«الرهيب بن الأغلب» يُسقِط أقنعة السياسيين في تونس

حين يمتزج الفن والسياسة بطريقة فيها الكثير من الذكاء والإبداع، نظفر حتماً بتوليفة بديعة تضمن متعة حسّية وفكرية، ونسعد بأوقات كوميدية بعيداً من هموم السياسة وأجوائها الجافة الكئيبة.

قد يكون هذا ما فكّر فيه المخرج التونسي منير العرقي، حين بدأ العمل على مسرحيته الجديدة وعنوانها «الرهيب ابن الأغلب»، بمشاركة ممثّلين محترفين ذوي خبرة عالية، فضلاً عن عدد من الشبّان الهوّاة، وبذلك كان الاحتكاك بين جيلين أو أكثر، وبين تجارب نضجت وأخرى في بداية مشوارها.

سبق للعرقي أن قدّم أعمالاً مسرحية جيّدة نالت إعجاب النقاد والجمهور وحصدت جوائز في مهرجانات دولية، لذلك فهو يسعى في عمله الجديد، لتأكيد قدرته على صنع مسرح مغاير يجمع بين الفكريّ والجمالي من دون السقوط في تجريب قد ينفّر المتلقّي من المسرح.

العمل مهم بكلّ المقاييس، من حيث النص الذي كُتب بعربية سليمة وسلسة، والعدد الكبير نسبيّاً للممثلين الذين جعلوا من المسرح كرنفالاً من الحركة، والذين أقنعوا في الأداء، خصوصاً على مستوى النطق أو الحركة. وتبرز أهمية المسرحية من خلال موضوعها، الذي يحاكي تماماً ما نعيشه اليوم في عدد من البلاد العربية، خصوصاً تونس، مع فارق في بعض الجزئيات، من تداخل بين السياسي والديني وارتداء أقنعة الدين للوصول إلى الحكم ومن ثمَّ الانقلاب تماماً وظهور الوجه الدمويّ المستبدّ والحاقد المنتقم.

التاريخ يعيد نفسه

تقدم مسرحية «الرهيب» فترة مهمة من تاريخ تونس الإسلامي، حيث الصراع على السلطة والنفوذ والجاه، وبطلها هو إبراهيم ابن الأغلب أو إبراهيم الثاني والذي بايعته حاشية القصر ووجهاء القيروان ليلة وفاة شقيقه أمير أفريقية «أبو الغرانيق» ليكون أميراً للبلاد، لكنّه في البداية يرفض أن يخون ابن شقيقه ويسلب منه الحكم، ليقبل بعد ذلك أمام إصرار الحاشية وإغراء الكرسيّ وسحره الذي لا يُقاوم.

وعلى رغم أنّه أبدى رفضاً للمنصب في أوّل الأمر، تحوّل بقدرة قادر من رجل دين ورع إلى حاكــم مــــستبدّ أباح دماء الرعيّة، وكان أول قراراته القبض على ابن شقيقه وسجنه اتقاء لشره.

من هنا تبدأ ملامح الحكاية تتوضّح، فسحر الكرسي والمنصب وما فيهما من جاه وسلطان ومال ونفوذ، غلبا ورع الرجل وخشيته من الله، وحوّله الجشع السياسي إلى مستبدّ ظالم لا يتورّع عن سحق كل ما يمكن أن يعطّل المسار الذي رسمه لحكمه أو ينغّص عليه سكينة عرشه.

طوّع منير العرقي النص ليكون عملاً مسرحياً لم يخلُ من استعراض لمهاراته كمخرج، مع إبراز قدرات هائلة لدى الممثّلين، والذين كان جلّهم من المحترفين، فضلاً عن وجوه جديدة لم تحدْ عن السياق العام للّعبة المسرحية، بل كانت لها إضافاتها الخاصة. نسق متسارع جعل المسرح أقرب إلى حلبة لسباق الخيل. حركات متشنّجة ومتسارعة من ابن الأغلب ربما هي إفراز طبيعي لتسارع الأفكار «التدميرية» التي تدور في رأسه من أجل ضمان البقاء والاستمرار على عرش القيروان. صعود ونزول وجريٌ هنا وهناك، وحاشيته خلفه في كل حركاته وسكناته على رغم أنه لا يَسْمَعُ لهم ولا يقبل النُّصح، بل قد يصل الأمر بأحد الناصحين إلى ضرب عنقه، فـ «الرهيب» لا يريد ما يقلق مسيرة مشروعه الدمويّ، حتى وصل به الأمر لقتل أقرب الناس إليه.

الممثل بشير الغرياني أبدع في تقديم شخصية مركبة، اعتمد فيها كثيراً على الحركة الهستيرية وعلى صوته بدرجات مختلفة وعلى تعابير وجهه، فكان الأداء مميّزاً لدرجة إقناع المتلقّي أنّه فعلاً إبراهيم بن الأغلب، فقد تلبّس الغرياني الشخصيةَ وانصهر في تفاصيلها من دون أن ينسى أنّه ممثل وأنّ عليه ممارسة ذلك السحر العجيب على المتلقّي ليجعله يتساءل ويبحث دون أن يجد إجابات مقنعة تبرّر القتل وسفك الدماء فقط بغاية السلطة.

أن يمثّل الرهيب واقعاً عربيّاً وتحديداً واقع تونس اليوم، فهو أمر منطقيّ جداً ومنتظر، نظراً لما يلفّ المرحلتين رغم التباعد الزمني الكبير بينهما من لعــب على أوتار المشاعر الدينية وارتداء أقنـــعة يلوّنها الورع والتقوى والخوف من الله، ولكنْ أيّ خوف هذا الذي يحلّل سفك الدماء والقتل المتواصل والإذلال والتفقير والتجويع؟

مارس ابن الأغلب لعبة الأقنعة لآخر لحظة، حتى حين تحوّلت القيروان إلى حمّام دم إثر صكّ الدراهم وتفاقم الفقر والغيلان الشعبي، إذ يبدو أنّه ككلّ المستبدّين أحسّ بأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، وأنّه الحاكم الواحد الأوحد، وأنّه الوحيد الذي يعلم ماذا يجب أن يحدث، ثمّ يدبّر ويقرّر وعلى الآخرين السمع والطاعة من دون جدال أو نقاش أو حتى محاولة الحوار وبيان مواضع الخطأ.

زمن قيروانيّ قديمٌ أسقطه الكاتب (عبد القادر اللطيفي) والمخرج في لعبة مسرحيّة، فكان عملاً يستمدّ شرعية حضوره ونجاحه من واقع تونسيّ بدأت تسقط فيه الأقنعة خصوصاً أقنعة المتستّرين بالدين من أجل النفاذ لكراسي الحكم والنفوذ ومراكز القرار.

نهاية العمل كانت مفتوحة ومشرعة على الموت، إذْ يبدو أنّ المخرج أراد بها فسح المجال أمام المتلقّي ليكمل كما يشاء ما قدّمه فريق العمل.

من الممثلين الذين شاركوا في العمل: البشير الغرياني، صلاح مصدق، جمال المداني، حليمة داود، فتحي ميلاد، فوزية ثابت، محمد الخريجي، الحبيب غزال، صابر جندوبي، عبير الصميدي، نورس شعبان وآخرون.

أمّا على مستوى الأزياء فكان المسرح أشبه بكرنفال من الألوان والأضواء، باعتماد الألوان الزهية المشرقة التي توحي بالتفاؤل والفرح رغم كمّ التشاؤم الذي لفّ كل تفاصيل العرض المسرحي، وهذه مكرمة أخرى تُضاف للعرقي ومن معه.

 

 

تونس – صالح سويسي

http://alhayat.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *