو طريق القومية التي يقودها نظام حزب البعث؟!

لم أعد أر كاظم العراقي منذ أن جئت إلى العاصمة واندمجت في حياتها الثقافية والنضالية، بحيث أصبحت ملازما لكاتب ياسين وبعض نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية.

بعد سنة غادر كاظم العراقي سيدي بلعباس إلى بغداد وكان حديث الزواج بأستاذة من مدينتي.. ومثلما حدثني أحد الأساتذة العرب، الذي كان يتردد على شقة كاظم العراقي أنه كان فرحا وسعيدا بزواجه من بلعباسية، وكان متشوقا ليرى مولوده الجديد.. فلقد كانت زوجته العباسية حاملا عشية مرافقتها له إلى بغداد.. وكانت الحرب العراقية الإيرانية في بدايتها.. وكان الجنون الصدامي في أوجه.. عندما وصل الزوجان السعيدان إلى مطار بغداد.. تقدم أشخاص من الأمن العراقي نحو كاظم العراقي الذي لم ينشق عن حزبه.. ولم يسىء له بكلمة ليأمروه بأن يتبعهم.. تبعهم كاظم العراقي أمام حيرة وقلق زوجته الحامل.. دون أن يبدي أية مقاومة.. انتظرت زوجته أن يعود.، لكن كاظم اختفى ولم يعد.. واستمرت زوجته العباسية تنتظر عودته طيلة سنة طويلة، وهي في بيت أهله.. لكن كاظم اختفى وتحول الاختفاء إلى حزن وكآبة قاتلين.. كانت جريمة كاظم العراقي انتماء شقيقه الهارب من قبضة الأمن العراقي إلى حزب الدعوة الشيعي.. سقط صدام.. تغير الحكم في العراق.. تغير العراق والعراقيون، لكن كاظم العراقي لم يعد.. عادت زوجته إلى سيدي بلعباس رأت ابنته النور.. هي مثل والدتها في سيدي بلعباس تسعى من خلال حكايات أمها، ومن عرفوا والدها أن ترسم له صورة.. صورة أب لم تتمتع برؤية جماله ولم تتقد بحبه وأحلامه…

هكذا كانت التراجيديا، تراجيديا القاضي الأحمر وكاظم العراقي ترتسم أمامي وهي تغور في بنيان وعيي الذاتي وتتشكل في سراديب وجداني وتتوزع شذرات، صورا، لحظات، ألوانا، تعابير، أفكارا، أطيافا، حركات، رنات، تمفهمات وعوالم غارقة في تلك البحيرات الصامتة في أعماق الذاكرة التي تتلبسني وتعيد إنتاجي في خضم يعبوب الحياة اليومية المضطرب والهادر حينا… والساكن والراكد حينا آخر.. المسرح تراجيديا وفرح بالحياة وبالناس وبالأشياء الجميلة التي تسعد بتقاسمها مع الآخرين وبكل تلك اللحظات النابعة من حالات الفراق والفقدان واليتم والاستعادة المستحيلة للزمن الهارب منا ومن ذاته ذاتها.. المسرح ليس فقط مجرد لعبة تحدث بين ممثل ومتفرج.. بين عارض لجسد ومستهلك لحالة الجسد.. المسرح هو أن تذهب حيث يصعب أن يتحقق الذهاب دون لذة ومجازفة مشتركة.. لكن الذهاب إلى أين؟! إلى تلك النقطة التي نخرج منها كما لم نكن حتى وإن كنا غير واعين لجوهر ذلك التحول والانتقال في عملية الذهاب والإياب، من الذات وإلى الذات.. ذات الذات وذات العالم..

احميدة عياشي

http://www.djazairnews.info/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *