العود الأول.. مقال في البدايات لمسرح الحاضر (2)

حسنا .. الملاحظ هنا ومنذ أن استورد الرومان المسرح بعد اضمحلال الحضارة الإغريقية في هجمة همجية لم ندخل في تفاصيلها و حتى القرن التاسع عشر الميلادي كان

 

المسرح وتعاليم أرسطو في فن الدراما قد عمت العالم الأوروبي الذي نقول عنه أنهم أيضا  استوردوا المسرح من العود الأول لأنه كان ناضجا بمنهج أرسطوي , ولكن حين دخل المسرح لبلاد أوروبا هل توقف عند حدود التجربة الإغريقية الناضجة المنهج ؟ بالتأكيد لا , حيث ولأن المسرح فن الاكتشاف والاجتهاد والاستنباط أولا , ولأن المجتمعات تتأثر بنظرية الأواني المستطرقة طريقا للمعاصرة ومواكبة الكشوفات  , لذلك كان لكل مجتمع مسرحه وتجاربه ومؤلفيه وإشتغالاته الفنية والجمالية    فحينما  تشاهد عملا مسرحيا لشكسبير إنكلترا, أو لتشيخوف روسيا, أو لمولير فرنسا, أو لآرثر ميللر أمريكا تشعر أن بصمة لثقافة تلك الأمم وموروثها الجمعي يتجلى واضحا أمامك عقلا وإحساسا وهذا هو المقصود بالجنسية التي تحملها هذه الأعمال لأنها تحمل مجتمعاتها  سواء اشتغل مخرجوها متقيدين بالطراز الكلاسيكي أو الحداثوي.. لماذا؟ لأن المكتشف في فن المسرح وجمالياته يتوق لتنفيذ تفسيراته العقلية والتي اشتغل فيها على احترافية عالية الإبداع جعلته قادرا على هضم واستيعاب العود الأول ثم التحليق بمديات الكشف الفني والتعبير عن الأزمة التي تؤرقه في الوصول إلى وظيفة أخرى وروئ أخرى غير التي هضم حيثياتها , إنه في عملية تمثيل ليست جسدية جسمانية بل عقلية تعبيرية إبداعية , لذلك فهو لا يستنسخ أو يقلد بل يضيف ويبدع ويتسامى على المألوف الآتي من العود الأول. السؤال هو ..هل استطاع المسرح العراقي المستورد كبقية الأمم أن يحقق لنفسه هذا الحضور لكي نقايس فيه ما عمله الأولون وما سيعمله المجددون من أنساق؟ الجواب نعم ولا . واللا فيه أكثر من النعم .  
يشاع عند الذين يعملون في التجريب المسرحي تخوفهم من كلمة ( جنسية) أو بصمة في حين  أن الغرب عموما يفتخر بها ويبني عليها تجاربه وبحوثه ودراساته منطلقين من إنسانية التجربة نفسها على أساس أنها إضافة وتجديد وإبداع واكتشاف و ثورة على قاعدة الثابت لقاعدة المتحول بروئ ديالكتيكية تتغير لروئ جمالية أخرى. وهنا يبرز لنا مثال ” الشكل المغلق” و” الشكل المفتوح” في جوهر الدراما . في حقيقة الأمر أن النقاد الأوائل اعتمدوا مصطلح الشكل المغلق للدراما تعبيرا عن المنهج الكلاسيكي الذي بنى عليه أرسطو نظريته الدرامية , أما الشكل المفتوح هي الدراما التي لا تتحدد بحدود العود الأول الأرسطوي ومثالنا على هذا هو وجوب وجود ” الحكاية” عند المغلق والمفتوح معا. فنماذج الدراما اليونانية التي انطلقت من أسخيلوس وسوفوكليس ليوريبيدس وارستوفان كانت تحمل في جوهرها حكاية امعن أرسطو في تسليط أقوى أضواء التحليل المعرفي النقدي و التحليلي عليها ولكنها لم تغادر دراما القرن العشرين والواحد والعشرين بكل حداثويتها أو ما بعدها.
فلو راجعنا مفردة ” فعل” , نجده يعود أصلا لنسق الحكاية ..والحكاية هي بالأصل قصة إن كانت تعود للفورمه أو الشكل المفتوح أو المغلق . ولهذا نقول: أن لكل فعل في الحياة له قصة , والقصة مهما كان شكل بنائها لكنها تفصح عن قضية , والقضية حتى وإن ابتعدت عن نسق البداية والوسط والنهاية لكنها تطورت من فعلها المجدي فكريا أو الامجدي . وحقيقة اللامجدي يقودنا إلى معرفة أخرى وهي أن حال الفعل لم ينته بعد لأن أزمة الكائن في أفعاله لم تتوقف بعد .هذا إذا أخذنا الموقف الفكري المرتبط بين الداخل والخارج. وهنا نشير إلى أن الداخل هو ذات الفرد والخارج هو صدى المجتمع . فذات الفرد الذي بنيت عليها قصة وأفعال نظرية أرسطو تعكس صدى الذات ولا شيء أكثر من تعاملها مع أفعال الذوات الأخرى في بناء خطوطها الدرامية , ولكننا نجد في نسق الحكاية عند بريشت مثلا آخر هو  أن صدى المجتمع والطبقة العاملة في صراع مجتمعي وليس ذاتي  , ومع ذلك وبالرغم من اختلاف الاثنين في المعالجة لكن بريشت لم يتخل عن الحكاية دون تهميش أو إلغاء لحيثياتها التي تشكل روح المأساة والتي أكد عليها أرسطو حيث قال”  من ثم فالأفعال والقصة هي غاية التراجيديات , والغاية هي أعظم كل شيء.”. فن الشعر ص52. وفي معرض الحديث عن القصة ونعني الحكاية يعيد ارسطو التأكيد قائلا ” فالقصة إذن هي نواة التراجيديا , والتي تتنزل منها منزلة الروح, وتليها الأخلاق ” .فن الشعر ص 54 
لعلنا في طرحنا لنموذجين الأول ارسطو ونظريته والثاني بريشت وطريقته المسماة ” المسرح الملحمي” ولو اني أتحفظ على مفردة ملحمي وأرى أن مسرحه يمكن ان نصفه بمسرح الواقعية الاشتراكية التي تستمد نهجها من  المادي الديالكتيكي  الذي يتعلق بملحمة صراع الطبقات في المجتمع الذي  يمثل مظلومية واضطهاد البروليتاريا , لذلك أراد بريشت أن يصرح بفكرته او نظريته في التغريب الذي يبتعد فيها عن الاندماج الأرسطوي كي ينشر غسيل أو معاناة الإنسان عن طريق صراع العقل أكثر من صراع العواطف الذي يرصد بناء الحدث الدرامي ويحافظ على انساق الحكاية التي تتعامل مع مجتمع الطبقات بموقف فكري وبأنساق تعبوية البنية في دالتها عن طريق فورمات الفن وجماليته في مدلولها والعكس صحيح طالما ان رسالته في تناول حالة نعدها من حالات تقشير الاندماج بعقلانية وجدلية الواقع وتلك كانت شعيرة حداثوية في ترسيم حالة التغريب التي جاء بمصطلحها بريشت ولكنه التزم بالحكاية التي تمثل جذر الدرامات عموما حتى وإن تفرعت عروقها ومحاورها التي تحمل عبثية أو لا معقوله بين نص مقروء ونص معمول أو مفعل مسرحيا .و الفرق بين الملحمة والدراما أن الأولى تتعامل مع السرد أما الثانية فمع تفعيل الفعل وحركته , وهذا ما قدمته أعمال بريشت المسرحية في المواقف والشخوص والصراع الدرامي المغرب عن إندماجيته لا كشكل مغلق .بينما كان في اختلاف الصراع على أساس الموازنة بين العواطف مع العقل ويمكننا أن نسمي مسرحه بمسرح الجدل أو المسرح الدياليكتيكي , والواقع أن أفعال الدنيا تقوم على جدل الأفعال والأفكار سواء الدينية او العلمانية.. الاقتصادية والمجتمعية والسياسية.  وقد يكون ذلك فيه عودة ليس فقط لانتمائه لمظلومية الطبقة العاملة وصراع البروليتاريا مع البورجوازية والرأسمالية الأوروبية  ورفضه للحروب التي طحنت إنسانية الإنسان بل في اعتقادنا أيضا تعود لخلفية بريشت التعليمية والتي  قد تكون عاملا آخر فهو بالأصل وفي شبابه كان يدرس الطب حينما قطع دراسته وقادوه جنديا في الوحدات الطبية في الحرب العالمية الأولى, ثم بعد ذلك درس منهج الماركسية الذي منحه قوة في المعنى والهدف الذي قاده لمسرح سياسي ذو شكل مفتوح ومغاير عن نظرية أرسطو وهذا بالتأكيد كان فتحا جديدا في عالم المسرح الذي كسر فيه بريشت الوهم الدراماتيكي ليواجه الجمهور بواقعية الحياة وما تحمله السياسة والاقتصاد من أمراض مجتمعية على المشاهد أن ينظر لها بعقل تتغرب فيه العواطف الاندماجية المليئة بأوهام الشكل المغلق .خلاصة القول أننا نقول بالرغم من التغيير الجديد الذي جاء به بريشت نظرية وتطبيقا والذي عد عملا تعبويا 
كما دفع بيتر فايس , لكنه لم يتخل عن الفعل العضوي أو الأس الأهم في الدراما ألا وهو الحكاية فالحداثة هنا تتبع قراءة المخرج الذي يجد له مخرجا حداثويا برؤية عصرية بغض النظر عن عمر المخرج أو المخرجه بل قدرة إشتغال عقله في النظر لتحديث القديم الوارد في نص المخرج . ومن بريشت يكون الباب مفتوحا لمناقشة ما بعد بريشت حيث سندرس أهمية الحكاية في مسرح العبث والا معقول مع الوقوف عند محطة آرتو ومسرحه الذي يحمل قلقا منطلقه مرضه العقلي الذي يغيب أو يتجاهل من بعض النقاد  وصولا إلى أوكستو بوال في أجزاء قادمة والتي قد تكون قد غادرت الحداثة  بتقشير جدرانها وصولا لما بعدها كجزء من معطيات او مخرجات العصر سلفيا كان أم تكنلوجيا .

 

بقلم: د. عبدالمطلب السنيد

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *