أنتيغون، رؤية يابانية معاصرة لشرور العالم أفينيون – صبري حافظ

 

 

المصدر / ضفة ثالثة/ محمد سامي موقع الخشبة

ما زال مهرجان أفينيون مترعاً بالصخب والحيوية، رغم أنه يبدأ هذا العام عقده الثامن. فقد أسسه رينيه شار مع جان فيلار عام 1947 واستمر في النمو من دون توقف حتى الآن، حتى أصبح اليوم أحد أهم مهرجانات المسرح في العالم. فهو يتميز بسحر تلك المدينة التاريخية التي يزيد عمرها على ألف عام، والتي كانت كرسيًا للبابوية لأكثر من مائة عام، حينما كان البابا ظل الله على الأرض، وأعلى سلطة في أوروبا.

وطوال شهر يوليو/تموز من كل عام تتحول هذه المدينة التاريخية العريقة إلى فضاء مسرحي دائم. يعج كل ركن فيها، أي المدينة القديمة المسوّرة، بالمسرح، ويمتد في كثير من الأحيان إلى أطرافها. ويشهد عروض مهرجانها الرسمي وحده أكثر من 140 ألف مشاهد من جميع الأعمار، بدءًا من مسارح الأطفال بأنواعها حتى أرقى عروض مسرح الكبار القادمة من أشهر مسارح العالم. فمهرجان هذا العام حافل كالعادة بالعديد من العروض من مختلف بلدان العالم، من اليابان ونيوزيلندا في أقاصي الكرة الأرضية، حتى أبرز إضافات المسرح الأوروبي في حواضره الشهيرة. وقد اختار مهرجان هذا العام أن يجعل مسرح القارة الأفريقية السوداء ضيفه الخاص، بعدما اهتم في العام الماضي بالمسرح العربي ومسرح الشرق الأوسط.

 

والواقع أن العرض الذي افتتح مهرجان هذا العام، وفي أهم فضاءاته المسرحية قاطبة، أي ساحة الشرف بالقصر البابوي، وهو (أنتيغون) سيكون في اعتقادي أهم عروض هذا العام وأكثرها استحواذًا على الجدل والنقاش. فلم يتوقف الحديث عنه في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة منذ افتتاحه قبل أيام قليلة، وحتى مشاهدتي له، ولا أظن أنه سيتوقف. وقد جاء هذا العرض من اليابان، وبالتحديد من أحد أهم مراكزها المسرحية، وهو مركز شيزوكا لفنون العرض Shizuoka Performing Arts Centre الذي تأسس عام 1997، ويعد المركز الياباني الوحيد من نوعه الممول من الدولة، والذي تنفق عليه بسخاء كي يصبح قلب فنون المسرح المختلفة النابض في اليابان. وكي ينتج أفضل ما لديها في هذا المضمار، ويستقدم لها أفضل ما في جعبة هذا الفن في العالم. إذ يعقد المركز كل عام مهرجانًا للمسرح العالمي. وقد أدار هذا المركز المهم منذ إنشائه سوزوكي تاداشي Suzuki Tadashi، وهو أيضا من أعلام الإخراج والفكر المسرحي في اليابان، وذلك حتى عام 2007 إذ تولى بعده ساتوشي مياغي Satoshi Miyagi إدارته وحتى الآن. ومع أنني شاهدت عرضًا مدهشًا قبل سنوات طويلة لسوزوكي تاداشي جاء به إلى لندن لمسرحية يوربيديس الشهيرة (الطرواديات) أو نساء طروادة المهزومات، فإن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها عرضًا لخلفه، الذي أكد لي أنه خير خلف له، فعرضه لواحدة من روائع المسرح الأغريقي القديم أيضًا، لا يقل جمالاً وإدهاشًا عما قدمه عرض سلفه الذي ترك جمهور المسرح في لندن مذهولا من جماليات السبي والحزن والهزيمة.

 

وأنتيغون كما نعرف من كل من الأسطورة ومسرحية سوفوكليس المكتوبة حوالي 441 ق.م. هي ابنة أوديب من أمه جوكاستا، وهي شقيقة إسمين الجميلة، والأخوين التوأمين إتيوكليس وبولينيكيس. وحينما نفى أوديب بعدما فقأ عينيه، كانت هي التي صحبت أبيها كدليل له، ثم التحقت بها أختها إسمين بعد ذلك، ولم تعد أنتيغون إلى طيبة إلا بعد موت أبيها، وقد لعن ابنيه وتنبأ بأنهما سيقتلان بعضهما، ولم يترك لأي منهما سلطة الحكم من بعده. لكن طيبة، وبرعاية خالهما كريون شقيق الأم جوكاستا، قررت أن يتناوب الأخوان الحكم كل لمدة عام، وجاء دور إتيوكليس أولاً، وبعد انصرام العام رفض أن يتنازل عن العرش لأخيه، فاستعان بولينيكيس بما يعرف بالسبعة ضد طيبة، وتقاتل الأخوان فقتل كل منهما الآخر كما تنبأ أبوهما الضرير. وتولي كريون الحكم فقرر دفن جثة إتيوكليس بكل مراسيم الدفن والتوقير المعهودة، وحرمان بولينيكيس من الدفن، كي تبقى جثته نهشًا للديدان والطيور. لكن أنتيجون رفضت قرار خالها وتحدته، بينما أنصاعت إسمين الجميلة لتعاليم السلطة، وتقاعست عن مشاركة أختها في دفن أخيها. فدفنت أنتيجون وحدها أخاها تحت جنح الظلام، تحقيقًا لرغبة الآلهة، وللقانون الإنساني الأعلى من كل سلطان. فقرر الملك كريون حبسها حتى الموت، عقابًا لها على مخالفة أمره، رغم أن تريسياس حذره من غضب الآلهة لتصرفاته تلك فلم ينتصح. لكن أنتيجون السجينة فضلت الانتحار شنقًا، على الموت كمدًا، ولحق بها هايمون ابن كريون، بعدما رفض أبوه مساعيه للإفراج عنها، فقد كانت خطيبته.

ومن البداية لا بد من التأكيد على أن المخرج الياباني، ساتوشي مياجي (المولود عام 1959 والذي تخرج من جامعة طوكيو المرموقة حيث درس علم الاجتماع والفلسفة وعلم الجمال)، يعي أن سوفوكليس هو أكثر أعلام المسرح الإغريقي تفهمًا لسيكولوجيا النفس البشرية، وتغلغلاً في أغوارها الدفينة. ألم يتعلم فرويد من أولى مسرحيات هذه الثلاثية الكثير في صياغته لما نعرفه الآن بعقدة أوديب. وها هو دور ساتوشي مياجي ليتعلم أيضا الكثير من إصرار أنتيغون على تكريم أخيها. لذلك فإنه يريد من المشاهد أن يدرك من الوهلة الأولى أن (أنتيغون)، برغم من أنها من أقدم المسرحيات الأوروبية، ليست عملاً قديمًا، وإنما هي عمل صادر عن واقعنا المعاصر، وما يمور به من صراعات وتمزقات. فكل واحد من الفرقاء، في الحروب التي تمزق عالمنا، يعتقد أنه يحارب من أجل إعلاء كلمة الحق/ الرب، وأن من يحارب ضده لا يمثل إلا الشر والشيطان. وكل فريق لا يرضى بأقل من إزالة الآخر من الوجود، وفرض سلطته الكاملة عليه. تمامًا كما كان الأمر في مسرحية سوفوكليس. ليس هذا فحسب، ولكن هناك أيضًا ومنذ البدء تلك الرغبة الإنسانية الشريرة في تشويه المهزوم والتنكيل به. لا شيء كثيرا قد تغير فيما يبدو برغم مرور ألفي وخمسمئة عام تقريبًا.

 

في هذا الواقع السائد الموبوء، يريد ساتوشي مياجي أن يقول لنا إن ثمة طريقة مغايرة للتفكير في الآخر، ورؤية مختلفة للعالم، هي بالمناسبة منهج أفينيون في الفن والرؤية الإنسانية المفتوحة على السواء. فقد كان شعار المهرجان قبل عامين: “أنا الآخر” في مواجهة سيادة أنا ضد الآخر حتى الموت. رؤية جديدة لا تفصل بين البشر والآلهة، بين الأخيار والأشرار؛ رؤية تعي، وهنا يجيء الميراث الياباني البوذي، وتنويعات ديانة “الشنتو” اليابانية عليه، أن الخير والشر قد يكونان في الشخص الواحد، وأن لكل شخص قرينه الآخر الذي ينطوي على نقيضه في كثير من الأحيان، دون أن يلغي أحدهما الآخر. وهذا تنويع آخر على ما يدعوه أرسطو في (فن الشعر) بالخطأ التراجيدي، الذي يتمثل في مسرحية (أنتيغون) بإصرار كل من شخصيتيها الأساسيتين، أنتيغون وكريون، على أنهما على حق، حيث تمثل أولاهما إرادة الآلهة، وصوت الأعراف الإنسانية التي تحافظ على كرامة الإنسان بإهالة التراب عليه، بينما يمثل الآخر إرادة السلطة/ ونزعات الانتقام المتذرعة بالحق. وهو الإصرار الذي أصاب كريون خاصة بالصمم عن صوت العقل والبنوة وحتى عن نصائح العراف تريسياس، وتحذيراته التنبوئية بما سيحيق بأسرته من لعنات من جراء هذا الإصرار.

ولنعد الآن إلى عرض ساتوشي مياجي لتك المسرحية المهمة التي تؤكد في كل مرة أشاهدها فيها مدى ما فيها من ثراء لا ينضب كالكلاسيكيات الكبرى. فقد كانت المرة الأخيرة التي شاهدتها فيها في ترجمة جديدة للشاعر الإيرلندي الشهير توم بولين قبل سنوات، قادرة على تقديم إضاءاتها واستبصاراتها اللامعة حول القضية الأيرلندية وما يدور فيها في تلك الفترة. ومن البداية لا بد من التأكيد على أن تعامل كبار المخرجين مع كلاسيكيات المسرح العالمي ينطلق من احترام كامل للنص. وقد كان أمام المخرج أكثر من معالجة للأسطورة سواء في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو حتى الألمانية، لكنه آثر أن يعود إلى نص سوفوكليس وأن يحترم حبكته. ثم يستخدم لغته الإخراجية المتميزة في فصله عن أصوله الإغريقية، ومد جذوره في الوقت نفسه في ميراث المسرح الياباني العريق، وخاصة تقاليد مسرح “النو” بإيقاعها البطيء وتكراراتها المتعمدة.

 

هذا وقد أعد هذا العرض بدعوة من المهرجان، حيث سبق أن قدم فيه عام 2014 عرضًا لمسرحته لقسم من ملحمة (المهابهاراتا) الهندية الشهيرة، والتي آثر أن يعرضها في “محجر بولبون” القريب من آفينيون، والذي سبق وأن قدم فيه بيتر بروك عرضه الشهير لنفس الملحمة، فأدهش جمهور المهرجان بتأويله الذي يمزج تقاليد مسرح “النو” و”الكابوكي” اليابانيين. وكأنه أراد أن يعي المشاهد أنه يحاور بعرضه ذلك، وفي نفس المكان، ما قدمة أحد أهم مخرجي المسرح المعاصرين. فهو يريد لإنجازاته المسرحية بطابعها الياباني الخالص أن تدخل في حوار مستمر مع ما يدور في العالم من منجزات. وقد نجح عرضه ذاك في أن يصبح حديث المهرجان وقتها، مما حدا بالمهرجان إلى دعوته هذه المرة كي يقدم عرض الافتتاح في أهم فضاءاته قاطبة، وهي ساحة الشرف بالقصر البابوي، بحوائطها الصرحية وخشبة مسرحها الضخمة، وعدد المشاهدين الذي يبلغ ألفي مشاهد كل ليلة. فجاء هذا العام بعرض مبني لا على ملحمة آسيوية أخرى، وإنما على دراما مبنية على الأساطير الإغريقية، ألا وهي مسرحية (أنتيغون) لسوفوكليس، أكثر أعلام المسرح الإغريقي القديم اهتمامًا بدراما أعماق النفس البشرية.

والواقع أن ساتوشي مياجي ليس غريبًا على سوفوكل، أو حتى على (أنتيغون) فقد سبق أن قدم هذه المسرحية عام 2004 في متحف الفن الحديث في طوكيو قبل أن ينتقل بها إلى مدينة دلفي الشهيرة بعرافاتها في قلب اليونان، وبمناسبة الاحتفال بمرور 2500 عام على سوفوكليس. لكنه يخبرنا في برنامج العرض هذا العام أن تناوله السابق للمسرحية كان تأمليًا ومشغولاً بما يمور في أعماق النفس البشرية من نزعات داخلية. ولكنه يتعامل معها اليوم في سياق مختلف: سياق الدمار والتمزق الذي يسود العالم وروح الفرقة التي تسيطر عليه؛ وباعتبارها مسرحية لا تزال قادرة على أن تطرح أسئلتها المدببة على قضايا عالمنا المعاصر الملحة، وعلى تصوراتنا لمن هم الأصدقاء أو الحلفاء، ومن هم الأعداء، من هم في جانب الرب والنعيم، أيًا كان هذا الرب، ومن لا بد من دفعهم إلى الدرك الأسفل من الجحيم.

 

وحينما دعي للعرض في فضاء ساحة الشرف في القصر الباباوي، زار أفينيون من جديد العام الماضي وهو يبلور عرضه لمهرجان هذا العام، كي يستوحي منها استلهاماته. وتأمل الفضاء وتعرف على تواريخه المسيحية، ودوره في وضع بذور الصراع القديم بين المسيحية والإسلام، والذي لا يزال مستعرا حتى اليوم. فقد كان المكان الذي خرجت منه الحروب الصليبية قبل ما يقرب من ألف عام. وكانت هذه المعرفة هي التي دفعته لاختيار (أنتيغون) ليقدمها في هذا الموقع بالذات. فهي في رأيه القادرة على التعامل مع ميراث هذا الفضاء وإرثه المسيحي، قدرتها على التعامل مع ميراثه الفكري وتعاليم بوذا اليابانية. لأن إرثه الديني الياباني، على العكس من الديانات الإبراهيمية التوحيدية، لا يقسم العالم بين أخيار وأشرار، حيث للجميع فيه فضائلهم وأخطائهم، وحالاتهم البينية وتحولاتهم. وهو يعتقد كما يقول لنا في برنامج المسرحية، أن لدى اليابان بسبب هذه الرؤية المغايرة ما هو جدير بأن تطرحه على المشاهد الغربي، وما هو جدير بالتأمل والاهتمام.

وقد أعد عرضه وفي وعيه طبيعة الفضاء وتاريخه كمكان طرحت فيه الديانات التوحيدية سلطتها المطلقة، وتصورها الصارم عن حيازة الحق، والتصرف باسم الرب، منذ الحروب الصليبية القديمة، وحتى الحرب ضد الإرهاب الجديدة. وأن يطرح في هذا الفضاء نفسه تصورًا يابانيًا مغايرًا كلية لإطلاقية امتلاك الحقيقة. فهو يعتقد أن المنطلق الذي يصدر عنه المسرح الإغريقي شديد الاقتراب من التصور البوذي الياباني للعلاقة بين الإنسان والرب خارج إطار الديانات التوحيدية. وان تعدد تجليات الشخص الواحد والتي ينهض عليها مسرح “النو” الياباني تلائم كثيرا ما تنطوي عليه الدراما الإغريقية من رؤى واستبصارات، وما تصدر عنه من تعدد الآلهة في الأساطير الإغريقية. وأن رغبته في أن يري العالم أن هناك طريقة أخرى للتفكير والتصور غير تلك التي تتسم بالإطلاقيات والواقعة في شرك الثنائيات المتعارضة على الدوام، هي التي دفعته إلى اختيار (أنتيغون) وكأنما في مواجهة صارخة مع كل ما يمثله فضاء القصر البابوي من رؤى وتواريخ.

وتتجلى هذه المواجهة منذ اللحظة الأولى حيث ندخل إلى فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي الكبير، فنجد أن خشبة المسرح بمساحتها الضخمة التي يتجاوز طولها الأربعين مترًا، ولا يقل عمقها عن عشرين، قد تحولت إلى حوض من الماء، يضرب الهواء سطحه فتنعكس رجرجاته على حيطان القصر خلفها، وفق تقنيات الإضاءة التي تساهم في الإيهام بعمق الماء وإبراز تموجاته المستمرة. وهو الأمر الذي يتغيا التأكيد على أننا أمام واقع رجراج سائل لا صلابة فيه ولا إطلاقيات. وهناك ثمانية ممثلون في ملابس بيضاء يحمل كل منهم مصباحًا صغيرًا يخوضون في هذا الماء بخطوات بطيئة، فيها بطء إيقاع مسرح “النو”، وتشكيلات محسوبة حتى قبل بداية العرض، وأثناء توافد المشاهدين واحتلالهم لمقاعدهم. وقد تناثرت في فضاء الخشبة الواسع مجموعة من الأحجار الصخرية الضخمة التي يبلغ ارتفاع بعضها عدة أمتار ستكون هي كل إكسسوارات المشهد. فالعرض يختصر المشهد إلى الماء والحجر والبشر، أو بالأحرى يكثفه في تلك العناصر الثلاثة. وفي خلفية الخشبة لصق حيطان القصر البابوي الصرحية المهيبة التي يبلغ ارتفاعها 33 مترًا هناك مجموعة من أدوات العزف الموسيقية اليابانية. وما أن يُعلن عن بداية العرض حتى يفد عازفون بأدوات عزف يابانية، ومعهم مقدمة للعرض تحيي الجمهور بالفرنسية، وتقدم لهم المسرحية، ثم يغادرون الخشبة، أو بالأحرى يتراجعون إلى عمق المشهد، حيث يتواصل عزفهم طوال العرض، الذي يعتمد على الموسيقى الحية كعروض المسرح الجيدة. ويكون الممثلون الثمانية قد تضاعف عددهم أثناء تلك المقدمة وهم يواصلون دورانهم على الخشبة، وقد تحولوا الآن إلى كورس المسرحية الإغريقي.

ويتواصل العرض وفق حبكة مسرحية سوفوكليس المعروفة، لكن الفرق الأساسي هنا أننا ومع احترام المخرج للنص، بإزاء لغة إخراجية مغايرة تستخدم مزيجًا من تقنيات مسرح “النو” وشاعريته الطقسية البطيئة، وقد امتزج هنا لا بتقاليد مسرح “الكابوكي” وسرعة تحولاته الحركية، كما فعل في عرضه للمهابهاراتا الهندية، وإنما بتقاليد مسرح خيال الظل الإندونيسية، لا يستخدم عرائس “جافا” الشهيرة، وإنما ظلال الممثلين أنفسهم. وكان من أكثر مشاهد أدوار الظلال تأثيرًا ذلك الذي جسد العلاقة المتوترة بين أنتيغون وإسمين، حينما كانت كل منهما على مبعدة أمتار من الأخرى، ولكن أيديهما التي تمتد كل تجاه الأخرى، توشك أن تتلامس ظلالها على الحيطان الصرحية العالية. فالعرض لا يضع المشاهدين في جانب الظل، وإنما يلقي بظلال الشخصيات، وخاصة الشخصيتين الأساسيتين، أنتيغون وكريون، على حيطان القصر، بحيث يغطي ظل كل منهما ارتفاع حوائط القصر العالية كأشباح ضخمة تتحرك مع حركتهم معظم الوقت، وكأن كل ظل قرين في عملية التضعيف التي يعتمد عليها العرض، والتي تستمد أجروميتها المسرحية من تقاليد مسرح “النو” العريقة. وهو التضعيف الذي تواصل في أكثر من مشهد من مشاهد المسرحية، حينما نجد لبعض الأدوار ممثلين اثنين، الممثل الذي يلعب الدور بالمعنى التقليدي، وينطق كلمات الحوار، وآخر يمثل ظله، ليس دائمًا ملتصقًا به، ولكنه يمزق تلك العلاقة القديمة بين الكلمات والمشاعر والجسد المتحقق في المكان والزمان. فقد استخدم العرض 28 ممثل وممثلة وعازف، كانوا جميعًا باستثناء تريسياس في ملابس بيضاء، وكان بعضهم يقوم بأكثر من دور.  لكن المهم كان الحرص على التكوين الأوبرالي للمشهد والحركة على السواء، بالصورة التي تجهز على التماهي التقليدي مع الدور من ناحية، والتي جعلت المشاهدين يشعرون بأن الخشبة على وسعها ممتلئة بالناس والحركة من ناحية أخرى. فجماليات المشهد المسرحي في هذا العرض المتميز تسحق دراسة مستقلة لمن يريدون دروسًا في جماليات الإخراج المسرحي الذي يحيل الفضاء إلى فريسكو متحرك، مع الاحترام الكامل للنص الذي يخرجه. فنحن بإزاء مخرج درس بالفعل علم الجمال، ويعي أهمية الإيقاع الطقسي للعرض المسرحي، فهذا أمر من أرسخ تقاليد المسرح الياباني، ويدرك أهمية التشكيل الجمالي الحركي البصري للمشهد ويحيله إلى لغة لها مفرداتها الحركية المدروسة والمدهشة جماليًا. وقد أنهى العرض بقارب يشق عباب الماء على الخشبة ويتحرك عبرها ببطء، ثم تتحول حمولة قاربه التي كانت تبدو لأول وهلة وكأنها جثث موتى تلك الحروب في مسارها إلى العالم الآخر، إلى مصابيح يابانية كبيرة تترك مضاءة في نهاية العرض، علها تضيء لنا طريقا جديدا للتفكير في المسرح والحياة على السواء.

وما زال المهرجان في أيامه الأولى، وفي جعبته الكثير الذي سنعود له مع القراء.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *