مسرحية “مراحيل” في مهرجان أربيل الدولي: العودة إلى الكهف في أنظمة “الربيع العربي”

لم تزل فكرة التأريخ حاضرة في العقل العربي ، على الرغم  من خطورة التعاطي مع ذلك الماضي وإعادة إنتاجه ،كما هو الحال مع فرضية العرض المسرحي (مراحيل) تأليف

(علي دب) سينوغرافيا وإخراج (حافظ خليفة) الذي قدم ضمن فعاليات مهرجان أربيل الدولي وحصل على جائزة الإخراج في المهرجان.وتكمن الخطورة في تشعباته وتفرعاته التي تدفع المشتغلين عليه إلى الالتزام بمضامينه الأيقونية إلا ان فريق (المراحيل) كان قادراً على الإطاحة بالمضامين التقليدية والعمل على الإفادة من المنطوق التاريخي في عرض مسرحي معاصر.

فقد اعتمد صانعو العرض على قصة أهل الكهف التي كانت للوهلة الأولى حاضرة في ذاكرتنا الجمعية، ويعود ذلك إلى ورود الحكاية في (القرآن الكريم) ، فضلا عن ذلك فإن السرديات العربية تناولت تلك الحكاية في أكثر من موضع، كما في مسرحية (أهل الكهف) للكاتب توفيق الحكيم .
إلا أن مؤلف (مراحيل ) لم يتكئ على معرفتنا القريبة بالحكاية، بل إنه لجأ إلى البحث في التأريخ عن أصولها  ومرجعياتها في الحضارة الإنسانية ، الأمر الذي منحه خيارات عدة في التعاطي مع الحكاية /الأسطورة، حتى بدا للمتلقي أن المؤلف قد أنتج حكاية عن أهل الكهف تنسجم مع الواقع العربي المعاصر، ذلك أن المؤلف عمل على تقديم (مونتاج) للحكايات وصولا إلى حكايته الخاصة بما حملت من رموز وإحالات امتزجت فيها هيمنة السلطة من جهة والمشاركة الاجتماعية من جهة أخرى، فضلا عن حضور فاعل للمرأة التي نعتقد أنها من إنتاجات المؤلف الذي أراد أن يكون لها وجودها المستقل داخل المجتمع بعيدا عن سلطة الرجل ، كما ان المؤلف اشتغل على تهشيم الكهف/المقدس والعمل على إنتاج كهوف متعددة المعنى ، وقد بدا واضحاً أن المؤلف ومن ورائه الإخراج لم يعمدا إلى تجسيد الكهف مادياً، بل اتجها  إلى التعاطي مع المفهوم الفلسفي لما يكون منغلقاً داخل الكهف ومنفتحاً على الآخر خارج الكهف ، إلا ان المخرج في اشتغالاته البصرية لم يركن إلى تلك الفكرة ، بل اكتفى بالإشارة إليها ، وسرعان ما عمل على الإطاحة بها من أجل التعاطي مع فكرة مغايرة تماماً ، كشف عنها  بعد رحلة طويلة  مع المنطوق السردي الذي بدا مترهلاً في مواضع عدة ،إلا أن المخرج سارع في معالجاته البصرية التي كانت أكثر فاعلية في تشكيل الرؤية الإخراجية ، وعلى الرغم من اختلاف الفكرة التي تعاطى معها العرض مع المنطوق الأسطوري للحكاية المتمثلة بأن يكون الكهف مكاناً  يلجأ إليه الهاربون على نحو اضطراري ، إلا أننا في (مراحيل) نكتشف أن أهل الكهف قرروا العودة إليه طوعاً بعد ان كانوا يختبئون فيه قسراً، على الرغم من أن هروبهم في الماضي كان بسبب اضطهاد القيصر الروماني ،واعتقادهم ان الحال قد تغير بعد سنوات عزلتهم الطويلة داخل الكهف ، إلا أن السلطة لم تزل تفرض هيمنتها على المجتمعات في الزمن الحاضر وتستفيد من أدوات القمع ذاتها التي كانت متوافرة في الزمن الماضي ، وتتستر تحت عباءة الدين كما فعل قياصرة روما كما هو حال رجال السلطة في مجتمعات “الربيع العربي”.

التنوع البصري في إنتاج الرؤية الإخراجية 
اعتمد المخرج في تشكيل رؤيته الإخراجية على قطع من القماش  كانت موزعة على خشبة المسرح ، حيث امتلكت كل منها تنويعات دلالية أسهمت في الكشف عن فرضيات العرض الفكرية والجمالية ، سواء على مستوى الشكل البصري أو الدلالي، المتمثل في الألوان التي كان اختيارها فاعلاً، أو الوظيفي الذي اعتمد فيه المخرج على قدرة الممثلين في التعامل مع قطع القماش التي كانت في بداية العرض تشير إلى الكهف حيث بدا واضحاً ان المخرج قد قسم خشبة المسرح إلى قسمين احدهما داخل الكهف والآخر خارجه ، ولكنها سرعان ما تحولت إلى جدران ساعدت في تخفي الشخصيات ، وفي مشاهد لاحقة عمل المخرج على تحويل تلك الجدران القماشية إلى مشانق للشخصيات في تشكيل جمالي  ، كما ان دلالة اللون الأحمر كانت حاضرة في مشاهد عدة، منها هروب الشخصيات من السلطة القمعية التي حولت الشوارع إلى أنهار من الدم، أفقدت أهل الكهف السكينة والأمان، وقد أسهمت الإضاءة في الاشتغال السينوغرافي وبخاصة في عملها مع الدخان الاصطناعي الذي كان ضرورة بصرية في العرض المسرحي ، لتكون بمجملها عناصر الإخراج البصرية ، التي باتت تشكل بمجملها أسلوبا في عمل المخرج ، كما هو الحال في عمله السابق (طواسين) مع الاختلاف في الوظيفة والتشكيل البصري عن العرض المسرحي (مراحيل). 

الأداء التمثيلي بين الانضباط والاحتراف
اختار المخرج العمل مع فريق من الممثلين الشباب الذين لم تتوافر لديهم تجربة سابقة في اختبار خشبة المسرح ، وربما يكون المتلقي غير معني بتلك الفكرة ،ذلك ان المناسبة التي قدم فيها العرض المسرحي هي مهرجان دولي بمعنى انه مهرجان (احترافي) على مستوى التمثيل والإخراج وجميع التقنيات الأخرى ، إلا ان ذلك لم يمنع من وجود تباين في الأداء التمثيلي ويقع التباين في اشتغال المخرج على ممثليه على نحو أساس ، ذلك ان المخرج لم يعمل مع ممثليه على تبني الشخصيات التي حملت كل واحدة منها ملفوظاً يختلف عن الأخرى ، فقد كان هناك (المعلم ، والشيخ ، والراعية ، والصائغ ، والنجار، والأبكم، والراهبة) على الرغم من تمييز بعضهم من خلال الأزياء التي كانت تحيلنا إلى شخصياتهم كما هو الحال مع شخصية (الشيخ) التي جسدها (علي قياد) الذي تفاعل مع الأزياء مستفيداً من قدرته الصوتية في تجسيد الشخصية.
إلا أن ذلك لم يكن حاضراً مع الشخصيات الأخرى التي لم تدخر جهداً في التعاطي مع الرؤية الإخراجية  والتشكيلات التي اعتمدها المخرج وبخاصة في المشاهد البصرية المتنوعة ، في حين نجد ان الأداء التمثيلي غير ممتلك لخصوصيته مع كل شخصية ، باستثناء شخصية (الأبكم) التي جسدها (محمد أمين قمعون) الذي أجاد في توظيف التعبير الجسدي بوصفه بديلاً عن المنطوق الصوتي ، إلا ان المساحة الأدائية التي أتاحها المخرج لتلك الشخصية لم تكن منسجمة مع القدرة التعبيرية التي كشف عنها الممثل على خشبة المسرح، في حين لم تكن هناك قدرة للممثلين على الإمساك بشخصياتهم التي كانت تتماهى مع بعضها لتكون شخصاً واحدا يعتمد على الملفوظ الحواري ، ويعود ذلك إلى رؤية المخرج في الكشف عن انسجام سكان الكهف وتبني سلوك موحد للشخصيات في العديد من المشاهد التي كان الممثلون فيها يقفون بخط مستقيم ويتبدلون الحوار في ما بينهم على التعاقب ، وقد أطاح ذلك بإيقاع المسرحية في مواضع عدة وبخاصة في المشاهد التي تعتمد الحوار اللفظي الذي اعتمد المؤلف فيه على اللغة المحلية التونسية،الأمر الذي صعّب من مهمة المتلقي في التواصل مع العرض.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *